موقع أرنتروبوس

مصطلح الحضارة

حضارة E. Civilization 

الحضارة هي ثقافة معقدة (وعادة ما تكون) واسعة الانتشار تتميز بمصادر تكنولوجية متقدمة وإنجازات روحية متقنة (في العلم والفن). ويغطى هذا التعريف أكثر تفسيرات هذا المفهوم شيوعًا التي قدمها علماء الإثنولوجيا؛ قارن ما يتبع، وانظر على سبيل المثال، التعريف الذي يقدمه مؤلف «قاموس الأنثروبولوجيا» إذ يعرف الحضارة على أنها: «درجة من ثقافة متقدمة نوعًا ما، تكون الفنون والعلوم وكذلك الحياة السياسية فيها على درجة كبيرة من النمو». وطبقًا لهذا المفهوم فإن المصطلح «حضارة» يعني تصنيفًا لطراز خاص من الثقافة وهو بهذا يحتل مكانًا مركزيًا في الإثنولوجيا الأوروبية الإقليمية (قارن ما يلي). إلا أنه عند كثير من الباحثين وبصفة رئيسية عند علماء الاجتماع فإن كلمة حضارة تنطوي على تمييز كامل لها عن كلمة ثقافة، فالاختلاف بينهما اختلاف في النوع، وهذا هو السبب الذي من أجله يستخدم أنثروبولوجي ذو دراية سوسيولوجية مثل ردفيلد Redfield مفهوم «حضارة» في مخططه الفكري المحوري الخاص بالثقافة (انظر ما يلي). فإذا ما نظرنا إلى الثقافات في إطار الاستمرارية التاريخية يصبح الخط النوعي الفاصل بين الثقافة والحضارة واهيًا، ويحل مفهوم الحضارة أحيانًا محل مفهوم «الثقافة الراقية».

ولما كانت التفسيرات الخاصة بهذا المفهوم غير متفقة فيما بينها فإنه يبدو من الضروري إجراء مناقشة مفصلة عن أهميته في عملية إجراء الأبحاث. يبدو أن الخلط في هذه المفاهيم ناجم – إلى حد كبير – عن استخدام كلمة حضارة في كثير من الأحيان في مضامين تحمل معاني التمركز حول السلالة. يقول جينز بيرج Ginsberg إن الحضارة «بمعناها الحرفي تعني مجموع الإنجازات التي تميز الحياة في مدنية منظمة أو في دولة، إلا أن هذا المعنى قد وسع ليشمل إلى جانب التنظيم الاجتماعي، كل الإنجازات الأخرى التي تميز الإنسان عن الحيوان». قارن التمييز الشائع، الذي مازال مستخدمًا، بين كلمة «متحضر civilized» «وغير متحضر uncivilized». ولاشك أن الربط القوي بين كلمة حضارة وبين الثقافة الكلاسيكية (اليونانية، واللاتينية) ليس عديم الدلالة. وبمرور الزمن أصبح لمفهوم الحضارة مظهران متميزان: فهي – من ناحية – أرقى أشكال الثقافة؛ ثم إنها من ناحية أخرى الشكل الخارجي (المادي) للثقافة. ويبدو أن المفهوم الأخير – وهو سائد عند الفلاسفة وعلماء الاجتماع – يرجع جزئيًا إلى رد الفعل إزاء استخدام الفائض المادي كمعيار للحضارة. ومن الممكن بصفة عامة تصنيف جميع التعريفات في ضوء التفسيرين المشار إليهما آنفًا وأن نسمي الأول تفسيرًا إثنولوجيا (وهو ما يفضله الإثنولوجيون) وأن نسمي الثاني تفسيرًا سوسيولوجيا (لأسباب مشابهة). ويتضح لنا مما أوردناه هنا أن التفسير الأول يؤكد أوجه التشابه بين مفهومي الثقافة والحضارة في حين يؤكد التفسير الثاني أوجه الاختلاف بينهما.

ويمكننا أن نتتبع التعريف السوسيولوجي حتى كانط Kant الذي ميز بين الثقافة بمعنى الحالة الأخلاقية وبين الحضارة بمعنى السلوك. وعلى الرغم من أن هذه الفكرة ليست مقبولة عند علماء الاجتماع وأنها قوبلت بنقد شديد على يدي عالم مثل سوروكين Sorokin، فلقد تناولها في الوقت الحديث علماء من أمثال الفريد فيبر Alfred Weber وميرتون Merton وماكيفر MacIver بالشرح والتنمية. يرى فيبر أن الثقافة (أو «الحركة الثقافية») تقابل الفلسفة والدين والفن، في حين أن الحضارة (أو «العملية الحضارية») تقابل العلم والتكنولوجيا. وهو يصف الحضارة بأنها تراكمية والثقافة بأنها غير تراكمية. ويرى ميرتون – الذي تبنى تمييز فيبر هذا – أن الحضارة ظاهرة موضوعية وأن الثقافة ظاهرة ذاتية. إلا أن فصل ماكيفر بين الحضارة والثقافة يختلف عن هذا: فالثقافة التي تعنى عند  ميرتون الفن والدين والعادات تعني عنده مجموعة مترابطة من الغايات؛ والحضارة (التي استبدلها في مؤلفه المتأخر في عام 1942م بمصطلح «المستوى التكنولوجي») تعد مشتملة على التكنولوجيا والاقتصاد والأنساق السياسية التي تكون على جانب كبير من الهيبة والتعقيد، وتوصف بأنها مجموعة مترابطة من الوسائل.

كذلك يميز بعض الإثنولوجيين من ذوي الميول السوسيولوجية بين الثقافة والحضارة تمييزًا كيفيًا مستوحى – تقريبًا – من المؤلفات التي أوردناها في هذا الصدد. ويرى عالم الإثنولوجيا الألماني تونفالد R. Thurnwald أن الثقافة تشتمل على مجموع الأشياء والعادات والأفكار التي تبدو في المجتمعات وتكون مرتبطة بها على حين يجب أن تعد الحضارة هي الكفاءات والمهارات التي تنمو من خلالها التكنولوجيا والمعرفة. وبعبارة مقتضية، الثقافة تستخدم الحضارة كوسيلة لها. وهو يضيف إلى هذا أن الحضارة – على خلاف الثقافة – عملية غير قابلة للانتكاس أو العكس وغير متفردة. أما مالينوفسكي Malinowski فإنه أقل اعتمادًا على علماء الاجتماع إلا أنه مازال متأثرًا بآرائهم، وهو يذهب إلى أن «كلمة ثقافة تستخدم في بعض الأحيان كمرادف لكلمة حضارة، إلا أنه من الأفضل استخدام الكلمتين على نحو متمايز، وتقصر كلمة حضارة على مظهر خاص من مظاهر الثقافة المتقدمة». وأخيرًا، فإن عالم الإثنولوجيا ومؤرخ الثقافة الألماني ديتمر K. Dittmer يقول:«بوسعنا أن نصنف مفهوم الثقافة المشار إليه آنفًا على نحو أكثر تفصيلاً بأن نطلق كلمة حضارة على مستوى التقدم الذي بلغته المهارات والمعارف الفنية وما أمكن تحقيقه بفضلها من الثقافة المادية». على حين نعني بالثقافة، الأسلوب الذي تعمد به وحدة سلالية معينة – طبقًا لاستعدادها وتراثها – إلى اختيار عناصر الحضارة والاستفادة بها على نحو ذاتي متميز. وهي في هذا تسعى إلى الإفادة من البيئة وإمكانياتها في تشكيل أسلوب حياتها الاجتماعية وصبغ الحضارة بروحها ووسمها بشكل خاص متميز».

ومن ناحية أخرى، فإنه من النموذجي إلى حد ما أن عالم إثنولوجيا (أنثروبولوجيا) مثل كروبر Kroeber يتحاشى إقامة أية فوارق رئيسية بين المفهومين. وتتضمن نظرته إلى الثقافة كلا المفهومين: فهو يشير إلى مفهوم الحضارة عند فيبر على أنها «ثقافة الواقع reality culture» ويطلق على مفهوم الثقافة عنده اسم «ثقافة القيمة value culture». يرى كروبر أن «المصطلحين ثقافة، وحضارة، هما عادة مترادفان أساسيان يشيران إلى نفس المجموعة من الظواهر العقلية التجريدية، والتي يكون بينها مقدار ضئيل من الاختلاف في المضمون على أقصى تقدير. ولو صح وجود اختلاف، فهو أن المصطلح حضارة، يتضمن الثقافات الرئيسية فقط، في حين أن جميع المجتمعات البشرية على حد سواء تملك ثقافات، سواء أكانت هذه الثقافات رئيسية أم ثانوية، متقدمة أم متأخرة». ولقد قبل كروبر هنا استعمال تايلور Tylor لكلمتي حضارة وثقافة كمفهومين مترادفين «يشيران دائمًا إلى درجات مختلفة من الشيء نفسه».

ولكنّ هناك – أيضًا – كما ذكرنا آنفًا، تقليدًا إثنولوجيًا آخر تكون الحضارة والثقافة بمقتضاه شيئًا واحدًا، ولقد اتسع انتشار هذا الاتجاه خلال بضع عشرات السنين الأخيرة، وربما كان ذلك بسبب ارتباطه – في بعض الأحيان على الأقل – بالتطورية الجديدة. ومؤسس هذه النظرة إلى الحضارة هو ل.هـ مورجان L. H.. وتمثل الحضارة في المخطط الذي وضعه عن النمو*[1]أعلى مرحلة ثقافية: فمرحلة المتوحش كانت العصر البدائي السابق لعصر صناعة الفخار، ومرحلة البربرية تمثل عصر صناعة الخزف، ومرحلة الحضارة تمثل عصر الكتابة. وربما كان العديد من التعريفات اللاحقة لتعريف مورجان هذا مشتقًا منه. وهكذا، فإن عالمين حديثين من علماء الآثار، وهما تشايلد Childe وكلارك Clark يعتمدان اعتمادًا مباشرًا على هذا التفكير الذي بدأه مورجان إذ يعرفان الحضارة بأنها ثقافات ذات حرف متخصصة وتدرج طبقي اجتماعي ومدن وكتابة. ولقد تبنى ردفيلد Redfield أيضًا هذه النظرة. يقول ردفيلد: «يمكن الإشارة بسهولة إلى الجماعات التي وجدت قبل ظهور المدن الأولى على أنها جماعات ما قبل التحضر». وهو يقول كذلك «الحضارة، دون شك، هي أشياء تضاف إلى المجتمع: المدن، الكتابة، الخدمات العامة، الدولة، السوق، وما إلى ذلك. ويمكن النظر إلى هذه المسألة بطريقة أخرى على أساس مفهوم المجتمع الشعبي. فيجوز لنا أن نقول إن مجتمعاً ما متحضر طالما أن المجتمع المحلي لم يعد صغيرًا أو منعزلاً أو متجانسًا أو ذاتي الاكتفاء، وطالما أن تقسيم العمل لم يعد بسيطًا؛ وطالما أن العلاقات غير الشخصية أصبحت تحتل مكان العلاقات الشخصية، والارتباطات العائلية تخضع للتعديل أو الاستبدال بارتباطات الانتماء السياسي أو التعاقد؛ وطالما أن التفكير أصبح قادرًا على التجريد وعلى أن يكون منظمًا». وبعبارة أخرى فإن مفهوم روفيلد عن الحضارة يعادل مفهومه عن المجتمع الحضري.

ومن الرواسب الغريبة من مخطط مورجان الخاص بالنمو فكرة شبنجلر Spegler التي مؤداها أن الحضارة هي المرحلة الأخيرة الحتمية لتطور الثقافة، وأنها الشيخوخة الثقافية التي تكون سببًا في سقوطها. يعترف المؤرخ توينبي A.J. Toynbee – الذي يمثل إلى حد ما نفس التيار الفكري عند شبنجلر – بدقة أكثر الحضارة بأنها «ميدان دراسي يبدو مفهومًا داخل حدوده الذاتية فحسب». وهكذا فإنه يصنع من التعصب الأصلي المتمركز حول الذات في مفهوم الحضارة معيارًا موضوعيًا.

ومن بين علماء الإثنولوجيا الإقليمية الأوروبيين نجد إريكسون Erixon قد اقترح أن «الحضارة» مصطلح يدل على ثقافة مدنية تنتمي إلى طراز أكثر تقدمًا – فهي «ثقافة تنتظم الحياة الاجتماعية فيها عن طريق القوانين المتعلقة المنظمة التي يقر بها السكان وتكون على وفاق مع آرائهم الدينية». وفي سياق آخر يقدم إريكسون هذا التعريف: «تتكون الحضارة من مجموع جوانب الثقافة المتحركة التي تتبدى من خلال التعليمات الرسمية للدولة وأنماط السلوك الاجتماعي، والثقافة المختزنة، وبعض الظواهر العقلية والجمالية للثقافة المتحركة أو الثقافة الطاردة (ذات قوة الطرد المركزية). ويترتب على ما سبق أن الحضارة لا تشيع بين شعب بأكمله إلا في الظروف الملائمة وعند شعوب متقدمة جدًا لديها طريقة ديمقراطية في الحكم. ولا تتعارض الثقافة الشعبية مع الحضارة ولكنها مع هذا لا تختلط بها بوجه عام». ومن الواضح أن مفهوم إريكسون عن الحضارة يقترب كثيرًا من مفهوم ردفيلد الذي سبق عرضه. ومهما يكن من شأن، فإن مفهوم الحضارة عند إريكسون جوهري بالنسبة لمحاولاته في الفصل بين دراسة الحياة الشعبية وهي دراسة الجماعات الشعبية في المجتمعات المتحضرة – وبين الإثنولوجيا العامة – وهي دراسة التطور الثقافي الشامل مع التركيز على دراسة تطور الثقافة البدائية.

ويتضح منهج إريكسون في تحديد مضمون مفهوم الحضارة من الفقرة التالية: «لم يكن هناك في الأصل شيء مشترك بين الحضارة وبين الحضارة التكنولوجية. فالحضارة ترتبط بالثقافة الاجتماعية، وليس من الضروري أن يمتد معنى الحضارة حتى يتضمن الأنشطة الثقافية التي نشأت خلال كل العصور أو كل النظم السياسية وإنما هي تتضمن الأنشطة الثقافية التي لا تتجاوز بعض الحدود الجغرافية والتاريخية. ويبدو لي من الأنسب تعريف الحضارة بما يتفق مع المعنى الأصلي للكلمة، كثقافة اجتماعية تنتظم وفقًا لمعايير ثابتة. ومع هذا فمن الملائم تحديد هذه الفكرة تحديدًا أكثر تفصيلاً عندما تعرض لتلك الثقافات العقلية الراقية، حيث يسود في العادة قدر من التوازن الجيد بين الدين والأخلاق والتعليمات الرسمية، توازنًا تؤكده فقط بعض الطبقات الحاكمة وإنما يؤكده كذلك الأفراد العاديون. ومثل هذه الظروف الثقافية تفترض درجة من التطور المتفوق، ومن المألوف كذلك وجود نوع من المعرفة باللغة المكتوبة وبالأدب. وفي المجتمعات التي تتميز بنوع من الديمقراطية المتقدمة جدًا وبالتعليمات الشعبية المنتشرة بوجه عام، يمكن أن تتخلل الحضارة كل الشعب بحيث يتميز بها كل فرد». وهكذا يصل إريكسون، انطلاقًا من المعنى الأصلي لكلمة حضارة، إلى أساس محدد لتفسيره لهذا المفهوم.

والانطباع العام الذي يخرج به المرء من تتبعه لهذه التعريفات المختلفة لمصطلح «حضارة» هو وجود نوع من الخلط وعدم الوضوح، فالاتفاق ضئيل جدًا بين الدارسين لهذا الموضوع، ويحسن بنا أن نؤيد انتقاد جاكوبز وستيرن لمصطلح حضارة، بأنه «مصطلح فضفاض مشكوك في قيمته».

 

مراجع: Childe 1951; Dittmer 1954; Erixon 1951 a, b; Ginsberg 1950; Jacobs & Stern 1947; Kroeber 1948, 1952; MacIver 1931; MacIver & Page 1949; Malinowski 1931; Merton 1936; Morgan 1877; Redfield 1953; Sorokin 1941; Spengler 1918; Thurnwald 1950; Toynbee 1934-39; Tylor 1871; Weber 1920; Winick 1956.

 

 

[1]* المقصود هنا هو التطور evolution وليس النمو بمعنى progress ، إذ يستخدم هو لتكرانس كلمة development ذات المفهوم العام.

Exit mobile version