5- المـنهج المـقارن :
إن الباحث في المجال الثقافي لا ينبغي له أن يتوقف, عند حدود عملية التحليل, بل لابد من أن يتعدى الدراسة التحليلية للأنماط الثقافية, بإستخدام المنهج المقارن, والفائدة العلمية المتوخاة من تطبيق المنهج المقارن , هي محاولة ربط التحليل الثقافي بعقد المقارنات العلمية بين شتى أشكال التكيف الإنساني التي نشاهدها في مختلف الثقافات والحضارات, فمن خلال المنهج المقارن يمكننا أن نحيط بالظاهرة موضوع الدراسة .
وعلى هذا الأساس كما يذكر أحد الباحثين : ” أن تطبيق المنهج المقارن, يقتضي منا تجنب المقارنات السطحية, والتعرض لجوانب أكثر عمقا لفحص وكشف طبيعة الواقع الثقافي, من خلال عقد المقارنات الجادة والعلمية بين شتى الثقافات, وكثيرا ما يستخدم أصحاب الاتجاه الثقافي مختلف المصطلحات الفنية, مثل: “السمات الثقافية ” , ” المركبات الثقافية ” , “الدائرة الثقافية ” , وذلك للتوصل إلى تحقيق دراسة أوفى وأدق في ميدان المقارنة والتصنيف “.(9).
إن المقصود بالمنهج المقارن, هو دراسة توزيع الظواهر الاجتماعية, أو الظواهر الثقافية, أو أنماط من مجتمعات معينة, أو حتى إجراء المقارنة بين مجتمعات بأكملها, أو رصد الاستمرار, التطور, أو التغير الذي يطرأ على النظم الاجتماعية أو الاقتصادية, أو السياسية .
وينظر مجموعة من المفكرين نذكر منهم : ” عالم الاجتماع الفرنسي ” إميل دوركايم ” إلى المنهج المقارن على أنه طريقة التلازم في التغيير أو الارتباط بين ظاهرتين إجتماعيتين, وينظر ” سبنسر” إلى المنهج المقارن على أساس أنه رصد وجمع لأوصاف نظام محدد, في مجتمعات مختلفة, وفي الأخير يكون الهدف المنتظر هو التوصل إلى قوانين التطور الاجتماعي .
أما مجالات البحث المقارن فهي متعددة وكثيرة نذكر منها :
1- الدراسات والبحوث المتعلقة بالثقافة والشخصية, وذلك بإجراء دراسة مقارنة حول نمو وتطور الاتجاهات السيكولوجية والسوسيولوجية, وكذلك تطور أنماط الشخصية .
2- دراسة الأنماط الرئيسية للسلوك الاجتماعي, وذلك من خلال تحديد أوجه الشبه وأوجه الاختلاف .
3- إجراء دراسة مقارنة بين النظم الاجتماعية, ودراسة الأنساق الثقافية, ثم دراسة الجماعة الرئيسية في المجتمع والتركيز على دراسة عمليات التغير التي أصابت النظم الاجتماعية .
4- إجراء دراسة مقارنة لنماذج من التنظيمات الحديثة, كالتنظيمات السياسية, أو التنظيمات الصناعية … في مجتمعات مختلفة .
5- إجراء دراسة مقارنة, من خلال تحليل مجتمعات كلية .
وقد نشأ المنهج المقارن في مجال الأنثروبولوجيا, عندما قام الباحثون الأنثروبولوجيون بإجراء مقارنة بين المجتمعات البدائية, والمجتمعات المعاصرة, والهدف من ذلك هو إبراز الفرق بينهما من حيث مجال النظم الاجتماعية, وكذلك إبراز أثر البيئة الاجتماعية والطبيعية, في تكون بناء المجتمع وثقافته, وقد بدأت الدراسة المقارنة نظرية كلية, ثم فيما بعد صار إجراء الدراسة المقارنة بالاعتماد على الدراسة الحقلية .
– المنـهج الاثنوغـرافي :
إن اعتماد أنثربولوجيو القرن التاسع عشر على المنهج المقارن للقيام بالدراسات الأنثروبولوجية, قد إنتابه بعض القصور, فلم يعد المنهج العلمي الأمثل, فالمقارنة التي أجراها الأنثروبولوجيون في ذلك الوقت كانت تقوم على القراءات الواسعة, ومحاولة جمع المعلومة من هنا وهناك, خاصة ما ورد في كتب الرحالة, والمبشرين والحكام العسكريين بالمستعمرات, مما جعل من دراساتهم وأبحاثهم تتصف بالسطحية وقلة الضبط المنهجي وكمثال على ذلك, ما شاع حول الرجل البدائي, فهناك من وصفه بـ المتوحش, وآخر وصفه بالإنسان الهمجي, وفريق ثالث أطلق عليه إسم الفرد الاجتماعي, إن المقارنة في الدراسات الأكاديمية, إذا أردنا أن تكون علمية وصحيحة, فلابد من الإعتماد على ما هو كائن في الميدان البحثي, وملاحظة مكوناته, وبذلك نستطيع تحديد وتصنيف ما هو مشترك من الملامح بين المجتمعات, وغير المشترك .
وهذا الذي دفع الأنثروبولوجيين فيما بعد للقيام بدراسات إثنوغرافية, وذلك بنزولهم وتنقلهم إلى ميدان الدراسة, والاتصال بالأفراد هناك, والإقامة بينهم لمدة قد تطول حسب الغرض من البحث, وفي هذا المجال يرى ” إيفانز بريتشارد ” أنه يجب على الباحث الأنثروبولوجي, أن لا تقل مدة إقامته في مجتمع البحث عن سنة كاملة, وذلك لتعلم اللغة المحلية حتى إجادتها, وكذلك تمثل الأنماط والشعائر والطقوس في ذلك المجتمع .
فالمبشر – حسب إيفانز بريتشارد – الذي يريد تحويل أحد الشعوب البدائية إلى المسيحية يحتاج إلى أن يكون على شيء من المعرفة بنفس معتقداتهم وممارساتهم الدينية, وإلا إستحال عليه أداء المهمة, فنجاح العملية التبشيرية مرهون باستخدام لغة الأهالي ذاتها, أي وفق مفهوماتهم وتصوراتهم.(10).
وتطورت الدراسات الاثنوغرافية فيما بعد, وأصبحت تعتمد على منهجية البحث الحقلي, وبرز مجموعة من الرواد الأنثروبولوجيين, وأجروا مجموعة من الدراسات الاثنوغرافية – حقلية – فقام “راد كليف براون “Rad Cliffe – Broun بدراسة ميدانية في ” جزر الأندمان ” سنة 1906م ،ودامت فترة دراسته الحقلية سنتين, وتقع جزر الأندمان في شمال المحيط الهندي وكانت دراسته امتحان لجملة النظريات الأنثروبولوجية, وإختبار صحتها بواسطة دراسة ميدانية في مجتمع بدائي, كما برز كذلك في مجال الدراسات الاثنوغرافية الحقلية ” مالينوفسكي” حيث قام بدراسة ميدانية كانت مدتها أربع سنوات 1914- , 1918 وكانت دراسة لجزر ” التروبرياند ” ” Trobriand ” التي تقع في ماليزيا , وكان مالينوفسكي أول من استخدم في دراسته لغة الأهالي أنفسهم, وعاش بينهم مدة أربع سنوات حيث تقمص نظمهم وطقوسهم وشعائرهم الخاصة, وتوجهت دراسته بالتوصل إلى نظام التبادل المعروف باسم {الكولا} واستخدم في دراسته المنهج الاثنوغرافي التكاملي حيث قام بدراسة شاملة لسائر النظم الاجتماعية التي لها علاقة اتصال بنظـــام ” الكولا “.
ثم جاء من بعده تلميذه ” إيفانز بريتشارد ” وقام بدراسة اثنوغرافية لثلاث مجتمعات مختلفة فيما بينها فدرس مجتمع ” الأزاندي Azade” , الذي ينتمي إلى مجموعة الشعوب السودانية وهو مجتمع يعيش على الالتقاط مع بعض الزراعة البسيطة, ومجتمع ” النوير Nuer ” وينتمي هدا المجتمع إلى الشعوب النيلية بجنوب السودان والمجتمع الثالث هو مجتمع بدوي ببرقة, وهذا الأخير يختلف عن النوير في اللغة, والديانة, والعادات, والتقاليد .
وتعتمد الدراسات الاثنوغرافية, على الملاحظة العلمية, وتخضع الملاحظة الاثنوغرافية إلى شكلين أساسيين :
1- المونوغرافيا ( الطريقة المباشرة ): وظفها أغلب الأثنوبولوجيون عند دراسة المجتمعات البدائية خاصة لما ركزوا في دراستهم على ( العرق, السلالة, أصول الثقافة, الطقوس, العادات, الشعائر.).
2- الطريقة غير المباشرة : هي عكس الطريقة الأولى, فإذا كان الباحث في الأولى يقوم بالاندماج في مجتمع البحث, ففي الطريقة الثانية يعتمد الباحث على مؤلفات من سبقت لهم دراسة ذلك المجتمع, والاعتماد على ملاحظات الرحالة أي : إعتماد الباحث على مصادر وثائقية تتعلق بذلك المجتمع .
رابعا:الطريقة الأنثروبولوجية لدراسة المجتمع:
إن الدراسات الأنثروبولوجية غالبا ما تتميز بانفرادها وتركيزها على دراسة مجتمعات محلية مصغرة، وطريقة دراسة المجتمع المحلي، هي طريقة لدراسة السلوك الإنساني، بالتركيز على تحليل مجتمع محلي بالذات، وهي تمثل في الواقع تطبيقا لطريقة دراسة الحالة على أحد المجتمعات، فتهتم بدراسة الخصائص الجغرافية، والأيكولوجية، والتاريخية لهذا المجتمع، مثل اهتمامها بدراسة التنظيم الاجتماعي، والاقتصادي، والسياسي، والعمليات الاجتماعية النفسية، وتكمن أهمية هذه الطريقة في أنها تعتمد على فحص السلوك والاتجاهات في صورتها الطبيعية، في إطار السياق الكلي للتفاعل الاجتماعي.(11).
وقد قام الجيل الثاني من الأنثبولوجيين الذين تتلمذوا على الرعيل الأول من علماء الأنثروبولوجيا بدراسات حقلية في كثير من المجتمعات الأوربية، والإفريقية، والآسيوية الريفية، والصناعية الحديثة، كما اتبعوا في دراساتهم طرقا جديدة زاوجوا فيها بين طريقة الملاحظة بالمشاركة التي تعتمد على الإقامة الطويلة والمعيشة في المجتمع، وطريقة دراسة حياة الأفراد، كما اعتمدوا في تحقيق فروضهم على الدراسات الكمية التي كان ينفر منها الباحثون الأوائل، ومن هذا الفريق من الكتاب أو الباحثين (أوسكار لويس،(Oscar Lewisç أستاذ الأنثروبولوجيا بجامعة الينوس بأمريكا، وقد حاول في إحدى كتبه أن يتعمق في فهم المجتمع عن طريق دراسة حالة الأسرة، وتتبع تاريخ حياة أفرادها كما يرونه بأنفسهم.(12).
ويتلخص المنهج الذي اتبعه المؤلف في تلك الدراسة في المزاوجة بين الطرق التقليدية المستخدمة في البحوث السوسيولوجية، والأنثروبولوجية، والسيكولوجية، وهي تتضمن الاستبيانات والمقابلات والملاحظة بالمشاركة، وتسجيل تاريخ الحياة، وعددا من الدراسات الكلية الشاملة المركزة لحالات بعض الأسر، كما اعتمد على بعض طرق علم النفس مثل اختبار توافق رد الفعل الرجعي والاختبار الاسقاطي المعروف باختبار –رورشاخ- واختيار تكملة الجمل.(13).
هوامش الجزء الثاني:
(9)- قباري محمد إسماعيل : مناهج البحث في علم الاجتماع, مواقف وإتجاهات معاصرة, منشأة المعارف, الاسكندرية, ص266 .
(10)- إيفانز بريتشارد : الأنثروبولوجيا الاجتماعية, تر : أخمد أبو زيد, منشأة المعارف, الاسكندرية , ص161.
(11)-محمد عاطف غيث: قاموس علم الاجتماع، دار المعرفة الجامعية، الاسكندرية، 1996،ص75.
(12)-محمد عبده محجوب: لافيدا،أو الحياة، مجلة عالم الفكر، مج1، ع2،الكويت، يوليو، أغسطس، سبتمبر، 1970،ص267،ص268.
(13)-محمد عبده محجوب: لافيدا أو الحياة، مرجع سابق،ص269.