مقتطفات من مقابلة مع عالم الأنثروبولوجيا طلال أسد

ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي

مقدمة:

هذه ترجمة لمقتطفات مختصرة وردت في مقابلة طويلة (من ستين صفحة) مع عالم الأنثروبولوجيا طلال أسد نشرت عام 2006م في كتاب من إصدارات دار نشر جامعة ستانفورد عنوانه: Powers of the Secular Modern. Tala Asad and His Interlocutors (قوى العلمانية الحديثة. طلال أسد ومحاوروه)، وحرره ديفيد اسكوت وشارلس هيرشكند.
وطلال أسد (1932 – ) رجل سعودي/ أمريكي الجنسية. ولد لأم سعودية من قبيلة شمر (1)، ووالده هو الرجل المشهور محمد أسد (ليوبولد فاييس سابقا) اليهودي من أصل نمساوي والذي دخل الإسلام في عشرينيات القرن الماضي، ويعتبر من أكثر مسلمي أوروبا في القرن العشرين تأثيرا، وقدم ما يعتبره الكثيرون أفضل ترجمة عربية للقرآن الكريم. يعد بروفسيور طلال أسد الآن من أشهر علماء الأنثروبولوجيا (علم الإنسان) المختصين بدراسات الإسلام والمسيحية في مرحلة ما بعد الاستعمار. درس بجامعتي أدنبرا وأكسفورد ثم عمل بجامعة الخرطوم في ستينيات القرن الماضي ثم بجامعات بريطانية آخرها جامعة هل Hull، قبل أن ينتقل لجامعة سيتي في نيويورك. أصدر في عام 1970 كتابا شهيرا عن “عرب الكبابيش” (2).
والسطور التالية هي مقتطفات لبعض ما جاء في مقابلة له مع محاوريه عند إجابته عن عمله البحثي في السودان.
المترجم
********** ******** **********
سؤال من ديفيد اسكوت (د ا): أخبرني عن تجربتك في الخرطوم؟ كيف وجدت التدريس هناك؟
طلال أسد (ط أ): أحببتها جدا. كنت سعيدا للغاية في غضون سنواتي الخمس (في السودان) بين عامي 1961 و1966م. كانت تلك أول تجربة لي في التدريس في جامعة الخرطوم، إذ لم أكن قد مارسته من قبل في جامعة أكسفورد، حيث لم يكن نظامها يسمح لطلاب الدراسات العليا بالقيام بمهام التدريس. كان (العمل بجامعة الخرطوم) بالفعل فرصة شائقة جدا لي، قرأت فيها الكثير من المواد، ووجدت نفسي أفعل ما كنت أفعله دوما بطرق متباينة منذ ذلك الوقت. ويتلخص هذا في الاستفادة من مناسبات التدريس في الاطلاع الجيد والكامل على العديد من النصوص المتنوعة، والتفكير والتفكر فيها، وتعليم نفسي بنفسي. كان طلابي شديدي الذكاء، وكان معظمهم يحرصون جدا فقط على نيل درجة جامعية – كما هو الحال في بقية العالم. كانت جامعة الخرطوم مكانا كوزموبوليتانيا (عالميا) بحق، إذ أن الأساتذة كانوا يأتون من أقطار متعددة مثل الهند والباكستان ومصر، ومن عدد من الدول الأوروبية، التي كانت تشمل دول شرق أوروبا، ومن إنجلترا بالطبع. وبهذا المعنى، كانت الجامعة “عالمية”. وكانت العلاقات الشخصية بين المدرسين وَدَوَّدة، وكذلك مع الطلاب. وكنت شديد الحرص والاهتمام بأن أبقى – بقدر الإمكان – على صلة بالسودانيين، وأن أَحُسِّن من لغتي العربية المنطوقة، إذ أنني كنت قد تعلمت العربية في الصغر من أمي، ودرستها لاحقا وأنا في المرحلة الجامعية الأولى بجامعة أدنبرا، لأتمكن من القراءة بها فَحَسْب. إلا أن فترتي في السودان ساعدتني على تجويد لغتي العربية. لذا كنت أقابل أكبر عدد ممكن من السودانيين، ربما بأكثر مما يفعله غيري من الأساتذة. صادقت العديد من السودانيين، ولا زلت أحتفظ بصداقة بعضا منهم إلى اليوم لأنهم يقيمون بالولايات المتحدة.
***********************
سؤال من د ا: هل عدت أبدا للسودان؟
ط أ: نعم بالفعل. سافرت للسودان عام 1970م، وللمرة الأخيرة في عام 1975م. حينها قمت بتدريس فصل دراسي في جامعة الخرطوم.
**********************
سؤال من د ا: كانت ثمرة تلك الفترة في السودان هي رسالة الدكتوراه، التي قدمتها عام 1968م، وأظن أعقبها فيما بعد صدور كتابك عن عرب الكبابيش في عام 1970م. أريد أن أتحدث معك قليلا عن هذا الكتاب، خاصة عن الأسئلة التي طرحتها فيه، وطريقتك في تقديم الأسئلة، إذ أنني دهشت عند اطلاعي عليه مؤخرا من نقاط التشابه الكثيرة بين نهجك في البحث والاستقصاء آنذاك، ونهجك الآن. يبحث كتابك “عرب الكبابيش” في أمر البنية السياسية عند الكبابيش، خاصة الظروف والأحوال التي جعلت السلطة السياسية متاحةً فقط لجماعة صغيرة من الأفراد. يوجد في هذا الشأن بالطبع عدد كبير من الأوصاف الأنثروبولوجية التقليدية من مخططات القرابة (kinship charts) والصور وغير ذلك – غير أن الشاغل المركزي للكتاب هو وضع إطار مفاهيمي أو نظري conceptual. لقد كنت مهتما بدور “القبول /الموافقة consent” في الأنثروبولوجيا الوظيفية البريطانية. لم ذلك؟ ما الذي دفعك لذلك الضرب من البحث، ….
ط أ: ….. كنت قد وصلت لإنجلترا وأنا في سن صغيرة. ومنذ بلوغي 14 عاما، على الأقل، بدأت عندي مشاعر إعجاب لا نظير لها للغرب، أو بالأحرى لفكرة معينة في الغرب المستنير. كنت مُشْبَعَا لدرجة كبيرة بفكرة أن الغرب هو المكان الذي يجد فيه المرء العقل والمنطق، ويجد فيه الحرية، وكل شيء رائع آخر لا يجده في الباكستان. غير أن تجربتي في بريطانيا، ثم هنا في الولايات المتحدة (وأنا هنا أتحدث عن فترة طويلة جدا من حياتي) كانت عملية تحرر بطيء من الوهم والخطأ. لقد مرت أعمالي بمراحل مختلفة …. بدأت أدرك كيف أن الناس في إنجلترا كانوا مشبعين بالتحامل والاجحاف والتَحَيّز. ربما تقول بأني كنت ساذجا جدا لعدم إدراك ذلك (منذ البداية). لقد كنت بالفعل غِرّا ساذجا، غير أنه كان لزاما عليّ أن أتعلم لأدرك مدى سذاجتي. كان إخفاقي لسنوات طويلة في إدراك مدى تَحَيّز وتحامل الناس في إنجلترا بمثابة اكتشاف مذهل بالنسبة لي. يوجد التحامل والاجحاف والتَحَيّز في كل مكان في العالم، غير أنه من المفترض أن الإنجليز يعيشون في قطر غربي مستنير. لذا بدأت في الاهتمام بمسالة الايديلوجية. وقرأت كتب ماركس، حتى وأنا في المرحلة الجامعية الأولى (بأدنبرا)، ولاحقا وأنا طالب دراسات عليا في أكسفورد. كنت حينها منجذبا ومشدوها ومأخوذا بالطريقة التي تحدث بها ماركس عن الهيمنة والأيديلوجية. الشيء الذي أخذته من ماركس في وقت باكر هو إدراك أنه ليس من الضروري حتما أن تكون هياكل وأبنية الهيمنة متجذرة مباشرة في القوة والقبول، بل فيما اسميته في ذلك الوقت “الاستبعاد البنيوي structural exclusion”، وهو شيء مستقل تماما عما يفكر فيه الناس بوعي وإدراك…..
************************
سؤال من د ا: إذن فقد توصلت للتحليل المفاهيمي عبر (دراستك لما كتبه) ماركس؟
ط .أ. نعم.
***********************
سؤال من د ا: ذكرت في مقدمة كتابك عن عرب الكبابيش بأن هدفه كان دراسة علم البيئة الرعوية (pastoral ecology) ونظم القرابة عند الكبابيش، وعندما كنت بينهم حولت تركيزك واهتمامك لدراسة البنية السياسية في مجتمعهم. كيف ذهبت لتدرس بيئة الكبابيش الرعوية، ثم تحولت لدراسة أخرى – وأنت في السودان -؟
ط أ: أعتقد أنني كنت أرفع قبعتي لإيفانز- بريتشارد (أي أعبر عن الاحترام والتقدير له، والاعتراف بفضله. المترجم)، لأنه في كتابه عن النوير، رغم أنه تناول فيه السياسة، إلا أنه كان في الواقع يدور حول طرق عيش النوير وبيئتهم الرعوية. كنت في الواقع أؤمل أن تكون أطروحتي عن الكبابيش قائمة على ذات النسق والنموذج الذي ورد في كتاب ايفانز- بريتشارد. لذا فكرت في أن تكون أطروحتي تحليلا للنظام الرعوي ونظم النسب عند الكبابيش. وكان ايفانز- بريتشارد قد استخدم في بحوثه عن النوير نهج نُظُم “طبقات النسب segmentary lineage” لتبيان نظامهم السياسي، بالتزامن مع دراسة طرق عيشهم الرعوية. وتوقعت أن أجد شيئا مماثلا (عند الكبابيش). وقمت بعمل الكثير من مخططات النسب، وسعدت بوجود نُظُم طبقات النسب عندهم. غير أنه بعد ذلك أتضح لي شيئا فشيء أن هذا كان ببساطة مجرد دالة على الطريقة التي تؤخذ بها الأنساب، وليس لها – بالضرورة – أهمية في الطريقة التي يقوم بها الناس بتنظيم أنفسهم، أو في علاقتهم مع بعضهم البعض …. وبدا لي من العمل لشهور متصلة على مخططات النسب تلك أنها كانت بلا جدوى، وأن نهجي في نُظُم “طبقات النسب” عند الكبابيش ليست إلا مجرد أوهام. ووجهت اهتمامي في البدء لدراسة جماعة الزعامة Chiefly group الذين يحتكرون كل أنواع المناصب والوظائف في داخل العائلة، ويسيطرون على كل بنية الحكومة المحلية. ودرست كيفية حدوث ذلك. وقبيلة الكبابيش كانت هي كيان سياسي حديث نسبيا. وهذا هو التفسير الجزئي لوضعي لتاريخ الكبابيش في منتصف كتابي، وليس في بدايته، كما هو المعتاد في مؤلفات ذلك الزمان. كان الدارسون يومها يضعون في مؤلفاتهم تاريخ القبيلة أولا، ثم يقدمون عرضا اثنوغرافيا لها. ولكني أتيت على تاريخ قبيلة الكبابيش في منتصف الكتاب لأني كنت أرغب في محاولة فهم كيفية إقامة تلك البنية المعينة للهيمنة المحلية. كان الكثير من ذلك يعتمد على فِطنَة وكِيَاسَة مؤسسها الحديث شيخ علي التوم، الذي استخدم البريطانيين من أجل تدعيم وتوطيد سلطته عن طريق جمع مجموعات صغيرة من الرعاة معا.
********** ********** **********
إحالات مرجعية:
(1) لطلال أسد مقال عن حياته وأعماله تجده في هذا الرابط: https://www.researchgate.net/publication/347852743_Portrait_Talal_Asad
(2) أشكر أ.د. عبد الوهاب الأفندي للفت نظري لهذه المقابلة، وقد سبق له أن علق مشكورا في مقدمة له بالجزء السادس من كتاب “السودان بعيون غربية” على ما ورد في ورقة طلال أسد عن الكبابيش التي نُشرت في مجلة السودان في رسائل ومدونات https://sudanile.com/archives/64729. والشكر موصول أيضا لدكتور مصطفى أبو شيبة لتقديمه بعض المعلومات عن طلال أسد، الذي كان قد أشرف على رسالته للدكتوراه بجامعة هل بإنجلترا في ثمانينات القرن الماضي.
لمزيد عن المعلومات عن طلال أسد يمكن النظر في سيرته هنا https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%B7%D9%84%D8%A7%D9%84_%D8%A3%D8%B3%D8%AF ، وفي مقال مترجم في الرابط : https://bit.ly/3E0kK2P
وهناك مقال مترجم لعرض عن كتاب قديم بعنوان “الكبابيش قبيلة سودانية عربية” تجده في هذا الرابط https://sudanile.com/archives/64964

 

رأي واحد حول “مقتطفات من مقابلة مع عالم الأنثروبولوجيا طلال أسد”

  1. شكرا على الإفادة
    السودان كان في منتصف القرن العشرين مثالا متقدما للنهضة العلمية العربية التي وئدت مبكرا .و دراسات طلال أسد و الفانز برتشارد دليل على ذلك…أشكر جامعة الخرطوم لحالها على تقاليد لانني حينما زرتها عام 2008وجدت تسم برتشارد باقي على مكتبه.
    اد محمد نجيب بوطالب

التعليقات مغلقة.