موقع أرنتروبوس

من الميسر الجاهلي إلى الزكاة الإسلامية: كتاب يستحقّ التأمل

salem

من الميسر الجاهلي إلى الزكاة الإسلامية: كتاب يستحقّ التأمل

بقلم: وليد عبد الحيّ

كتابه الصادر عام 2014 تحت عنوان ” من الميسر الجاهلي إلى الزكاة الإسلامية: قراءة إناسية في نشأة الدولة الإسلامية الأولى” يناقش محمد الحاج سالم موضوعه ضمن دراسة في الأنثروبولوجيا وبخاصة السياسية منها (لاسيما إذا اعتمدنا هدف الدراسة وهو تفسير نشوء الدولة الإسلامية الأولى)، وتكمن أهميتها في أنها تعيد النظر في ظاهرة عرفها المجتمع الجاهلي، وهي ظاهرة الميسر، ورغم أن الأدبيات والتقاليد جرت في هذا الموضوع على النظر للميسر على أنه “قمار”، فإن البحث يحاول أن يهدم هذه الفكرة، ويرى أن الإسلام حرمها لسبب أساسي (ولأسباب فرعية) لأنها ظاهرة ” لَقَاحيّة”” أي تكرّس تفتّت المجتمع وتعزّز القبليّة، وان استبدال الإسلام لها بالزكاة هو لضمان بناء الدولة المتعالية على القبيلة.

ومن الطبيعي أن تثير هذه النظرة الجدل حول صحتها، لكني أعتقد أن الباحث قدم ثلاثة أنماط من البرهنة على ما يقول وتتخلل دراسته، فقدم براهين قاطعة، وأخرى قابلة للجدل وثالثة لم يحسم أمره فيها وتركها مفتوحة، وهو ما أشار له في غير موقع من دراسته. واعتقد أن هذه المدرسة الانثروبولوجية المتأثرة بالتطور المنهجي الذي تسعى المدرسة المنهجية الفرنسية لتكريسه تنامت في بلاد المغرب العربي، ولكنها تشكل تحديا فكريا لما استقرت عليه بعض التحليلات للظواهر الاجتماعية التي لبست لبوسا دينيا في المجتمعات الغابرة ومنها المجتمع العربي بخاصة الجاهلي منه. في أربعة أبواب، وستة عشر فصلا، ومتن لمادة البحث يقع في حوالي 810 صفحات، سعى الباحث لتحليل ظاهرة “الميسر” في الجاهلية من خلال توظيف النظرية البنيوية في علم النفس الإدراكي عبر منهج استقرائي، وقد كان الباحث متأثرا وبشكل كبير في دراسته بعالم الأنثروبولوجيا السياسية الفرنسي بيير كلاستر (Pierre Clastres) بخاصة دراسته لمجتمعات ما قبل الدولة (ويتضح ذلك في استخدامه لست دراسات لكلاستر). ونظرا لضخامة الدراسة وصعوبة تلخيص كل فصل فيها في المساحة المتاحة، سأحاول عرضها طبقا لتطور موضوع البحث، فقد بدأ الباحث بتقديم تعريف تفصيلي عن طقس ” الميسر” من حيث أطراف اللعبة، وكيف تجري، وأدواتها وزمان عقدها مع تحديد دلالات كل بعد من هذه الأبعاد،كما حاول الباحث أن يتتبع أصول الميسر في التاريخ العربي القديم وفي الطقوس لدى الديانات الأخرى (ويركز في ذلك على الصابئة)، ثم يحاول أن يميز بين مفهوم الميسر ومفهوم القمار. وينطوي البحث على افتراضات سعى الباحث لإثباتها في ثنايا البحث وهي:

1- -أن للميسر وظيفة اقتصادية تتمثل في الحفاظ على توازن دورة أعادة انتاج رأس المال المادي من خلال إتلاف الفائض من الابل للحفاظ على التوازن البيئي في سنوات الجفاف.

2- تكريس الترابط العصبوي للاجتماع القبلي من خلال توزيع اللحوم على الفقراء في نهاية اللعب والتي يشبهها الباحث في الفصول الأخيرة بمؤسسة الضمان الاجتماعي.

3- أنها تنطوي على مضمون ديني يتمثل في استرضاء “الآلهة” الغاضبة على البشر من خلال طقوس تدور حول الخصب والاستمطار ،ويحلل الميسر بصفته طقس من طقوس الجنس الرمزي من خلال ربط الميسر بالقمر وبالدورة الشهرية للمرأة وتطور الجنين، ويربط الباحث هذه المضامين الدينية بجزئيات عمليات “الميسر” سواء أدواتها أو أطرافها أو اختيار موعد القيام بها …الخ ، وترى الدراسة أن تحريم الميسر كان يريد هدم طقوس دينية (منها الميسر) ولم يهدمها لمضمونها الاخلاقي.

4- البعد السياسي والذي تمحور حول فكرة مركزية لدى الباحث وهي أن الميسر كان أداة لتكريس حال التفتت القبلية وعدم انصهار القبائل في بعضها (وهو ما يعنيه مفهوم اللقاحية)، ويحاول ان يعقد مقارنة بين الحرب والميسر من خلال طرح فكرة أن الميسر آلية لفرز الزعامة التي تحمي القبيلة، كما أن الميسر يزيد التلاحم الداخلي (من خلال التوزيع على الفقراء) ويمنع انصهار القبيلة في غيرها إذ أنه لا يُلعب إلا داخل كلّ قبيلة على حدة. وبالتّالي فهو كان يمنع من إلحاق قبيلة صغيرة بأخرى كبيرة، ويساهم حينئذ في تواصل تفتّت المجتمع العربي الجاهلي، ويمنع من تكوّن دولة ذات سلطة مركزيّة موحّدة. ولذلك ضرب الإسلام هذه المؤسّسة وأفرغها من محتواها الوثني، بينما تكرس الحرب التمايز عن الخارج وتعزز الهوية الذاتية للقبيلة، وهنا تلتقي الحرب والميسر في منع انبثاق الدولة. وينتقل الباحث بعد ذلك إلى بديل الميسر الذي طرحه الإسلام وهو الزكاة،وقد تمت هذه العملية عبر ثلاث مراحل هي “التأثيم، والتحريم، والاستبدال” للميسر،مع التنبيه إلى ان الانتقال نحو نظام الزكاة مر بمرحلة الصدقة أولا. وبنى الباحث أطروحته على أن المجتمع الاسلامي عمل على ثنائية ” الهدم” بهدمه الميسر كأحد اسس الأيديولوجيا اللقاحية ، ثم “البناء” بالزكاة في سبيل تكريس بناء الدولة المتعالية على القبيلة.

وقد أسند الباحث أطروحته بعدد من الأسانيد مثل الشعر الجاهلي (وهو الأكثر وضوحا)، والتحليل اللغوي لا سيما في اللغات القديمة، وعقد مقارنة بين المفردات في أكثر من لغة (مثل الاستقسام، الأزلام وغيرها،)، إلى جانب التحري عن بعض الوقائع التاريخية في التاريخ العربي أو تاريخ الشعوب الأخرى في المنطقة أو خارجها (عند الهنود الحمر أو جزر المحيط الهادي)، وتوظيف تأويلات المنهج الإناسي للرموز والطقوس بشكل يعزز نظرية الباحث فيما ذهب إليه. وفي ثنايا البحث ناقش الباحث علاقة الميسر بظواهر مثل: الوأد (وحاول إيجاد صلة بين المؤودة وبين الموعودة)، وموضع النساء في الميسر (لم يشاركن فيها بل كن يأخذن من نتائجها بالتوزيع عليهن)، وعلاقة الميسر بالمطر (الاستمطار)، وبالنجوم (لأن لعب الميسر كان يرتبط بمواعيد مرتبطة بنجوم معينة)، علاقته بالخمر، وغيرها، وكان الهدف من ربط هذه المفردات بالميسر تأكيد الأبعاد الاربعة التي سبقت الإشارة لها(الاجتماعية والدينية والاقتصادية والسياسية) وتقديم صورة متكاملة لظاهرة الميسر تخلصها من صورة جزئية استقرت عليها الأدبيات السابقة نظرا لتعقيدات الظاهرة موضوع البحث (وهي الميسر)، فقد استخدم الباحث متأثرا ببيير كلاستر منهج تفكيك الظاهرة لأبعاد دينية واجتماعية واقتصادية وسياسية توضح كل بعد منها فرادى، ليعود بعد ذلك للربط بين هذه الابعاد من خلال توظيف اللغة، الوقائع والأمثال واللغات غير العربية لرسم الصورة المتكاملة لموضوع بحثه وهو الميسر. واعتقد أن الباحث كان موفقا في توظيف المنهج الاستقرائي (كما ذكر صفحة 550) وعلم النفس الإدراكي، وفي مسعاه لفك بعض الرموز التي قد تبدو في النظرة الأولى بأنها غير ذات صلة بالموضوع، ولكنه يربطها في نهاية المطاف لتبدو متسقة تماما مع اطروحته رغم أنه كان ينبه بين الحين والآخر لحاجة بعض الجوانب لمزيد من الدراسة.

ولا شك أن معرفة الباحث بطيف واسع من اللغات القديمة والحديثة وتوظيفه لمفرادتها لا سيما في عقد المقارنة مع ما ورد في التراث العربي اثرى البحث بشكل ملفت. وطاف الباحث بطيف واسع من الظواهر الطقوسية عند العرب وعند غيرهم، واستفاد من الدراسات التي تناولت ظاهرة لدى الهنود الحمر وهي ظاهرة البوتلاتش وعقد مقارنة بينها وبين “الميسر” مستفيدا من دلالات رموز وطقوس تلك الظاهرة في مساعدته على التنبه لبعض دلالات طقوس “الميسر” التي فصل فيها في بداية التعريف بها في فصوله الأولى. إن استخدام الباحث ل 922 مرجعا باللغات العربية (أو المترجمة للعربية) والفرنسية والأنجليزية دلل على جهد كبير قد تم بذله في هذا البحث، لكني لم أشعر بتزيد في استخدام هذه المراجع،بل جرى توظيفها لضرورات البحث لهذه الدراسة باعتبارها ضربا من القمار..وهنا ما يثير الجدل في الدراسة.

Exit mobile version