مقدمة كتاب “الأنثروبولوجيا: اتجاهات نظرية ومنهجية وتطبيقية”
أ.د عبدالعزيز راغب شاهين
لقد اتّسعت مجالات البحث والدراسة في علم الأنثروبولوجيا، وتداخلت موضوعاته مع موضوعات بعض العلوم الأخرى، ولا سيّما علوم الأحياء والاجتماع والفلسفة. كما تعدّدت مناهجه النظرية والتطبيقية،
تبعاً لتعدّد تخصّصاته ومجالاته، ولا سيّما في المرحلة الأخيرة حيث التغيرات الكبيرة والمتسارعة، التي كان لها آثار واضحة في حياة البشر كأفراد و كمجتمعات .
ومع دخول الأنثروبولوجيا مجال القرن العشرين، بأحداثه وتغيّراته العلمية والاجتماعية والسياسية، طرأت عليها تغيّرات جوهرية في موضوعها ومنهج دراستها، حيث دعمت النظرية وأخذت بالمنهج التطبيقي باعتباره منهجا علميا ، إضافة إلى تحديد علاقة التأثير والتأثّر بينها وبين منظومة العلوم الاجتماعية والإنسانية الأخرى ، حيث أصبحت النظرة الشاملة تميّز المنهج الأنثروبولوجي، الذي يتطلّب دراسة أي موضوع – مهما كانت طبيعته وأهدافه- دراسة كليّة متكاملة، تحيط بأبعاده المختلفة، وبتلك التفاعلات المتبادلة بين أبعاد هذا الموضوع وجوانب الحياة الأخرى السائدة في المجتمع .
فكلمة أنثروبولوجيا ” Anthropology ” ، هي كلمة إنجليزية مشتقّة من الأصل اليوناني المكوّن من مقطعين : أنثروبوسAnthropos ، ومعناه ” الإنسان ” و لوجوس Logos ، ومعناها ” علم “. وبذلك يصبح معنى الأنثروبولوجيا من حيث اللفظ ” علم الإنسان ” أي العلم الذي يدرس الإنسان. ويعرّف علم الأنثروبولوجيا، بأنّه العلم الذي يدرس الإنسان من حيث هو كائن عضوي حي ، يعيش في مجتمع تسوده نظم وأنساق اجتماعية في ظلّ ثقافة معيّنة ، ويقوم بأعمال متعدّدة ، ويسلك سلوكاً محدّداً ، وهو أيضاً العلم الذي يدرس الحياة التقليدية ، والحياة الحديثة المعاصرة ، ويحاول التنبّؤ بمستقبل الإنسان معتمداً على تطوّره عبر التاريخ الإنساني الطويل . ولذا يعتبر علم دراسة الإنسان (الأنثروبولوجيا) علماً متطوّراً، يدرس الإنسان وسلوكه وأعماله .
كما يعرّف أيضا علم الأنثروبولوجيا بصورة مختصرة وشاملة بأنّه ” علم دراسة الإنسان طبيعياً واجتماعياً وثقافيا ” ، أي أنّ علم الأنثروبولوجيا لا يدرس الإنسان ككائن وحيد بذاته ، أو منعزل عن أبناء جنسه ، إنّما يدرسه بوصفه كائناً اجتماعياً بطبعه، يحيا في مجتمع معيّن لـه ميزاته الخاصة في مكان وزمان معينين ، كما أنّه الوحيد ، الذي يصنع الثقافة ويبدعها .
فعلم الأنثروبولوجيا بوصفه دراسة للإنسان في أبعاده المختلفة، البيوفيزيائية والاجتماعية والثقافية، فهو علم شامل يجمع بين ميادين ومجالات متباينة ومختلفة بعضها عن بعض ، اختلاف علم التشريح عن تاريخ تطوّر الجنس البشري والجماعات العرقية ، وعن دراسة النظم الاجتماعية من سياسيّة واقتصادية وقرابية ودينية وقانونية ، وكذلك عن الإبداع الإنساني في مجالات الثقافة المتنّوعة التي تشمل التراث الفكري وأنماط القيم وأنساق الفكر والإبداع الأدبي والفني ، بل والعادات والتقاليد ومظاهر السلوك في المجتمعات الإنسانية المختلفة ، وإن كانت لا تزال تعطي عناية خاصة للمجتمعات التقليدية.
وهذا يتوافق مع تعريف تايلور الذي يرى أنّ علم الأنثروبولوجيا “هو الدراسة البيوثقافية المقارنة للإنسان ” إذ يحاول الكشف عن العلاقة بين المظاهر البيولوجية الموروثة للإنسان ، وما يتلقاه من تعليم وتنشئة اجتماعية . وبهذا المعنى ، يتناول علم الأنثروبولوجيا موضوعات مختلفة من العلوم والتخصّصات التي تتعلّق بالإنسان. فبينما علم الانثروبولوجيا يعني في فرنسا والمانيا ، الأنثروبولوجيا الفيزيقية، وفي أمريكا الأنثروبولوجيا الثقافية ، فإنه يعني في بريطانيا الأنثروبولوجيا الاجتماعية .
ففي إنجلترا ، يهتم علم الأنثروبولوجيا بدراسة المجتمعات ونظمها الاجتماعية، مع ميل خاص للتأكيد على دراسة المجتمعات التقليدية . وفي أمريكا، فيرى العلماء أنّ الأنثروبولوجيا، هي علم دراسة الثقافات البشرية التقليدية والمعاصرة، في حين أنّ علماء فرنسا يعنون بهذا العلم ، دراسة الإنسان من الناحية الطبيعية، أي” العضوية”.
وعلم الأنثروبولوجيا يركّز اهتمامه على كائن واحد، هو الإنسان، ويحاول فهم أنواع الظاهرات المختلفة التي تؤثّر فيه ، في حين تركّز العلوم الأخرى اهتمامها على أنواع محدّدة من الظاهرات أنّى وجدت في الطبيعة . وكان علم الأنثروبولوجيا ، وما زال، يحاول فهم كلّ ما يمكن فهمه أو معرفته عن طبيعة الإنسان ، وكذلك فهم سلوكه الذي يفوق طبيعته الجسمية غرابة وكذلك ثقافته ونظمه الاجتماعية وعلاقة كل ذلك بالظروف البيئية المختلفة.
ولذلك، ينقسم علم الأنثروبولوجيا إلى ثلاثة أقسام رئيسية ، يبحث الأول في الإنسان، ويعرف بالأنثروبولوجيا الطبيعية، في حين يبحث الثاني في ثقافة الإنسان، ويعرف بالأنثروبولوجيا الثقافية ، والثالث يبحث في نظمه الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والدينية والقرابية والايكولوجية ويعرف بالأنثروبولوجيا الإجتماعية .
ولقد حدّدت ” مارجريت ميد ” طبيعة علم الأنثروبولوجيا وأبعاده ، بأنه العلم الذي يصنّف الخصائص الإنسانية للجنس البشري ( البيولوجية والثقافية ) كأنساق مترابطة ومتغيّرة ، وذلك عن طريق نماذج ومقاييس ومناهج متطوّرة . كما يهتمّ أيضاً بوصف النظم الاجتماعية والتكنولوجية وتحليلها ، إضافة إلى البحث في الإدراك العقلي للإنسان وابتكاراته ومعتقداته ووسائل اتصالاته . وبصفة عامة ، يسعى علم الأنثروبولوجيا لتفسير نتائج دراساته والربط فيما بينها في إطار نظريات التطوّر، أو ضمن مفهوم الوحدة النفسيّة المشتركة بين البشر.
وتأسيساً على ما تقدّم ، فإنّ علم الأنثروبولوجيا ، هو العلم الذي يدرس الإنسان ، ويدرس أوجه الشبه وأوجه الإختلاف بينه وبين الكائنات الحيّة الأخرى من جهة، وأوجه الشبه والاختلاف بين الإنسان وأخيه الإنسان من جهة أخرى. وفي الوقت ذاته ، يدرس السلوك الإنساني ضمن الإطار الثقافي والاجتماعي بوجه عام . فلا يهتمّ علم الأنثروبولوجيا بالإنسان ” الفرد ” ، كما تفعل الفيزيولوجيا أو علم النفس، وإنّما يهتمّ بالإنسان ” كشخص ” ، يعيش في جماعات وأجناس، ويدرس الناس في أحداثهم وأفعالهم الحياتية .
وإستناداً إلى مفهوم الانثروبولوجيا وطبيعتها، فإنّ دراستها تحقّق مجموعة من الأهداف، يمكن حصرها في وصف مظاهر الحياة البشرية والحضارية وصفاً دقيقاً، وذلك عن طريق معايشة الباحث المجموعة أو الجماعة المدروسة، ويسجيل كلّ ما يقوم به أفرادها من سلوكات في تعاملهم، في الحياة اليوميّة . وتصنيف مظاهر الحياة البشرية والحضارية بعد دراستها دراسة واقعية، وذلك للوصول إلى أنماط إنسانية عامة، في سياق الترتيب التطوّري الحضاري العام للإنسان : (تقليدي- زراعي- صناعي – معرفي – تكنولوجي) ، وايضا تحديد أصول التغيّر الذي يحدث للإنسان، وأسباب هذا التغيّر وعملياته بدقّة علمية .. وذلك بالرجوع إلى التراث الإنساني وربطه بالحاضر من خلال المقارنة، وإيجاد عناصر التغيير المختلفة .
كما تهدف استنتاج المؤشّرات والتوقعّات لاتّجاه التغيير المحتمل ، في الظواهر الإنسانية الثقافية التي تتمّ دراستها ، وبالتالي إمكانية التنبؤ بمستقبل الجماعة البشرية التي أجريت عليهاالدراسة .
ويبدو أنّ التباين العرقي بين بني البشر، هو الخاصة البيولوجية التي تستأثر باهتمام العالِم الحديث، أكثر من سائر الخواص البيولوجية الأخرى عند الإنسان. ويبذل المصنّفون العرقيون محاولات دائبة للتوصّل إلى تصنيف عرقي مثالي. فكان من نتائج انشغال علماء الأنثروبولوجيا الطبيعية بمشكلة العرق، أن اكتسب مفهوم النوع (العرق) رسوخاً أعاق التفكير بالكائن البشري ذاته. فالأصناف العرقية البشرية ظلّت، وإلى عهد قريب، تعتبر كيانات ثابتة نسبياً، وقادرة على الصمود أمام تأثيرات البيئة أو قوى التغيّر الفطرية.
فاهتمام الأنثروبولوجيا بدراسة المجتمعات الإنسانية كلّها، وعلى المستويات الثقافية كافة، يعتبر منطلقاً أساسياً في فلسفة علم الأنثروبولوجيا وأهدافه. ولكن على الرغم من التوسّع في مجال الدراسات الأنثروبولوجية، فما زالت الاهتمامات التقليدية للأنثروبولوجيا، ولا سيّما وصف الثقافات وأسلوب حياة المجتمعات، ودراسة اللغات واللهجات المحلية وآثار ما قبل التاريخ، والنظم الاجتماعية التقليدية والحديثة ، تؤّكد ولا شك، تفرّد مجال الأنثروبولوجيا عمّا عداها من العلوم الأخرى .
توجد نظريات كثيره في علم الأنثروبولوجيا درست مختلف جوانب حياة الإنسان ، سوا كانت ثقافية ، اجتماعية ، سياسية ، اقتصادية ، دينية ، قرابية ، ايكولوجية ، ولكل منها رؤيتها وموقفها ومنهجها وتفسيرها لهذه الجوانب والمجالات ، هذا من ناحية ، أما من ناحية أخري ، فإن هذه النظريات تدل علي حيوية وفاعلية البحث الأنثروبولوجي ، وعلي أنه متواصل ومستمر يتكيف مع التغيرات ويبدع حولها نظريات ومفهومات ومناهج . ولقد تعددت هذه النظريات ، وكونت عددا من الاتجاهات النظرية في الأنثروبولوجيا ، منها الإتجاه التطوي ،والإتجاه البنائي، والوظيفي، والانتشاري ، والماركسي ، والمعرفي ، واتجاه التثاقف،والبنيوي.
ولقد اتسعت مجالات البحث والدراسة في علم الأنثروبولوجيا وتداخلت موضوعاته مع بعض العلوم الأخري ، كما تعددت تخصصاته ، وإتجاهاته النظرية والمنهجية . وبالرغم من هذا الخضم الهائل من التعدد والتباين بين الإتجاهات النظرية في مجال الأنثروبولوجيا وغيرها من العلوم التي تهتم بالإنسان الا أن الانثروبولوجيا استطاعت الإستمرار وسط التغيرات الهائلة التي شهدها العالم في الفترة الأخيره وعلي تجديد اطرها النظرية والمنهجية وأساليب دراساتها الميدانية .
إن من بين الأهداف التي يحاول هذا الكتاب تحقيقها ، أن يوضح كيف أن الأنثروبولوجيا – كفرع من فروع المعرفة – لم تنشأ مستقلة عن التطور العام للمعرفة ، وعن الأحداث التاريخية المختلفة ومتطلباتها. هذا من ناحية ، ومن ناحية اخري ، إن الميزة الأساسية للمعرفة التاريخية، أنها تقودنا إلي إضفاء صفة النسبية علي الظواهر الإنسانية ، فتمهد بذلك إلي النظر إلي هذه الظواهر نظرة علمية .
ويبرز هذا الكتاب الإطار العام للفكر الأنثروبولوجي وتطوره ، مع توضيح الرابط العام بين النظرية والمنهج، اللذين يصعب الفصل بينهما، وبين الإتجاهات الدراسية الأنثروبولولوجية الحديثة، وخاصة في أفريقيا. ويقدم الفصل الأول عرضا تحليليا، لأصول الفكر الأنثروبولوجي في القرن الثامن عشر، والتاسع عشر، والقرن العشرين، وبداية القرن الواحد والعشرين و الفصل الثاني ، يتعلق بالدراسة التحليلية للإتجاهات النظرية الأنثروبولوجية الكلاسيكية والحديثة ، أما الفصل الثالث فيتناول تفسير وتحليل للإتجاهات المنهجية وطرق البحث الأنثروبولوجية الميدانية ، بينما يتضمن الفصل الرابع ،عرض وتحليل لإتجاهات الدراسات الأنثروبولوجية الأفريقية الحديثة ، كما يتضمن الفصل الخامس دراسة تأثير العولمة الثقافية وانعكاساتها علي الثقافات المحلية الأفريقية .