د. نبيل رشاد سعيد*
تمهيد:
كان لعلم اللغة المعاصر أثر كبير على تصور (كلود ليفي شتراوس)(1) للتاريخ، لا سيما المنهج اللغوي الوصفي عنه (فرديناند دي سوسير)(2) الذي صب اهتمامه على «النسق» أو «البنية» اللغوية، فجعل دراسة اللغة من حيث تاريخها وتطورها أمرا ثانويا، فكان يرى بأن واجب علماء اللغة تأسيس علم ثابت أو قانون للغة، والتخلي عن دراسة قضايا اللغة وتجزئتها لمعرفة تاريخها، بل الصحيح هو دراسة اللغة بصورتها الراهنة.
لقد بذل ليفي شتراوس جهودا كبيرة ليثبت بأن الحوادث التاريخية تدور كلها ضمن النسق أو البناء اللغوي الذي ظل موجودا من ألوف السنين. وإن ما تريده جميع البنيات المناقضة للتاريخية ـ حسب جان بياجيه ـ هو وضع أسس ثابتة تشبه الأسس الرياضية التي لا تخضع للزمنية المتغيرة، وهذه الصفة وجدتها البنيوية(3) في اللغة.
استعان ليفي شتراوس بالمنهج اللغوي لـ (دي سوسير) الذي اعتبر اللغة فوق الواقع والتاريخ، فدرسها من حيث علاقتها بأساسها الاجتماعي. ونظر ليفي شتراوس إلى اللغة من حيث هي نتاج لمجتمعها، ولكنه مضى أبعد مما ذهب إليه دي سوسير، فقد استعان بالقوانين التي تتحدد بها اللغة المنطوقة، ليصل عن طريقها إلى أصل العادات والمعتقدات، بل أنه رأى ان أصل كل الظواهر الثقافية التي يتضمنها المجتمع من إبداع اللغة.
واللغة هي شبكة من “الرموز” لا قيمة لها الا من خلال علاقاتها بالعبارات أو الجمل الأخرى. فتصور ليفي شتراوس والبنيويون الآخرون بأن المجتمع يتكون بما يشبه الرموز أو العبارات اللغوية التي لا يمكن معرفة أجزائها الا بواسطة الشكل العام أو الإطار الكلي لذلك المجتمع. لهذا اتخذوا (الانموذج اللغوي) أساسا لمنهجهم لتطبيقه على العلوم الإنسانية كالانثروبولجيا وعلم الاجتماع والادب والتاريخ.. اقتداء بالعلوم الطبيعية التي استخدمت النسق أو التنظيم الرمزي الرياضي الذي يطاول الزمن، والذي مكن الكيمياء والفزياء والطب وغيرها من العلوم الطبيعية من صياغة القوانين الثابتة لموضوعاتها. وبدون هذا الإنموذج، لا يمكن تأسيس علم. فالبنيوية تبحث عن (علم ثابت دقيق). فهي تعتقد بأن عقل الإنسان واحد في جميع مراحل تاريخ البشر، والفارق بين الماضي والحاضر من حيث التطور هو توسيع أفكار اللاحق على السابق. فالبنيويون حريصون على إيجاد العلم الثابت، ولهذا فهم يؤكدون على ان حركتهم هي (منهج علمي) وليست فلسفة أو مذهبا، لأنها إذا كانت كذلك لتعددت مدارسها كما هو حاصل للوجودية والماركسية على سبيل المثال، ولهذا وجدنا الحركة البنيوية تبشر (بالمشروع العلمي) للعلوم الإنسانية على يد كلود ليفي شتراوسـ زعيم البنيوية.
ونستطيع أن نجمل أهداف كلود ليفي شتراوس بالنقاط التالية:
أولا: محاولة إيجاد علم دقيق للعلوم الإنسانية، يشبه نسق قوانين العلوم الطبيعية الثابتة نسبيا، واستعان في محاولة ذلك “باللغة”. وخلال دراسته الانثروبولوجية توصل إلى ان اللغة “ثابتة” بالرغم من تعاقب الأجيال، فهي الإطار الذي يفكر من خلاله الإنسان القديم والحديث، وبهذا وجد أن اللغة هي القانون الذي يفسر المجتمع وتاريخه متأثرا بـ (دي سوسير) الذي قال: “إن بين الأفراد كافة، أولئك الذين يربط اللسان بينهم، بهذا الشكل، نوعا من المعدل الوسطي إذ إنهم دون أي شكل يعيدون ويكررونـ ليس تماما وبالشكل نفسه، وانما بشكل تقريبيـ العلامات ذاتها مرتبطة بتصورات واحدة”(4).
ثانيا: حاول ليفي شتراوس أن يثبت أن التاريخ ساكن نسبيا، لأن العقل البشري واحد في جميع العصور، حيث إن كل عقل “مبرمج” (يشبه العقل الالكتروني) وليس هناك فرق جوهري بين العقل البدائي والعقل المتحضر.
ثالثا: الرد على النظرية القائلة بتقدم المجتمع البشري بصورة متدرجة من أدنى إلى أعلى، محاولا أن يثبت بأن التاريخ ثابت نسبيا، وأنه ليس متدرجا كالسلم في صعود مستمر، بل شبيه بحركة فرس الشطرنج.
العقل الإنساني واحد [ثابت]:
يرى ليفي شتراوس بأن العقل البشري واحد، وأن التفكير الأسطوري ليس تفكيرا سابقا على المنطق(5)، بل أنه تفكير منطقي، على المستوى المحسوس، يتضمن مقولات تجريبية مثل (النيء والمطبوخ، الطازج والفاسد… الخ) وهذه أدوات تصويرية تستخدم لاستخلاص أفكار مجردة، فالتفكير الوحشي يشكل مع التفكير المتحضر علاقات زمالة لا علاقات تدرج أو تفضيل.
حاول ليفي شتراوس أن يثبت أن عقل الإنسان واحد في كل مكان وزمان، وذلك عن طريق دراسته للاساطير المختلفة لقبائل الهنود الحمر بأمريكا الجنوبية، فوجد أن أنساق القرابة، كما في العادات والمعتقدات وفي الأنساب في جميع الأساطير”متشابهة”، وكلها رمزية. وعلى هذا لا يمكن دراسة انساق القرابة بالملاحظة التجريبية المباشرة وحدها، بل إن الدراسة السليمة تتم عن طريق مجموعة العلاقات الرمزية. هذه العلاقات الرمزية الموجودة في اللغات والثقافات متشابهة في الكيفية التي تقص بها المجتمعات القبلية أساطيرها. إن هذا التشابه يدل على أن العقل البشري واحد في أصل التفكير في جميع الأزمنة. فالمجتمعات القديمة تعبر عن أفكارها ومشاعرها عن طريق الأساطير باعتبارها رموزا ولغة، فلا يمكن فهم الأساطير الا باعتبارها “لغة” أو لغات رمزية، تمثل نظاما متسقا من المقابلات مثل (النيء والمطبوخ.. الخ) كما ذكرنا، فالأفكار القديمة هي نفسها تتولد في عقل الإنسان الحديث، ولكنها توسعت ونمت. فهناك بذور واحدة في عقل الإنسان، القديم والحديث، وكل ما يفعله الان هو انه ينمي تلك البذور القديمة ويوسعها بطريقة جديدة. ففكرة التطور البيولوجي عند (لوكريتس كار)(6)، وفكرة الذرة عند (ديمقريطس) عرفت قبل أكثر من ألفي عام تقريبا.
ولما كان العقل البشري واحدا، أصبح من الممكن عن طريق الإطار أو النسق العقلي تفسير جميع بنيات المجتمعات المختلفة. «إن كل تقدم يظل محتفظا بالنواة المركزية، مع إعادة تفسيره وفقا لمقتضيات العصر. وهكذا يمكن القول ان نوع التقدم الذي تعترف به البنيوية هو ذلك الذي يرى أن طريق المستقبل يمر بالماضي، وأن الوصول إلى الغد يتم من خلال مراجعة ما تم بالأمس. فإن البذور القديمة موجودة دائما، وكل ما نفعله هو أننا ننميها بطريقة جديدة»(7).
وهذا لا يعني بأن ليفي شتراوس لا يعترف بوجود اختلاف بين “التفكير القديم” أو “التفكير الوحشي” وبين “التفكير العلمي” أو “التفكير المتحضر”، إلا أنه يقول بأن هناك منطقا واحدا للتفكير الأسطوري والتفكير العلمي، فالإنسان قد فكر دائما بنفس القدر من القوة والإمعان، وليس هنالك اختلاف جوهري بين القدرة، إنما لكل منهما طبيعته الخاصة، وأن الاختلافات ثانوية، تعني الأنماط الظاهرية فقط.
وقد أخطأ المؤرخ الأوربي حين نظر إلى تاريخ الإنسانية مثل نظرته إلى التطور البيولوجي، فنظر إلى الثقافات على أساس التطور التدريجي.
إلا أن ليفي شتراوس رأى بأن الثقافات المختلفة تسير في اتجاه “موازٍ”(8) لثقافتنا المعاصرة، التي تبدو لنا تجميعية (تراكمية)، بينما الثقافات الأخرى جميعا سكونية (ثابتة)، وليست بالضرورة هي كذلك، ولكن لأن تطورها لا يعني شيئا بالنسبة لنا. فالثقافات “متوازية” ومتزامنة، “ليس مستبعدا أن الأنماط الأكثر تنوعا للبشر قد تعايشت في الزمن، إذا لم تكن قد تعايشت في المكان”(9) فمعرفة الإنسان لها جذور واحدة، وأفكار الإنسان القديم موازية لأفكار الإنسان المعاصر، مع فارق في نمو وتوسع أفكار الثاني.
هل أن مسار التاريخ متدرج؟
يهدف ليفي شتراوس إلى التخلي عن كثير من المفاهيم والمبادئ التي يعتبرها المفكرون الأوربيون حقائق يقينية أو مسلمات، كفكرة تطور التاريخ، وفكرة وحدة الإنسان والتاريخ، والتفكير العلمي. فقد نظر هؤلاء إلى التاريخ باعتباره “متدرجا” وفي تقدم دائم من أدنى إلى أعلى، والتفكير العلمي في رأيهم مرحلة متقدمة في مقابل “السحر والأسطورة”، ووحدوا كذلك بين الإنسان والتاريخ.
يقف ليفي شتراوس في كتابه “الفكر المتوحش” وهو اللفظ الذي يطلق على تفكير الإنسان البدائي، موقفا رافضا تقريبا للتاريخ، لا من حيث أن التاريخ دراسة الماضي أو دراسة الأحداث البشرية الماضية، بل من حيث هو “مقولة فلسفية كبرى” كانت لها أهمية عظيمة في القرن التاسع عشر.
إن نقد ليفي شتراوس لفكرة (التطور التاريخي) لا تعنى أنه يرفض العلوم المعاصرة، من أجل إنقاذ “الفكر المتوحش”، بل لديه ثقة مطلقة بما وصل إليه “العلم المعاصر” الذي أصبح قادرا على معرفة العالم بصورة واضحة. ولكنه ينتقد فلاسفة التاريخ والمفكرين الذين تحيزوا إلى “التاريخ” فوقعوا في الأوهام. إنه يرفض التصنيفات التقليدية للتطور أو التقدم في تاريخ الحضارات البشرية، التي تقول بأن التاريخ مطرد، وفي تقدم دائم نحو الأمام. وهذه هي فكرة أصحاب “المذهب التاريخي” الذي يهدف إلى معالجة العلوم الاجتماعية، والوصول إلى قوانين في إمكانها أن تتنبأ بالمستقبل أو ما يسمى “بالتنبؤ التاريخي”، هذا المذهب يدرس القوانين التي يسير التطور التاريخي وفقا لها. وكان لهذا التصور تأثير كبير على المجتمعات وسياساتها منذ هيرقليطس إلى أفلاطون وهيجل وماركس.
إن أصحاب “المذهب التاريخي” يعتقدون بأن البشرية في تقدم دائم، وفي صعود مستمر نحو الأمام، وهذا التقدم ناتج عن الاستفادة من الأخطاء، التي يتم التخلص منها على مر الزمن لتصل البشرية إلى مستوى أرفع وأرفع، وبموجب هذا الرأي، فإن البشرية قادرة على الوصول إلى الكمال. ويبدو أن الدافع لهذا التصور هو التأثر بالتطور الذي شهده الإنسان في الصناعة والعلوم الطبيعية في قوانينها. وعلى هذا، تصور فلاسفة التاريخ بأن الحضارات البشرية مرت في تطورها بمراحل متدرجة من البدائية إلى المتحضرة وسترتقي أكثر في المستقبل.. أوضح مثال على ذلك (التفسير الماركسي) للتاريخ، فالماركسية ترى بأن المجتمع الإنساني قد بدأ من المشاعية إلى العبودية، ثم الإقطاع، والبرجوازية وثم الرأسمالية وبعدها الاشتراكية، والشيوعية في نهاية المطاف. وكل مرحلة من مراحل المجتمع هي أرقى من سابقتها وأكثر تعقيدا ي تنظيمها، وهذا الرقي أو التطور نحو الأحسن “حتمي”، وفي التفسير الماركسي، وأنه يشمل الجنس البشري كله، وهو يحدث بسبب “الصراع بين الطبقات الاجتماعية”.
وفي هذا الصدد، نشير إلى رفض “كارل بوبر” للتفسير المتدرج للتاريخ على أساس أنه علم يساعد على التنبؤ بالمستقبل بقوله: “فالتاريخ الذي يريد التاريخيون اعتباره وعلم الاجتماع شيئا واحدا، لا يعود ببصره إلى الماضي فحسب، بل يلقي به أيضا إلى المستقبل، وعلم التاريخ بهذا المعنى يدرس القوى المؤثرة بوجه عام، وقوانين التطور الاجتماعي بوجه خاص”(10). فمن الصعوبة “إمكان قيام علم تاريخي اجتماعي يقابل علم الطبيعة النظري. ولا يمكن أن تقوم نظرية علمية في التطور التاريخي تصلح أن تكون أساسا للتنبؤ التاريخي”(11).
وما يشبه هذا، يعتقد “أشلي مونتاغيو” بأن العمليات التطورية لا تسير في خطوط مستقيمة، من الأدنى إلى ما هو أكثر تطورا، بقوله: “إن مفاهيمنا حول التقدم والتطور والنشوء تجعلنا نفترض تلقائيا أن ما تطور بعد غيره في الزمن لا بد لهذا السبب ان يكون أكثر تقدما ورقيا مما تطور قبله. ثم قادنا هذا إلى استنتاج منطقي هو أن ما كان أقل تطورا لا بد أنه جاء قبل ما هو أكثر تطورا، لذا كان الأقدم أكثر (بدائية) والأحداث أكثر (تقدماً)”(12).
يريد ليفي شتراوس أن يصل إلى أن فكرة التدرج في الترقي الحضاري في التاريخ ليست صحيحة، ما دام العقل الإنساني واحد في جميع العصور وفي جميع المجتمعات.
إن النظر إلى التاريخ على أنه متدرج لا يمكن تقريره بسهولة. صحيح أن العربات التي تدفع باليد أكثر بدائية من العربات التي تجرها الخيول، وهذه الأخيرة أكثر بدائية من السيارات، ولكن من الصعوبة تطبيق نفس السياق على الحضارات البشرية، أي ان ليفي شتراوس لا يوافق على التفسير القائل بأن المجتمعات التي توصف بالبدائية “متدنية” في تفكيرها ومن ثم ارتقت البشرية انطلاقا منها ثم ارتقت إلى ما هي عليه الآن، وبالرغم من أنه لا ينكر وجود مجتمعات بدائية: “المجتمعات البدائية موجودة بالتأكيد في التاريخ، وماضيها قديم قدم ماضينا، إذ إنه يرقى إلى أصول البشر. لقد تعرضت في أثناء آلاف السنين إلى جميع أنواع التحولات ومرت في عهود الأزمات والرخاء، وعرفت الحروب والهجرات والمغامرات. غير أنها تخصصت في سبيل غير السبل التي اخترناها. ربما بقيت، من بعض النواحي، قريبة من شروط العيش القديم جدا، وهذا لا ينفي أنها تبتعد عنا، من نواحي أخرى، أكثر منا”(13).
فالماضي ليس تخلفا، ولم تكن الشعوب في الماضي تمر بمرحلة “الطفولة”، إنما كانت ناضجة حضاريا، وإلا يصبح بإمكاننا أن نصف حضارة أوربا وأمريكا الراهنة بعد مرور قرن من الزمن ـ على سبيل المثال ـ تمر بمرحلة الطفولة. فلا يمكن أن نصف المجتمعات القديمة “بالوحشية” مقارنة بالمجتمعات المعاصرة، “فخلال عشرات وحتى مئات ألوف السنين، ثمة كذلك أناس أحبوا وكرهوا وتأملوا واخترعوا وقاتلوا. في الحقيقة، لا وجود للشعوب الطفلة، كل الشعوب راشدة، حتى تلك التي لم تكتب تاريخ طفولتها وفتوتها”(14). فلو رجعنا إلى الماضي لوجدنا “أن الأنظمة السياسية الكبرى في أفريقيا القديمة وانجازاتها القانونية، ونظرياتها الفلسفية التي خفيت طويلا على الغربيين، وفنونها التشكيلية وموسيقاها، التي تستكشف بطريقة منهجية، جميع الإمكانيات المتوفرة عبر كل وسيلة للتعبير، كلها دلائل على الماضي في غاية الخصب”(15).
ويقول ليفي شتراوس أيضا: “ومنذ ثلاثة عشر قرنا مضت، صاغ الإسلام نظرية تضامن من جميع أشكال الحياة الإنسانية، التقنية والاقتصادية والاجتماعية والروحية، التي لم يكتشفها الغرب إلا مؤخرا”(16).
لقد أسقط ليفي شتراوس من حسابه النظريات التقليدية عن تقدم المجتمعات الإنسانية، فالتاريخ عنده حاضر وآني، وهو ليس ماضيها فحسب، فالتاريخ ليس سلسلة أحداث في تقدم دائم. “التاريخ….. يعاد تأسيسه كلما حكيت الأسطورة أو استرجع الماضي. وبدل أن يكون التاريخ سلسلة من الأحداث (الموضوعية) المرتبطة بمرحلة أو مراحل معينة يغدو التاريخ حضورا آنيا من تفاعل الأبنية العقلية الذي يقع في (لحظة) بعينها. وما دام الماضي قد أصبح بعض الحاضر، على هذا النحو، يسقط ليفي شتراوس من حسابه النظريات التقليدية عن التقدم أو التطور”(17).
فالتفسيرات التقليدية تنظر إلى الحضارات على أنها متدرجة، فهي تبدأ بالمجتمعات المتوحشة (البدائية، كما يسميها الانثروبولوجيون) حتى وصلت بعد سلسلة من التطورات المطردة إلى الحضارة المعاصرة، فالشعوب التي تسمى (متوحشة) كانت قد قطعت مراحل حاسمة من التقدم. ولا شك فإن الأحداث التاريخية تختلف حسب العصور والمجتمعات، إلا ان بنية المجتمع (أي مجتمع) ثابتة مهما اختلفت الأحداث التاريخية، فالبنية لا زمانية، لأنها فوق التاريخ. وليفي شتراوس يحذر من خطأ التصور بأن “التقدم” جاء نتيجة تدرج في الزمان من أدنى إلى أعلى، لأن التقدم، في رأيه، يأتي بصورة “قفزات أو وثبات” تشبه قفزات أو وثبات حصان الشطرنج في حركاته، حيث أن قانون اللعبة يجعل حركته قابلة لعدة احتمالات أو اتجاهات، نحو التقدم أو الإخفاق والنكسات، أي ليس شرطا ان تكون الحركة في الاتجاه نفسه وكأن التقدم يسير بخط مستقيم: “إن الإنسانية في طريق تقدمها لا تشبه أبدا شخصا يصعد سلما، مضيفا بكل واحدة من حركاته درجة جديدة إلى كل الدرجات التي قطعها”(18).
وعلى أية حال، إن حركة التاريخ تقسم بالتقدم والإخفاق، فالتاريخ لا يتطور في اتجاه واحد ـ حسب ليفي شتراوس. وإذا ظهرت حركة التاريخ في زمن ما سكونية أو تراجعية، فإن ذلك لا يعني أنها لم تمر بتحولات ثقافية مهمة. وعلى هذا، فليس باستطاعة ليفي شتراوس رفض التاريخ تماما، فهو: “لا يرفض التاريخ رفضا كليا شاملا، كما أنه لا ينكر أن يكون من شأن كل مجتمع ان يتغير، لكن ما يريد وضعه وضع المناقشة إنما هو ـ على وجه التحديد ـ ذلك (الدور) الذي ينسبه المعاصرون للتاريخ”(19).
خاتمة:
وأخيرا يمكن التعقيب على نقطتين عند ليفي شتراوس تتضمن “موضوعية البنية” حيث ذكرنا أن البنية أو النسق اللغوي نتاج جمعي وليس للفرد فاعلية في تشكيله. أما النقطة الثانية، فإنها تتمثل بفقدان عنصر “الأمل” في المستقبل.
فنبدأ بالأولى: لقد تصور ليفي شتراوس البنيات أو الأنساق تصورا موضوعيا لا يجعل للإنسان فاعلية، في تقرير مصيره. فنستطيع ان نتصور “النسق” عبارة عن لوحة كتب عليها كل شيء، أو أن الإنسان “مبرمج” بأفكار واحدة من قديم الزمان، ولهذا يمكن النظر إلى النسق أو “البنية” باعتبارها “موضوعية” أي منفصلة عن ذات الإنسان، لأن الذي يقرر مصير الإنسان هو “النسق الاجتماعي”. فالبنية تتحكم في الإنسان وهو لا يتحكم فيها.”ان تصوير الأنساق أو البناءات كما لو كانت تؤثر وتمارس فعلها وحدها دون ان يكون للإنسان دور فيها، أعني الميل إلى جعل الإنسان” مفعولا “لا” فاعلا “يعبر عن نزوع إلى السلبية وقبول الأمر الواقع”(20).
أما الثانية: فإن الحركة البنيوية لا تعطي عنصر”أمل” للمستقبل، لأن أحداث الماضي، في رأيهم، تقص مرارا وتكرارا في الحاضر. وعلى هذا فإنها لا تبشر بعهد جديد للبشرية. وهذا شرط أساسي لقبول أية حركة فكرية، حسب رأينا. فالتاريخ في نظر ليفي شتراوس ساكن نسبيا، لأن ما يظهر من فكر لدى الإنسان، بل ما سوف يتم الكشف عنه، موجود، من آلاف السنين، في البينة الاجتماعية. فالتاريخ يعيد نفسه مرارا وتكرارا مع بعض التغيرات الظاهرية.
وما تقدم من نقد لا ينفي المكانة المؤثرة للبنيوية في جميع مجالات الفكر باعتبارها حركة لم يكتمل تصورها الفكري ولم تثبت علميتها لحد الآن.
الهوامش
ــــــ
(*) أستاذ مساعد/ جامعة بغداد.
(1) كلود ليفي شتراوس: ولد سنة 1908، انثروبولوجي فرنسي، أبرز ممثلي البنيوية، من مؤلفاته: (المدارات الحزينة) و(الانثروبولوجيا البنيوية).
(2) فرديناند دي سوسير: (1857-1913)، عالم لغوي سويسري. يعد مؤسس علم اللغة الحديث. اهتم بدراسة اللغات الهندية الاوربية. قال بأن اللغة ظاهرة اجتماعية. أشهر آثاره (محاضرات في الألسنية العامة). كان لأبحاثه اثر بعيد في تكوين المدرسة البنيوية.
(3) البنيوية: هي محاولة علمية منهجية في مجال الانثروبولوجيا بصفة خاصة، والعلوم الإنسانية بصفة عامة. والبنية هي تنظيم أو مجموعة العلاقات الباطنية المكونة لموضوع من الموضوعات. فبنية المجتمع هي شبكة العلاقات والروابط بين الأفراد والجماعات كالزواج والقرابة أو صلات الرحم والعلاقات الاجتماعية الأخرى. وهذه العلاقات تدخل ضمن قوانين عامة أو اطار أو نموذج يمكن بواسطته الاستدلال على تلك العلاقات أو الصلات بين الأجزاء. ولا بد من الإشارة هنا إلى ان البنيوية، بصفة عامة، قد تركت أثرا كبيرا في نواحي المعرفة، في اللغة، وعلم النفس، وعلم الاجتماع، والأدب، والتاريخ.. وبالرغم من عدم ظهور البنيوية على صورة أبنية عقلية كلية، لكنها أعطت إلهاما لظهور أفكار أخرى. وبالرغم من قلة الاهتمام بالبنيوية هذه الأيام، إلا أنه سوف يأتي اليوم الذي سيظهر فيه المفكر الذي يكمل الطريق الذي بدأه البنيويون. وقد يحقق الآمال التي لم يحققوها. ولو ان بعض نقاد البنيوية يرى بأن قدرتها على إيجاد”علم”للعلوم الإنسانية، يعتبر هدفا من قبيل الأهداف المستحيلة. ولا شك أن طريق البنيويين لم يكن سهلا، فقد كان الخلاف فيما بين روادها أنفسهم واضحا. ويبدو أن من الأسباب الرئيسة للخلاف هو أن الطريق الذي سلكوه للوصول إلى أنساق كلية بواسطة علم اللغة، طريق معقد وصعب. ولهذا فقد مر المنهج البنيوي بعمليات تغيير مستمر، جعل من الصعوبة على البنيويين ان يصلوا إلى مقصدهم، أي الوصول إلى منهج علمي عام للمعرفة في العلوم الإنسانية.
قد يقال ان البنيوية ماتت، ولكن الحقيقة هي ان الضجة حولها قد خمدت. فالبنيوية موجودة قبل ظهورها على يد كلود ليفي شتراوس، وقبل ان يبشر بها باعتبارها “منهجا”، فهي موجود في “اللغة” موجودة أصلا في العلوم الطبيعية أي الأنساق الرياضية للقوانين العلمية. لهذا أصبح من الصعوبة الكلام عن موت البنيوية.
(4) فرديناند دي سوسير، محاضرات في الألسنية العامة، ترجمة يوسف غازي، ومجيد نصر، دار نعمان للثقافة، بيروت، 1984، ص4.
(5) ما قبل المنطق: وضع هذا المصطلح”ليفي بريل”(1857-1939) عالم الاجتماع الفرنسي. ويعني به ان البدائيين لا يفكرون بطريقة منطقية، فلا يربطون في تفكيرهم بين الشيء ونقيضه. لذلك اعتبر هذا النوع من التفكير سابقا على تفكيرنا المنطقي. أما كلود ليفي شتراوس فقد رفض هذا التفسير، فهو يرى ان البدائيين عرفوا الأشياء وأضدادها، فميزوا بين الحار والبارد، والنيء والمطبوخ.
(6) لوكريتس كار: (99-55 ق م)، فيلسوف مادي روماني، لديه قصيدة شعرية فلسفية تتضمن فكرة التطور البيولوجي عنوانها (في طبيعة الأشياء).
(7) د. فؤاد زكريا، الجذور الفلسفية للبنائية، الطبعة الثانية، دار قرطبة للطباعة والنشر، الدار البيضاء، المغرب، 1986، ص14-15.
(8) الثقافات المتوازية: تعني فكرة”التوازي”عند ليفي شتراوس، بأن تصورات الإنسان لا تتطور بصورة تدريجية من فكر بدائي”ساذج”إلى فكر علمي واع. إن أساس تفكير الإنسان واحد، البدائي والحديث، فليس هناك تصورات عقلية قبل منطقية، أو ما يسميه بعض علماء الاجتماع”الصور الدنيا للشرح”، بل هناك توازيات في التصورات، نقاط تلاق، أن ليس من تصور قديم قد تم تخطيه وتصور حديث ثبت صدقه.. ان رأي البنيوية هذا من شأنه ان يزعزع فكرة تاريخ الإنسانية.
(9) كلود ليفي شتراوس، العرق والتاريخ، ترجمة سليم حداد، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1982، ص27.
(10) كارل بوبر، عقم الملعب التاريخي (دراسة في مناهج العلوم الاجتماعية)، ترجمة عبد الحميد صبرة، منشأة المعارف، الإسكندرية، مصر، 1959، ص60.
(11) نفس المصدر، ص6.
(12) اشلي مونتاغيو، المغالطة في مصطلح”بدائي”، كتاب (البدائية)، ترجمة محمد عصفور، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، 1982، ص12.
(13) كلود ليفي شتراوس، الانثروبولوجيا البنيوية، ترجمة د. مصطفى صالح، الجزء الثاني، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق، 1983، ص45-46.
(14) كلود ليفي شتراوس، العرق والتاريخ، ص3.
(15) نفس المصدر، ص37.
(16) نفس المصدر، ص35.
(17) اديث كيروزيل، عصر البنيوية (من ليفي شتراوس إلى فوكو)، ترجمة جابر عصفور، الطبعة الثانية، الدار البيضاء، المغرب، 1986، ص35.
(18) كلود ليفي شتراوس، العرق والتاريخ، ص28.
(19) د. زكريا إبراهيم، مشكلة البنية أو (اضواء على”البنيوية”)، مكتبة مصر، القاهرة، ص107.
(20) د. فؤاد زكريا، الجذور الفلسفية للبنائية، ص60.