موقع أرنتروبوس

مكانة التحقيق الميداني في الدراسات الأنثروبولوجية

arab

مولاي الحاج مراد*

مــقــدمـــة

نحاول من خلال هذه المداخلة المتواضعة المساهمة، و لو بقسط صغير، في إثراء المسائل المنهجية المطروحة على الدراسة الأنتروبولوجية في الجزائر، و ذلك عن طريق إظهار و كشف الأسباب الخفية لعدم تطور هذا النوع من الدراسات الإجتماعية في المجتمع الجزائري، كما نعمل على تقديم بعض الأساليب المنهجية التي ساعدت على تطورها في المجتمعات الغربية.

يتمثل انشغالنا الأساسي في مثل هذه الطروحات في كيفية إعطاء نفس جديد للدراسات الأنتروبولوجية في الجزائر اعتمادا على التحقيقات الميدانية مادام أن موضوع الدراسة في الجزائر أصبح يمشي على رجليه في الميدان، مناديا الباحثين الأنتروبولوجيين و الاجتماعيين من أجل الدراسة بهدف تجاوز التأويلات التي ألصقت بهذه المادة.

1. الأنتروبولوجيا : علم المستعمر؟

بقيت الأنتروبولوجيا في الدول النامية حبيسة عدة تأويلات سياسوية تتمثل في وصف هذه المادة الإجتماعية على أنها علم يخدم مصلحة المستعمر، حيث عملت الدراسات المونوغرافية إبان الإستعمار على كشف خصوصيات المجتمعات المستعمرة، و هذا لانعدام الكتابات و الدراسات التاريخية لهذه المجتمعات.

– لقد شجعت أبحاث للقيام بدراسات ظاهرة التثاقف و عملية تأثير الثقافة الغربية على الدول المستعمر، و محاولة معرفة درجة تأقلم أو مقاومة للثقافة المستوردة من طرف المستعمر. و يرى في هذا الصدد “قودي” (G.. Goody)[1] في إحدى مقالاته أن الأنتروبولوجيين عملوا على الإسراع في دراسة المجتمعات الإفريقية حيث كانت الدراسات التاريخية لهذه المجتمعات غير متطورة، و هذا بسبب قلة الوثائق المكتوبة، و أن هذه الوضعية دفعت حاليا بالباحثين الميدانيين إلى الاهتمام بالتحولات مثل “الإتصال الثقافي” (Contactculturel) و التثاقف (Acculturation).

و نفس الدراسات الأنتروبولوجية عرفها المجتمع الجزائري، حيث اهتم الباحثون الفرنسيون و الإداريون و السياسيون إبان الاستعمار بدراسة خصوصية المجتمع المحلي وهذا بالقيام بدراسات مونوغرافية للقرى والقبائل والمناطق الجبلية بالجزائر منذ أواخر القرن التاسع عشر.

ومن بين الباحثين الذين عرفوا بدراساتهم الأنتروبولوجية و المنوغرافية لمثل هذه المواضيع نذكر على سبيل المثال لا الحصر :

(René Maunier R. Basset, E.Destaing, Masqueray)[2].

إن شيوع فكرة أن الأنتروبولوجية هي علم المستعمر، أثر على عدم اهتمام الباحثين الاجتماعيين الجزائريين بهذا العلم، كما أن تطور النظرية الماركسية التي تزامنت مع الحركات التحريرية في العالم أثرت على الباحثين الاجتماعيين في الدول النامية. ففي الجزائر، مثلا، عرفت النظرية الماركسية رواجا بين الباحثين السوسيولوجيين، حيث عرفت الجامعة الجزائرية انتشار تخصص علم الاجتماع. فأغلب الدراسات السوسيولوجية عملت على تحليل التركيبة الاجتماعية والاقتصادية و التحولات المرافقة لها بعد سنوات الاستقلال. كما للنظام و التوجه السياسي للمشروع التنموي الجزائري أثر في التركيز على دراسات سوسيولوجية متشبعة بالنظرية الماركسية و محاولة دراسة الطبقة العاملة في المصنع و الفلاحين في الأرياف و المثقفين العضويين…إلخ

إن الأنتروبولوجيا، كمادة دراسية في الجامعة، لم يهتم بها و بقيت كامنة لا تظهر إلا في مقاربات ثقافية لدراسة الظواهر السوسيولوجية.

فالتأويلات المتمثلة في أن الأنثروبولوجيا هي علم المستعمر الغربي أثرت على تأخر و عدم الاهتمام بهذه المادة في الدراسات الأكاديمية.

إن الاعتراف بهذه المادة الدراسية جاء مع تنصيب معهد الثقافة الشعبية بجامعة تلمسان، و هذا بعد ظهور انتفاضات طلابية بمناطق القبائل مطالبة بدراسة الثقافة الأمازيغية و اللغة البربرية، و على مستوى جامعة وهران تم فتح وحدة بحث في الأنتروبولوجيا الاجتماعية و الثقافية و لتصبح فيما بعد هذه الوحدة مركزا للدراسات الأنتروبولوجية و الثقافية.

و رغم ذلك، فمازالت الدراسة الأنتروبولوجية لم يعط لها حقها مادام أنها لم تستطع أن تقوم بتكوين الطلبة في هذه المادة، رغم محاولة بعض الباحثين الإصرار على مسألة التكوين. إن كل مبادرة مازالت تخلق بعض التأويلات في أن الأنتروبولوجيا هي مادة المستعمر و أصبح الباحث الأنتروبولوجي يوصف بشتى النعوت المقيتة.

لا نريد التعمق في هذه المسألة و إنما نحاول طرح سؤال مهم و هو هل حقيقة نستطيع القول بأننا باحثين أتنتروبولوجيين؟

2. إشكالية البحث الأنتروبولوجي في الجزائر :

تعد مواضيع التنمية و التخلف من أهم المواضيع التي شجعت الباحثين الاجتماعيين للقيام بدراسات اجتماعية، كما عملت على تطور التخصصات في العلوم الاجتماعية، و هذا بهدف محاولة دراسة أهم العراقيل التي تقف عائقا أمام تنمية وتطور هذه المجتمعات.

فالأنتروبولوجيا، كإحدى التخصصات الإجتماعية، عرفت إهتماما كبيرا من طرف الباحثين الإجتماعيين، مادام أنه اتفاق مبدئي على أن التخلف قد يرجع إلى أسباب إنسانية و ثقافية، و هكذا فقد ذهب معظم الباحثين في هذا الميدان إلى القيام بدراسات و بحوث أنتروبولوجية محاولين فهم و إعطاء تفسير لواقعهم الاجتماعي والثقافي، فأصبحت الأنتروبولوجيا في الجزائر علم الســـاعة (Une science à la mode).

و لكن السؤال الذي يطرح نفسه علينا هو هل استطاعت هذه الدراسات أن تخرج بنتائج علمية؟ و هل عملت على تطور مادة الأنتروبولوجيا في الجزائر؟

للإجابة عن مثل هذه الأسئلة يجب أن ننطلق من واقعنا العلمي لمحاولة دراسة مساهماتنا في البحث الأنتروبولوجي، و هذا اعتمادا على النقد الذاتي البناء. و من هنا يتضح لنا أن من بين الأسباب المعرقلة للدراسات الأنتروبولوجية و عدم تطورها في المجتمع الجزائري.

أ- تأثير نزعة التمركز العرقي الأوربي (Ethnocentrisme) على الدراسات الأنتروبولوجية للمجتمع الجزائري :

إن هذا التأثير يتمثل في محاولة فهم المجتمع الجزائري انطلاقا من نظريات غربية قائمة على النزعة التطورية الإنتشارية التي تحاول تفسير المجتمع في علاقته و تأثره بالثقافة الأوربية. عادة ما يقوم هؤلاء الدارسون بدراسات نظرية انطلاقا من مكاتبهم بدون أن يكون لهم أي اتصال بالميدان لمعرفة الخصوصية الثقافية للمجتمع المدروس، فيحاول (F.Baos) نقد نزعة التمركز الثقافي الأوربي هذه الذي رأى فيها أنها تنتمي إلى النزعة الإنتشارية التطورية التي تحاول تفسير كافة المجتمعات من خلال تأثير و انتشار الثقافة الأوربية على هذه المجتمعات، بينما يرى أن التحقيقات الأمريكية تؤكد على الدراسة الجزئية للمجتمعات، و هذا من خلال دراسة مجموعات إجتماعية في القرية أو المدينة..فكل مجموعة إجتماعية لها خصوصيتها و مميزاتها الثقافية التي لا يمكن ملاحظتها و درساتها إلا من خلال التحقيق الميداني [3]

ب- غياب تقاليد الدراسة الميدانية :

لم تعرف البحوث الأنتروبولوجية في الجزائر تطورا لغياب الدراسات الميدانية، و هذا لا يعني أنه لم تكن هناك مشاريع بحث تحبذ الدراسة الميدانية، و لكنها لم تكن تمتاز بالجدية “المنهجية” باستثناء الدراسات الأنتروبولوجية لبعض الباحثين أمثال نذير معروف، و كلودين شولي و أحمد بن نعوم… فلم نقرأ و لم نلاحظ باحثا جزائريا قام ببحث ميداني أنثروبولوجي بأتم معنى الكلمة. كل ما نعرفه على الباحث الجزائري هو أن يستعمل طلابه لجمع المعطيات الميدانية. فمصداقية هذه المعطيات قد يشك فيها مادام أن الباحث الأنتروبولوجي بقي وراء مكتبه دون أن ينزل إلى الميدان بنفسه لمعايشة و ملاحظة الواقع المدروس.

لكن القيام بالبحث الميداني ليس بالأمر السهل، فهو يتطلب نوعا من التمرن على الملاحظة الميدانية، حيث يقول (E.Hughes) في إحدى مقالاته : ” إن مشكلة تعلم مهمة الملاحظ الميداني تشبه تعلم العيش في المجتمع”[4]


ج- إنعدام الأمن في ميدان الدراسة :

إن إنعدام الأمن في ميدان الدراسة يعد إحدى الأسباب الأساسية التي أثرت على تأخر البحوث الأنتروبولوجية. فهذه الظروف الأمنية كانت عائقا أمام الباحث الجزائري، مما عمل على عدم الاستفادة من التحولات الاجتماعية و الثقافية التي شهدها المجتمع الجزائري خلال العشرية الأخيرة. فلا يمكن أن ندرس المجتمع الجزائري بدون استنطاق الواقع المعاش، و معاينة هذه التحولات ميدانيا.

تقول في هذا الصدد إحدى الباحثات الأنتروبولوجيات في دراستها للمجتمع الإسباني : “لو لم أبق مدة طويلة في المنطقة المدروسة لدراسة سراقوس (Saragosse) لما استطعت أن أطلع على أن المجتمع الريفي تأثر بالمجتمع الحضري… و لكن من الممكن أن نعود بعد عشرين سنة من أجل ملاحظة سيرورة التثاقف، و لكن لا يمكن رؤيته في حينه، سنراه قد انتهى و بالتالي بالنسبة لي فقد أستطيع أن أعطي بدقة تواريخ هذه التحولات مادامت أنني كنت بالقرية”[5].

3. التحقيق الميداني في الدراسة الأنثروبولوجية :

يعتبر التحقيق الميداني إحدى التقنيات و المقاربات التي ساعدت على تطور الأنتروبولوجيا في أمريكا. فالأعمال التي قام بها (F..Boas) (1942-1958)، الذي يعد سيد الملاحظة المباشرة و المؤسس للأنثروبولوجيا الأمريكية، تتلخص في دراسته لمجتمعات الأسكيمو و الهنود في الشمال الغربي من الولايات المتحدة الأمريكية، وبالتالي استطاع من خلال هذه التحقيقات و الدراسات الميدانية أن يؤسس مرحلة جديدة من البحث و التي تتمثل في القيام بالدراسات المنوغرافية الكبيرة و التي أثرت فيما بعد على البحوث التي أنجزت من طرف “مالينوفسكي” في جزر التروبويند و (Firth) في تيكوبيا و أعمال ميدانية أخرى[6].

فقد استطاع (F.Boas) أن يأتي بتقاليد خاصة في البحث أثرت على خصوصية أنتروبولوجيته و إثراء معرفته. فبالنسبة لـ F.Boas كل ثقافة تعد ظاهرة فريدة و خاصة [7]. فالتحقيق الميداني هو السبيل الوحيد لدراسة هذه الخصوصية لثقافة المجتمع المدروس. عملت هذه الخصوصية الثقافية على دفع باحثين أنتروبولوجيين متشبعين بتوجه نفساني، و خاصة الأنتروبولوجيين الأمريكيين ذوي الإهتمام بثقافة الشعوب إلى القيام بأبحاث و تحقيقات ميدانية للكشف عن مميزات الثقافة في هذه المجتمعات.

و من بين هؤلاء الأنتروبولوجيين نذكر Ralph Linton, Margeret Mead, Puth Bendict الذين يمثلون مدرسة “الثقافة و الشخصية”، و يركزون في أبحاثهم على الخصوصية الثقافية لما لها من دور في تشكيل بعض النماذج و الأنماط (Patterns) التي تغرس في الأفراد و تؤثر على مواقفهم و سلوكاتهم” [8].

أما في فرنسا، فقد إستطاع (M.Mauss)، و رغم غياب أعمال ميدانية حقيقية، أن يكون جيلا من الباحثين للقيام بالأبحاث الميدانية، فاستطاع أن يعطي مفهوما جديدا للظاهرة الاجتماعية على أنها ظاهرة ترتبط بظواهر أخرى ضمن نظام معين، معتبرا الحياة الاجتماعية نظاما من العلاقات حيث أن كل جزء من أجزائه مرتبط ضمن كل متكامل.

فمن خلال هذه النظرة الشمولية للظاهرة الاجتماعية استطاع موس أن يوجه مسألة البحث في الدراسات الأنتروبولوجية بصفة عامة [9].

إن التحقيقات الميدانية في الدراسات الأنتروبولوجية تكمن أهميتها في عملية جمع المعطيات إنطلاقا ومن الواقع المدروس، مستهدفة فهم الخصائص الاجتماعية والثقافية لهذا الواقع. فمثلا “مالينوفسكي” (Malinowsky) يقدم لنا ثلاث مقاربات نستطيع من خلالها جمع أراء الأفراد لمحاولة معرفتهم. و تتمثل هذه المقاربات في مايلي :

v وصف التشكيلة الاجتماعية

v الاستعانة بأمثلة حية من الحياة اليومية

v الاستشهاد بآراء الأفراد عن طريق تسجيل و تقديم ما يقولون”.

فلا يجب على الأنتروبولوجي، حسب مالينوفسكي، أن يبقي ينتظر في المعجزات، و إنما يجب عليه أن يكون فعالا يبحث على المعلومات الخاصة بالأفراد، و هذا عن طريق العيش معهم و تكلم لغتهم”[10].

أكيد أن هذه الممارسة المنهجية في الدراسة الأنتروبولوجية يجب أن تكون مسلحة بخلفيات ومعرفة نظرية و لكن لا يجب أن نتغافل عن سيرورة الواقع. فلا ننظر إليه على أنه مجال ثابت و إنما على أنه في حركية دائمة.

4. تقنيات التحقيق الميداني في الدراسة :

عندما نتكلم عن العمل الميداني في العلوم الإجتماعية يتبادر إلى أذهاننا أن مثل هذه الأعمال ترجع إلى الباحث الأنتروبولوجي و الإثنولوجي الذي يهتم بملاحظة وتسجيل أشكال التعامل و اللغة و الخصائص المورفولوجية للمجتمع المدروس. فالأعمال الميدانية من أجل اللإقتراب من الخصائص الأنتروبولوجية لفئات المجتمع المدروس تفرض على الباحث أن يتسلح بتقنيات و مناهج علمية. و من بين هذه التقنيات نريد التركيز هنا على تقنية الملاحظة بالمشاركة و التي تعتبر الركيزة الأساسية للأنتروبولوجية الثقافية، حيث تساعد هذه التقنية الباحث على معايشة حياة و نشاط الأفراد المدروسين.

يحث كل من مالينوفسكي و ميد الباحث على قضاء مدة طويلة مع قبيلة قرية لمعرفة و كشف الخصائص الثقافية و الإجتماعية للمجتمع المدروس [11].

كما ترى مادلين قراويز (Madeleine Grawitz) أن ” الملاحظة بالمشاركة تعني أن يكون الملاحظ مشاركا، أي يجب عليه أن يكون مقبولا حتى يستطيع أن يندمج في الجماعة إلى حد أن ينسى دوره كملاحظ، و لكن يبقى حاضر ا كفرد ما”[12]. و أكثر من ذلك فالملاحظة بالمشاركة لا تتطلب الشعور بالانتماء إلى الجماعة المدروسة، و إنما مشاركة هذه الجماعة في نشاطاتها اليومية.

على الباحث أن يتقيد بالملاحظة بالمشاركة حتى يستطيع الحصول على المعطيات التي تخدم الهدف العلمي لدراسته. ألا أن البحث الميداني يؤدي بالباحث إلى أن يقوم بدورين : قد يكون ملاحظا مشاركا أو يكون مشاركا ملاحظا، و لكن معظم الأبحاث الأنتروبولوجية تعتمد على الـدور الأول. فـمـثـلا : قـامـت Gene Shelley (1992) بدراسة الأفراد الذين يعانون من أمراض القصور الكلوي، فقضت مئات الساعات في مركز طبي لتصفية الدم من المواد السامة، تلاحظ و تسمع و تسأل وتتحدث حول كل جوانب حياة المبحوثين، فلم تقدم نفسها على أنها ممرضة، و لا تعرض نفسها لمثل هذه الفحوص فقامت بدور الملاحظ المشارك [13].

كما قام (1989) Mark Fleisher, M. بالدور الثاني، أي بدور المشارك الملاحظ، فالباحثون بمكتب الولايات المتحدة الأمريكية للسجون طلبوا منه القيام بدراسة اثنوغرافية حول الضغوطات المهنية لحراس السجون، فأعرب فليشر عن سروره للقيام بهذا البحث، و سأل عن تاريخ بدايته لمرافقة حراس السجون في أعمالهم. فقيل له أنه سوف يعطي له مكتب السجن ليقوم بمقابلة الحراس، فاعتذر فليشر وأراد أن يلاحظ الحراس في ممارسة أعمالهم في السجن. فقيل له أنه لا يدخل إلى كواليس السجون إلا ضباط السجون المحلفون. و هكذا ذهب فليشر إلى التدريب لمدة ستة أسابيع ليصبح فيما بعد ضابطا فيدراليا محلفا، و بالتالي بدأ دراسته التي دامت سنة كاملة في سجن « Lompoc » بكاليفورنيا، فأصبح مشاركا ملاحظا في الظاهرة المدروسة. فعندما ذهب إلى السجن صرح لكل الأشخاص أنه أنثروبولوجي يقوم بدراسة الحياة في السجن [14].

كما أن بعض الباحثين الميدانيين قد يبدأون بالملاحظة بالمشاركة لينتهي بهم الأمر إلى التأثر بحياة مبحوثيهم و يصبحون جزءا منهم، و هذا ما جرى لـ Keneth Good عندما ذهب ليدرس المرأة اليانومانيا Yanomani بالأمازون، فتعلم اللغة اليانومانيةليبقى بغابة الأمازون لمدة 13 سنة [15].

كذلك قامت Marlin Dobkin de rios ببحث ميداني بالبيرو و تزوجت مع ابن طبيب تقليدي التي كانت تدرس ممارسته للتداوي بالطريقة التقليدية [16].

و من خلال هذه الأمثلة يمكننا أن نستخلص أهمية كل من الملاحظة المشاركة و المشاركة الملاحظة في الدراسة الأنتروبولوجية و خاصة دور المشارك الملاحظ الذي يستطيع أن يغوص في أعماق أفراد مجتمع و يندمج في مجموع علاقاتهم الإجتماعية ليكسب ثقة المبحوثين و بالتالي الكشف عن خبايا الظاهرة المدروسة في سيرورتها و ديناميكيتها وصولا إلى اكتشاف ثوابتها و متغيراتها.

كما أننا يمكن أن نستخلص من الأمثلة السابقة بعضا من العبر التي يجب التقيد بها أثناء القيام بالتحقيق الميداني، نجملها فيما يلي :

– فعلى الباحث الأنتروبولوجي أن لا يطرح كثيرا من الأسئلة على المبحوثين، بل يجب عليه أن يسمع لهم حتى يرتاحوا له و ينشأ نوع من الثقة بينه و بين مبحوثيه.

– يجب عليه أيضا أن يقضي وقتا كافيا في محيطهم حتى يتمكن من خلق علاقات جيدة معهم، و هذا ما يساعد على إبعاد كل الشكوك حول مهمته و الشعور بالعداء الذي قد يواجه باحث غريب عندما يدخل مجتمعا ما لأول مرة.

– كما يجب عليه أن يكون ملاحظا بارعا : يعرف متى يطرح السؤال، متى يقوم بتسجيل الملاحظات، و متى يمزح مع المبحوثين و متى يضحك… إلخ

– يجب على الباحث أيضا أن يكون مستعدا لإجابة عن أسئلة المبحوثين مثلا : في حالة ما إذا ما سئل : ماذا يعمل هنا؟ و هذا لأبعاد الشكوك و الحصول على معطيات موضوعية.

بالإضافة إلى ذلك يجب على الملاحظ المشارك أن تكون له ذاكرة جيدة، فيعود نفسه على استرجاع الأحداث التي سمعها و شهدها فلا يتكلم مع أحد حتى يقوم بتسجيل ملاحظاته، و هذا لكي لا ينسى الأحداث السابقة.

و هكذا، تسمح له الملاحظة بالمشاركة أن يقوم بجمع مختلف المعطيات و طرح أسئلة وجيهة باللغة المحلية، كما تعمل هذه التقنية على التقليل من مشكل تغيير الآراء و التصريحات لدى المبحوثين و تساعد على تفهم معنى ملاحظة الباحث.

إلا أن دراسة مجتمع ما تشترط من الملاحظ المشارك أن يتعلم لغة المبحوثين وهذا لتفادي عدم الفهم لمعاني الكلمات و العبارات، و ما من شأنه أن يؤدي إلى الأخطاء في التأويل و تفسير المعطيات. فمثلا : يقول (Dereck Freeman, 1983)، و بعد مرور خمسين سنة عن دراسة “ميد” بأن هذه الباحثة خدعت من طرف مبحوثيها، لأنها لم تكن تعرف اللغة[17].

و تتطلب الملاحظة بالمشاركة من الباحث أن يتصف بنوع من الموضوعية، فلا يتأثر بالأحداث حتى لا ينسى الدور الذي جاء من أجله لمكان الدراسة، و أن يتجلى بالبساطة و عدم التصنع للحصول على أكبر قدر ممكن من المعلومات.

إن الالتزام بهذه القواعد أثناء التحقيق الميداني تساهم في إثراء البحث الأنثروبولوجي بمعلومات قد لا يستطيع الباحث الحصول عليها بسهولة من الميدان المدروس.

فالملاحظة بالمشاركة تقنية أساسية للكشف عن حقيقة وواقع الفئات الاجتماعية للجماعة المدروسة. إلا أن هذه التقنية بحاجة إلى تقنيات مكملة مثل المقابلة غير الموجهة و البيوغرافيا..إلخ و التي من خلالها يستطيع الباحث الأنثروبولوجي الإلمام بكل جوانب الظاهرة المدروسة.

خـــاتــمــة

إن التركيز على التحقيق الميداني في الدراسات الأنثروبولوجية تبرره النقائص الملاحظة في واقع الدراسات الأنثروبولوجية في الجزائر.

فلم نشاهد تطورا في ميدان الأبحاث الأنثروبولوجية في المجتمع الجزائري رغم غنى هذا المجتمع بخصوصيات ثقافية، اجتماعية بحاجة إلى التعرف عليها والكشف عن طابعها الأنثروبولوجي.

كما أن المجتمع الجزائري يعيش نوع ما من التحولات الاجتماعية، الاقتصادية و السياسية و التي تفرض على الباحث الأنثروبولوجية بمعالجة و دراسة هذه التحولات.

فالتحقيق الميداني هو السبيل الوحيد لجمع معطيات ميدانية تساعدنا على الخروج بدراسات و تقارير علمية حول مجتمعنا و بالتالي تجاوز تلك النظرة الأحادية التي عادة ما تعتمد على دراسة المجتمع من جهة التمركز العرقي.

فالأنثروبولوجية غنية بمناهجها التي تساعد الباحث على استنطاق الواقع الذي يعيش فيه، فما على الباحث إلا الخروج إلى الميدان مستعينا و مستغلا تلك التقنيات و المناهج الأنثروبولوجية بدل أن يبقى حبيس مكتبه ينتظر في المعلومات والمعطيات و الاعتماد على نظريات عقيمة، غير ملائمة لسيرورة الواقع. فالمجتمع غير ثابت، فهو دوما في حالة اعتمال و تشكل دائمين، بحاجة إلى باحث مبتكر لأساليب منهجية تراعي ديناميكية خصوصيات الشعوب و المجتمعات.



* أستاذ في الجامعة وهران، و باحث في مركز البحث في الأنتروبولوجيا الاجتماعية و الثقافية

[1] . GOODY, Jack.- Histoire et anthropologie : Convergences et divergences.- Ethnologie Française, XXIII, 1977.- p.283.

[2] . من بين الدراسات يمكن أن نشير إلى :

– MASQUERAY, Emile.- Formation des cités chez les populations sédentaires de l’Algérie, kabyles de Djurdjura, Chaouia de l’Aurès Ben-Mzab.- Paris, institut d’Ethnologie, 1926.

– CANAL, J..- Monographie de l’arrondissement de Tlemcen.- Bulletin de société de géographie en d’anthropologie d’Oran, T 7, 1887.

[3] . Voir : DURREMBERG E.Paul, Field Work, In Encyclopédia Cultural Anthropology.- New-York, Levinso Ember (Ed), Henry Holt and co, 1996.

[4] . HUGHES E. : « The race of field work, in Social Sciences, in the sociological eye selected paper, London, Transaction books, 1984.p. 506.

[5] . FRIBOUG Jeanine : « Mon expérience de terrain en Espagne ». In Revue : Association Française des anthropologues, N°29, Sept. Dec 1987.

[6] . Cf. COPET-ROUGIER, Elisabeth. .- Anthropologie.- in Encyclopédie Universalis. – p.p. 521-526.

[7] . Ibid.- p. 521

[8] . Ibid.-. p.522

[9] . Ibid.- p.521.

[10] . Ibid.- p.498

[11] . HUGHES, John. A..- Sociological analysis : Methods of discovery.- London, Nelson, 1976.- p 117.

[12] . GRAWITZ, Madeleine.- Méthodes des sciences sociales .- Paris, 5ème édition,. Ed. Dalloz, 1993.- p.687.

[13] . SHELLEY, G.A..- The social networks of people with end stage renal disease : comparing hemodialysis and peritonel dialysis patients, umpublished doctoral dissertation (universty of florida, 1992). Cité par Bernard, H., Russel : « Research methods », In Anthropology quantitative and quantificative approaches, Second Edition, London, Sage publicvation, 1994, p.138

[14] . FLEISHER, M..- War ho using violence.- Newbury Park, C.A : sage, 1989. Cité par H.Russel Bernard.- Op.cité.- p 138.

[15] . Voir : RUSSEL BERNARD, H..- Op.cité.- p.139.

[16] . DOBKIN DE RIOS, M. -Socioeconomic characteristics of an Amazon urban healer’s clientele, in social science and medecine.- 15 B, 1981.- 51-63. Cité par H.Russel Bernard.- Op.cité.- p. 139.

[17] . RUSSEL BERNARD, H..- Op.cité.- p. 145.

المصدر: مجلة “انسانيات” الصادرة عن المركز الوطني للبحث في الأنثروبولوجيا- الجزائر  عدد بعنوان “أي مستقبل للأنثروبولوجيا في الجزائر؟” سنة 2002

Exit mobile version