موقع أرنتروبوس

في مشروعية الحركات الاجتماعية الجديدة

حالة المغرب

د.عبد المالك ورد

جامعة مولاي إسماعيل، كلية الآداب والعلوم الإنسانية/ مكناس- المغرب.

مقدمــة:

إذا كانت سوسيولوجيا الحركات الاجتماعية والفعل الاجتماعي تبقى مطبوعة بقوة بالمساهمة الأمريكية دون أن تتمكن إسهامات الباحثين الأوربيين مع ذلك من التأثير على روحها الأمريكية، فهل يمكن فعلا التحدث عن حركات اجتماعية وعن سوسيولوجيا لهذه الحركات خارج هذين المجالين في العالم العربي الإسلامي؟ ثم إذا كان ذلك ممكنا هل من الممكن تطبيق نفس أدوات التحليل التي استعملتها سوسيولوجيا الحركات الاجتماعية في المجتمعات الغربية كمجتمعات متميزة على مستوى المؤسسات التمثيلية وعلى مستوى الديمقراطية بشكل عام لفهم المجتمعات اللاغربية؟

ماذا يمكن القول عن علاقة المشاركة السياسية فيما يخص انبثاق الحركات الاجتماعية؟ هل من المجدي الاستمرار في نفس نتائج وخلاصات الدراسات السوسيولوجية الغربية

التي تركز على الاختلاف بين الأنظمة الديمقراطية واللاديمقراطية  وخصوصا في الوقت الذي نلاحظ فيه توسعا وحضورا لافتا للانفجارات الحضرية بالمدن الصناعية الكبرى داخل البلدان ذات التقاليد الديمقراطية العريقة كما هو الشأن في فرنسا على سبيل المثال؟ ألا تعيش الأنظمة الديمقراطية ذاتها أزمة في المشاركة السياسية والانتخابية؟ هل قوة الحضور المؤسساتي والمأسسة تؤدي حتما إلى مشروعية هذا القول وهذا الفصل بين النظامين واعتبار اللامأسسة مؤشرا على حركات اجتماعية عفوية؟

إن أزمة المشاركة حسب المعطيات الراهنة هي عامة لا يمكن ربطها واختزالها في نسق بعينه وفي مجتمع معين مادامت الأوضاع الاقتصادية ومجتمع اللاحدود الذي تعيشه البشرية اليوم تؤكد بجلاء هذا الواقع المقرون بتردي أوضاع نسبة مهمة من الشرائح الاجتماعية. لكن ماذا نقصد بالحركات الاجتماعية الجديدة؟ هل تعبر عن مطالب جديدة حقا لم تكن واردة فيما قبل في أجندة الحركات السابقة؟ من أين تستمد جدتها وتميزها ومن ثمة مشروعيتها؟

إذا كانت الحركة الاجتماعية هي انبثاق تاريخي وانعكاس لشروط موضوعية، وإذا كان استعمال مفهوم الحركات الاجتماعية الجديدة، استعمالا له ما يشرعه، فقد ارتبط حتما بشروط تاريخية محددة وبفترة زمنية يمكن حصرها مع نهاية سنوات الستينيات وبالخصوص بعد ثورة 1968، فإن المفهوم لا يعني لنا في هذه الورقة سوى مقابلا للحركة العمالية كحركة اجتماعية أخذت حيزا مهما في التاريخ وفي قلب اهتمامات البحث في العلوم الاجتماعية نظرا للقوة التي أبانت عنها في قلب البنيات وإعادة صياغة الأنظمة الاجتماعية.

إن الواقع العلمي يشهد على ندرة الدراسات السوسيولوجية حول موضوع الحركات الاجتماعية بالشرق الأوسط والبلدان المغاربية، فراغ حاول بعض الباحثين الشباب تجاوزه مع بداية سنوات التسعينات[1] مقدمين منظورا مخالفا في دراسة وتحليل هذه المجتمعات متجاوزين بذلك فكرة الاختلاف الأنطولوجي بين المجتمعات الديمقراطية واللاديمقراطية وأسطورة الخصوصية الثقافية والدينية للمجتمعات الإسلامية غير القابلة للاختزال والتي لقيت رواجا في الدراسات الغربية والتي ركزت على “الحركات الإسلامية” فقط على حساب كل أشكال الاحتجاج الأخرى[1].

إن أهمية هذه الملاحظات تتجلى في كونها تطالبنا أكثر بالمزيد من الدقة والحذر الإبستمولوجيين حينما نريد الملامسة العلمية للموضوع في بلداننا العربية الإسلامية، التي لها ما يميزها بدون شك دون أن يكون ذاك التميز بمثابة فاصل قطعي ومطلق مع المجتمعات الصناعية أو ما بعد الصناعية، والتي ساهمت بدرجات كبرى في رسم معالم المجتمع الحالي كمجتمع شبكات أو معرفة وإعلام يتجاوز الحدود وكل أنواع الخصوصيات. فقد أصبح الاجتماعي اليوم في ظل هذا المجتمع المتشابك يحمل سمات جديدة أمام الإمكانات المتوفرة والغزيرة في تشكيل جماعات افتراضية باستمرار وما ينتج عنه من إعادة تعريف وتحديد للاجتماعي.

إن أي معالجة لموضوع الحركات الاجتماعية في نظرنا لا يجب أن يخرج عن هذا السياق، سياق الكوكبة والحوسبة على مقاس ليبرالي، يعيد النظر في العديد من المفاهيم المتداولة تقليديا، كمفهوم الزمان والمكان والخرائط الجغرافية والحدود وما يقابل كل ذلك على صعيد الفعل الجماعي كما سبق أن سجل ذلك عالم الاجتماع الكبير بيير بورديو، الذي بصم الفكر السوسيولوجي بنظرياته وإسهاماته المتميزة، حينما طالب بتشكيل حركة اجتماعية أوربية (نقابية) تقطع بشكل راديكالي مع الخصوصيات الوطنية والتقاليد النقابية التي تبقى دائما محصورة داخل الدول[1] أو كما تعبر عن ذلك حركة مناهضة العولمةLe mouvement altermondialiste وفعلها الاجتماعي.

إن ما نعيشه اليوم من تحولات سوسيو اقتصادية مرتبطة بالأساس بالأزمة المالية التي انطلقت من الولايات المتحدة الأمريكية لتتوسع نحو باقي بلدان العالم يطرح سؤالا رئيسيا يتعلق بما إذا كان بالإمكان اعتبار هذه الأزمة حالة عابرة تدخل ضمن ما هو تقني سريع التجاوز أو على العكس من ذلك تماما وجب النظر إليها بكونها أزمة بنيوية تمس نمط الإنتاج ومختلف التصورات والتنظيمات المرافقة له.

من الملاحظ أن هذه الأزمة، التي بدأت في الانتشار سريعا، كانت تبعاتها كذلك بالنسبة لشرائح مهمة، مما دفع بالمحللين الاقتصاديين وصانعي القرار على حد سواء إلى دق ناقوس الخطر والمطالبة بضرورة تبني خطط اقتصادية عاجلة من طرف الدول للتخفيف من حدة هذا الوضع المتفاقم. فهل من المعقول  إذن أن تكون الأزمة مجرد مسألة تقنية قابلة للمعالجة الآنية مع حجم وخطورة النتائج المسجلة؟

إن مثل هذا التوسع لا يمكن أن يكون مجرد خطأ تقني، مادامت سياسات العولمة قد أفضت إلى تعميق الفوارق الاجتماعية وتقليص مساحة الطبقات المتوسطة جراء التهديدات المستمرة التي تلاحق القدرة الشرائية لساكنة العالم. أفلم يطالب بعض المدافعين عن النيوليبرالية العودة إلى الوصفة الاشتراكية التي تلعب فيها الدولة دورا مركزيا في الاقتصاد؟ ماذا عن سوء توزيع الثروات بين الأفراد والشعوب؟ فمن المؤكد أن كل الإحصائيات الموجودة على المستوى الدولي تبين النسبة المهولة للفقر والفقراء. أفلا يكون المنظور الماركسي للصراع وللتغير الاجتماعي باعتباره يعتمد على الحركة العمالية بالأساس كحركة اجتماعية ممتلكة لأدوار حاسمة في التاريخ الإنساني مازال متمتعا براهنيته في ظل الأوضاع الحالية؟ ألم تستنهض الحركة النقابية، كحركة اجتماعية تقليدية، قواها من جديد في ظل التحولات السوسيواقتصادية الراهنة لكي تنتصب كفاعل وكلاعب رئيسي بعدما عاشت لسنوات هوية مشوهة؟

فقد قدمت الاحتجاجات والإضرابات النقابية، في الأيام القليلة الماضية في مختلف بقاع العالم، دليلا قاطعا على عودة الفعل النقابي لوضعه التقليدي. كما عادت النقابة لافتتانها ولسحرها ومركزيتها بعدما عانت لمدة طويلة من الركود والأزمة وأصبحت شبه متجاوزة أمام احتكار أصحاب الرأسمال للقرارات المرتبطة بالمقاولة والتسريحات المتتالية والكبيرة التي مست الطبقة العمالية حيث باتت نسبة العطالة تمثل أرقاما قياسية على المستوى العالمي.

فأمريكا التي ضربت فيها الأزمة بعمق وسببت العديد من الانهيارات في البنيات المالية أولا لتتبعها انهيارات في بنيات أخرى سواء بقطاع الصناعة أو الخدمات أو باقي القطاعات الأخرى دفعت بالرئيس الأمريكي هذه المرة باراك أوباما أياما قليلة قبل تنصيبه رسميا بدعم مطالب الحركة العمالية المحتجة وأن يقف موقفا مخالفا للتقاليد السالفة التي ووجهت بها التنظيمات النقابية كما حدث مع 240 عامل بشركة Republic Windows & Doors بشيكاكو دجنبر 2008  والذين احتلوا مقر الشركة إثر إبلاغهم بقرار تسريحهم[1]. وهو القرار الذي كان سيفضي بهم إلى السجن في الظروف السابقة. ألم تدشن الولايات المتحدة مع رئيسها المنتخب الحالي باراك أوباما لعصر التغيير حينما جعل من الاعتقاد في التغيير شعار حملته الانتخابية والقطع بالتالي مع عهد جورج دابليو بوش وتشدد المحافظين الجدد الذي قاد البلاد إلى نتائج كارثية سواء فيما يتعلق بسياساتها الداخلية أو الخارجية؟ أم أن الأمر لا يعدو أن يكون تسويقا لصورة انتخابية لم تنته مدة صلاحيتها بعد؟

ولم يختلف الوضع بفرنسا التي أرخت هذه المرة مع الإضراب العام الذي خاضته الحركة النقابية الفرنسية يوم29 يناير 2009 إلى موقع مغاير للحركة العمالية الفرنسية. فقد كان الانخراط واسعا في هذه الحركة الاحتجاجية التي نادت من خلال منتدى تنسيق “لجان 29 يناير” إلى حركة اجتماعية مستديمة[1]. نحن إذن أمام حركة من نوع مخالف لما تم رسمه طوال فترة ليست بالقصيرة وأمام تحول كبير يرافق تلك الأزمة التي رافقت عالم المال والاقتصاد في مجموعة من البلدان العالمية.

فماذا عن الدينامية المرتبطة بالحركات الاجتماعية في المجتمع المغربي؟ هل بالإمكان التحدث عن مجال عام يتسع للجميع؟

في سوسيولوجيا الحركة الاجتماعية والمجال العام بالمغرب:

إذا عدنا إلى النظرية الماركسية كبراديكم له أهمية خاصة في العلوم الاجتماعية نجدها لم تتطرق إلى مفهوم الحركة الاجتماعية بوضوح تام. وهذا ما جعل الكتابات الماركسية على الأقل في المناخ الأوربي تطور منظورا أحاديا للحركة الاجتماعية التي اقترنت بالحركة العمالية كما هو الحال بالنسبة لكتابات ألان تورين[1] الذي يؤكد على أن الحركات الاجتماعية الحقيقية هي التي تتجاوز مطالب مجموعة أو طبقة ما، نحو مساءلة الهيمنة الشاملة بهدف مراقبة التطور.

ولذلك فإن الحركة الاجتماعية حسب تورين، وانسجاما مع الخط الماركسي دائما، هي الفعل الجماعي الذي من خلاله يناضل الفاعل الطبقي من أجل التوجيه والقيادة الاجتماعية للتاريخانية أو التوجيه الثقافي للمجتمع من أجل التحكم في التوجهات الكبرى للتغير الاجتماعي.

ويرفض فرانسوا شازل François Chazel بدوره أي تعريف اختزالي للحركة الاجتماعية، معرفا إياها كمقاولة جماعية للاحتجاج والمعارضة تستهدف فرض تغيرات عميقة في البنية الاجتماعية والسياسية، بالعودة المكثفة لوسائل لا مؤسساتية. وهو تعريف يضع القنوات التقليدية للديمقراطية التمثيلية موضع أزمة [1].

إن الحركة الاجتماعية وفق هذا المنظور لن تكون شيئا آخر سوى رفض منطق الرأسمالية السائد باعتباره قائما بالضرورة على الاستغلال واللامساواة.

فماذا عن الحركة الاجتماعية الجديدة؟

إن الإطار التاريخي الذي يؤسس ويفكر الحركات الاجتماعية باعتبارها جديدة، كان هو أواخر سنوات الستينات كما سبقت الإشارة إلى ذلك انطلاقا مما عرفته من أشكال احتجاج مغايرة لما كان سائدا في السابق نظرا لتبدل في المطالب والأولويات الاجتماعية بتحول المجتمع في نظر البعض من مجتمع صناعي إلى مابعد صناعي أو مابعد حداثي. هكذا نشأت وترعرعت حركات نسائية مطالبة بإعادة النظر في مكانة المرأة وشروط وجودها، كذلك خرجت إلى الوجود مطالب متعلقة بالبيئة وتنظيمات خاصة بالأقليات المهاجرة أو بالسلام الخ…

لم تعد الحركة العمالية هي القطب الذي تتمحور حوله المطالب واقتضت التوازنات أشكال تنظيمية بديلة للسابقة على مستويات مختلفة استجابة للشروط المعاشة بتحولاتها البارزة.

إن ما يجعل هذه الحركات متفردة في تكونها هو أولا ابتكارها وتنفيذها لأشكال احتجاج أقل مؤسساتية كما هو الأمر مع الاعتصام، احتلال مقرات أو الإضراب عن الطعام[1]. كما يكمن الاختلاف في القيم والمطالب التي ترافق التحرك، حيث تركز الحركات الاجتماعية الكلاسيكية قبل كل شيء على إعادة توزيع الثروات والوصول إلى مواقع القرار في حين تشدد الحركات الاجتماعية الجديدة على مقاومة المراقبة الاجتماعية والدفاع عن الاستقلالية. إن مطالبها تكون في الغالب غير قابلة للتفاوض كما هو الحال مع مطلب إغلاق مفاعل نووي أو إلغاء قوانين لا تخدم المثليين الجنسيين عكس التفاوض حول مطلب الأجر.[1]  فإذا كانت صارمة في مطالبها فإنها أيضا مختلفة في هويتها عن الحركة العمالية التي لا تحيى إلا بانتمائها وهويتها الطبقية. فالحركات الجديدة لا تعرف نفسها بتاتا باعتبارها تعبيرا طبقيا أو فئات سوسيومهنية بعينها[1].

غير أن كل حديث عن الموضوع يبقى مشروطا بوجود مجال عام تنمو فيه هذه الحركات لكي تقوم لاحقا ببلورة وعرض مشاريعها. وهو ما يجعلنا نتساءل عن المفهوم وعلاقته بالمجال الخاص وما إذا كانت التمايزات بينهما واضحة بما فيه الكفاية بالمجتمع المغربي. كذلك الأمر بالنسبة لمسألة الحدود بين المجتمع المدني والدولة خصوصا في هذه المرحلة بالذات المسماة بالانتقالية من طرف غالبية الفاعلين السياسيين والتي تريد أن تجعل من هذا الأخير واقعا موضوعيا في غياب شروط ذلك. دون إهمال الدور الذي أصبح يتقلده مجموعة من اليساريين السابقين المعتدلين أو الراديكاليين في دواليب الدولة أو مؤخرا إلى جانب بعض الشخصيات النافذة والمقربة من القصر[1] والذي أعاد النظر في العديد من المفاهيم وخصوصا الدور الذي يمكن أن يتقلده اليسار في أي حركة اجتماعية.

لقد كانت ولادة المجال العام حسب العالم الألماني هابرماس مع المجتمع البرجوازي الذي خلق مجالا حقيقيا للوساطة بين المجتمع المدني والدولة كمجال للسلطة العمومية لمعارضة مبدأ السر الذي رافق الدولة الملكية[1]. فهو المجال الذي لا وجود فيه لما هو خاص بما في ذلك المواضيع التي يمكن اعتبارها تدخل ضمن حميمية الأشخاص كالجنسانية والدين. لا وجود للطابوهات أو السر أو لما هو خاص لأن الكل قابل للنقاش والسجال الفكري والتناظر. إنه على هذا الأساس مجال للاختلاف والتباين، مجال تذوب فيه الهيمنة والفاعلية الأحادية وتحضر فيه كل المشروعيات. إنه باختصار مجال للحرية والمساواة يفترض وجود أفراد مستقلين قادرين على تشكيل آراءهم بدون الخضوع إلى الخطابات المهيمنة[1] ومن دون العودة إلى العنف.

لكن وإذا ساءلنا هذه العناصر بالمجتمع المغربي فستكون النتيجة بدون شك لا متطابقة مع المميزات المذكورة مادام الإقصاء والتهميش يبقى هو العملة الرائجة. فالانفجارات الحضرية التي سجلتها المدينة المغربية ومازالت تسجلها هي بمثابة مثال بارز على واقع الإقصاء هذا. إنه من خلال هذه التعبيرات الاحتجاجية تسعى الساكنة وخاصة فئة الشباب إلى التعبير عن آراءها عن طريق أعمال الشغب والعنف مادامت الصيرورة الاجتماعية العادية لا تمنحه إمكانية التحدث والكلام في ظل المشروعية السياسية الأحادية وفي خضم السرعة الطبيعية والزمن الاجتماعي العادي. إنها تعبيرات احتجاجية تشهد على حالة إقصاء وتهميش على كافة المستويات ومن ثمة غياب لمجال عام يعبر عن مجموع الآراء ووجهات النظر دون وصاية أو هيمنة.

غير أن هذه الاحتجاجات الزوبعة  Mouvement-tourbillonالتي سرعان ما تظهر وسرعان ما تختفي[1] حتى وإن شكل العنف والدمار مكونها الأساسي فإنها تظل عاجزة عن تحقيق مطالبها الصريحة أو الكامنة المرتبطة بالاعتراف بها عبر الإنصات إليها واندماجها الشامل الذي يمر حتما عبر إدماجها السوسيومهني. فهي في الغالب لا تلقى أي مساندة من طرف الهيئات السياسية والنقابية على حد سواء. فمؤشرات الإقصاء تظل جلية سواء تعلق الأمر بنسبة العطالة المستشرية وسط مختلف الفئات أو بدرجة الاستفادة من الخدمات العمومية الأساسية أو الرفع من القدرة الشرائية، إلخ.

إن الانفراج السياسي الذي قد يرافق هذه الاحتجاجات لا يوازيه انفراج سوسيواقتصادي في الواقع. حيث اللااندماج والتهميش هو ذاته والمراقبة الاجتماعية هي كذلك والتحولات تظل سطحية دون أن تعبر نحو الجوهر. وما الأحداث العنيفة التي عرفتها مؤخرا مجموعة من المناطق المغربية كما هو الحال بالنسبة لمدينة سيدي إفني يوم 6 يونيو 2008 (جهة سوس ماسة- درعة) وقبلها مدينة صفرو يوم 23 شتنبر 2007 (جهة فاس بولمان) سوى تأكيدا صريحا لاستمرار الوضع القائم حيث استمرار السلطات العمومية في مسلسل الزيادات في المواد الأساسية التي بدأ منذ سنوات دون أن تمثل هذه الاحتجاجات العنيفة سلطة مضادة للمنطق السائد.

ولم تستطع المسيرات المليونية (التي لم يعد لها معنى) التي يؤرخ لها الشارع المغربي منذ سنوات التسعينات كما هو الشأن مع مسيرة 3 فبراير 1991 خلال حرب الخليج الثانية أن تروض أو تهذب هذا اللون الاحتجاجي الذي رغم هشاشته يظل حاضرا في البنية الاجتماعية. ومن بين العوامل المفسرة لهذا الضعف في نظرنا نجد الموقع المركزي الذي مازالت تتمتع به المؤسسة الملكية في النسق السياسي المغربي. فالدينامية السياسية والاجتماعية أصبحت ترتبط أشد الارتباط بهذه المؤسسة ومبصومة بها بشدة منذ سنوات التسعينات وخصوصا بعد 1999 وما سمي بالعهد الجديد.

إن المشروعية السياسية للمؤسسة الملكية في تدبير الشؤون العامة أصبحت قياسية بعدما تجاوزت حدود التعريفات الكلاسيكية لهذه المؤسسة بل أخذت بعدا آخر من خلال الحضور الميداني المكثف والزيارات التي يقوم بها الملك بشكل شبه متواصل وخصوصا زيارة المجالات المهمشة التي لم تكن حاضرة سابقا في أجندة هذه المؤسسة. كل هذا جعل المؤسسة الملكية تتمتع بقوة متميزة وخصوصا بعد دخول المعارضة التقليدية إلى الحكم مارس 1998 في إطار ما سمي بحكومة “التناوب التوافقي” بقيادة الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، والتي راهن عليها عدد كبير من الساكنة ومن النخبة على حد سواء في التصدي للعديد من المعضلات الاجتماعية لكن من دون جدوى.

فقد ارتفعت وتيرة الاحتجاج والحركات الاحتجاجية بعدما كانت ضعيفة دون أن يحمل ذلك أي قيمة في كثير من الأحيان. فعبر هذا الحضور المتزايد لهذه الحركات في الشارع العمومي خلال هذه المرحلة تم إفراغ الفعل الاحتجاجي من مضمونه. وازدادت الهيمنة على المجال السياسي قوة في المرحلة الراهنة وخصوصا مع تجربة هيأة الإنصاف والمصالحة IER[1] ضمن ما عرف بلجان الحقيقة والإنصاف عبر العالم التي كرست لأجل القطع مع ممارسات الماضي وتعويض ضحايا القمع والممارسات اللاقانونية وانتهاكات حقوق الإنسان وجبر الضرر، خلال المرحلة التي يصطلح عليها في الأدبيات السياسية بسنوات الرصاص، والتي أوكلت للمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان كمؤسسة رسمية الإشراف على تطبيق التوصيات التي خرجت بها الهيأة. وقد تعززت صورة الملك كفاعل رئيسي إن لم يكن الفاعل الوحيد من خلال إطلاق العديد من المبادرات كما هو الأمر بالنسبة للمبادرة الوطنية للتنمية البشرية التي أطلقت ماي 2005 لأجل محاربة الفقر والحد من الهشاشة[1] بمجموعة من الجماعات القروية والأحياء الحضرية الأكثر فقرا (360 جماعة قروية و 250 حي حضري وشبه حضري)[1] على امتداد خمس سنوات بميزانية تقدر بعشر ملايير درهم لتمويل مختلف المشاريع المرتبطة بالمبادرة، 60% تتحملها ميزانية الدولة و20% الجماعات المحلية في حين يمول الباقي من خلال التعاون الدولي.

وتزداد سلطة الملك قوة بصفته أميرا للمؤمنين حيث يصبح تأويل النص المقدس وإعادة هيكلة الحقل الديني، الذي يبنين معظم الأنشطة الاجتماعية، من اختصاصه حرصا على عدم ضياع المعنى وسط تزايد الجهات التي تعتبر التأويل من اختصاصها.

ونجد في التحول الذي رافق الحركات الاجتماعية والمجتمع المدني عاملا آخر من عوامل أزمة هذا الأخير حيث الهيمنة الواضحة للتصورات المرتبطة بالرأسمال العالمي عبر التحكم في التغير الاجتماعي ووثيرته بواسطة الإنتاج القوي للإيديولوجيا المقاولاتية ودعم الأطر الاجتماعية التي تلائم تطور التنظيمات الرأسمالية والثقافة المنبثقة عنها.

فهيمنة منظور تنموي أحادي يرتكز على مفهوم الهندسة الاجتماعية والمقاربة التقنية لقضايا التنمية البشرية بشكل عام جعل هذه الحركات في تبنيها الأعمى لهذا المنظور تعاني من الضعف والهشاشة سواء على المستوى التنظيمي أو على مستوى الفعل الاجتماعي الذي يشكل علة وجودها.

إن هيمنة هذا المنظور على الأفراد والذهنيات أمام إخفاق المشاريع الفكرية والإيديولوجية الأخرى وبخاصة الماركسية منها والتحولات المرافقة لذلك جعل غالبية اليساريين يرحلون بشكل نهائي نحو التوجه السائد والتبني اللامشروط للقيم المرافقة له مادامت المصلحة العامة التي راهن عليها هؤلاء في السابق لم تعد تحتل مركز الصدارة في جدول أعمالهم تحت ذريعة عدم جدوى الثقافة التقليدية التي جعلتهم يقضون في معظمهم سنوات طويلة بالسجون.

فهل يسمح هذا الانزياح نحو التنظيمات المدنية بالمغرب من طرف مختلف الانتماءات الإيديولوجية وخاصة اليسارية منها بعد زوال سحر البراديكم الماركسي على الخصوص باستنتاج وجود مجتمع مدني قوي وحقيقي قادر على منافسة السلط الأخرى وفرض ثقافة مدينية تخترق البنية الاجتماعية أو أن ذلك لا يعدو أن يكون بمثابة تشكلات سطحية لا تمتلك مقومات الفعل والتغير العميق؟ هل التغير في هذا المستوى وجب أن تحسم فيه العوامل التي تعتمل في الداخل أم الشروط التي تمليها سرعة المجتمع الدولي ومؤسساته المالية التي تؤسس لتصورات وطبيعة مجتمع المستقبل وقواه؟

إن المتتبع لحركة النسيج الجمعوي المغربي لا بد وأن يلاحظ منذ النصف الثاني من التسعينيات من القرن الماضي أن هناك تحولا كبيرا على المستوى الكمي وعلى مستوى إعادة تعريف مفهوم الجمعية والمجتمع المدني. فهذا الأخير وانطلاقا مما أصبح يميزه من ارتباط عميق بالأجندة والتصور الدولي للتنمية وللتدخل والفعل في البنيات لإحداث التغيرات المطلوبة أصبح في ارتباط جدلي مع التمويلات التي تمنحها له الدول التي تتحكم في اللعبة على المستوى العالمي إن بشكل رسمي أو عبر المنظمات غير الحكومية ONG.

إن هذا الارتباط بقيم وثقافة الليبرالية الجديدة أفرغ الحركات الاجتماعية من معناها وأضعفها حيث غالبا ما يتم تحميل الفرد جزءا من المسؤولية إن لم تكن كاملة في الوضع الاجتماعي الذي يعيشه وفي تغيير شروط عيشه دون أن يكون للفعل الجماعي معنى في هذا الإطار. إن هذا التناسل اللامحدود للتنظيمات الجمعوية في السنوات الأخيرة بالمجتمع المغربي هو نتيجة مباشرة لهذا المنطق المسنود بالتمويل الخارجي. فالنموذج الناجح في أعين الفاعلين مهما اختلفت مواقعهم اليوم هو هذا الفاعل الجمعوي التنموي الذي يشتغل وفق تصور الهندسة الاجتماعية الذي يقوم على فلسفة التعبئة الذاتية للأفراد من أجل النهوض بأوضاعهم السوسيواقتصادية بأنفسهم بدل التعويل على أطراف أخرى وخاصة الدولة.

في ظل هذا الواقع إذن سيكون من باب المجازفة استنتاج وجود مجتمع مدني قوي قادر على الفعل في البنيات الاجتماعية الموجودة وتقديم أجندة متميزة بفاعلية واضحة. فهناك العديد من التنظيمات الجمعوية التي تحولت إلى شريك ممتاز للعديد من المنظمات غير الحكومية الدولية وهي التي لا يجمعها بالمجتمع المدني وبالساكنة سوى الحصول على التمويلات باسمه. فكم هو عدد التنظيمات التي تشتغل في مجال حقوق الإنسان والمرأة بقيادات لا يجمعها أي شيء عملي مع خطاب الحقوق. فهي أول المخترقين لحق الإنسان، بتسييرها المتميز بقيادة أحادية متمرسة على مواجهة المطالب الديمقراطية والمشاركة في تدبير جماعي، ضدا على ما تنص عليه قوانينها الأساسية.

إن ما تكشف عنه التجربة الواقعية لما يدعى المجتمع المدني لا يتجاوز في هذه الحالة “ولع نشطائه بالنقد الشكلاني للأحزاب السياسية الذي غالبا ما ينتهي بتبني مواقف عدمية من السياسة، تعمل السلطات، خصوصا المتسلطة منها، على تغذيتها بالخلط والتلاعب، مما يسهل تحييد المنظمات “المدنية” أو تحويلها، في أحسن الأحوال، إلى قنوات التوافق والتسوية في ظروف اشتداد الصراع السياسي”.[1]

ليست هذه التنظيمات الجمعوية أو ما يطلق عليه عادة بالمنظمات غير الحكومية سوى حركات اجتماعية محولة تم إخضاعها لترمينولوجيا جديدة تعتمد سياسة التمويل من طرف الدولة أو المؤسسات المالية على الصعيد الدولي أو المؤسسات الحكومية الدولية كأساس صلب لفعلها.

وتتجلى هذه الثقافة الجديدة بجلاء في التحول الذي عرفه قاموس اليسار السبعيني بالمغرب الذي حول مفاهيم الثورة والجماهير والتغيير الجذري والجمهورية الشعبية بمفاهيم جديدة كالتدبير الناجع والمواطنة والتنمية ودولة القانون … الخ[1].

لقد أصبح مفهوم الاحتراف والإنسان الاقتصادي الذي لا ينفعل إلا بحسب غايات ربحية كما سبق أن بين ذلك أصحاب نظرية الاختيار العمومي هو المؤطر الأول للفعل الجماعي. وهو عنصر آخر ينضاف إلى ضعف الاحتجاج والحركات الاجتماعية.

ولمعالجة إشكالية الحركات الاجتماعية الجديدة بالمغرب سنعتمد عينة تتشكل من حقلين متبايننين: حقل النوع من خلال الحركة النسائية، وحقل الشغل من خلال حركة العاطلين الحاملين لدبلومات جامعية. إن وجاهة هذا الاختيار من وجهة نظرنا تتجلى في مدى استقلالية أو لااستقلالية هذه الحركات عن الفاعلين التقليديين: التنظيمات السياسية والنقابية. فهذا الاختيار يبدو لنا عنصرا مهما من عناصر التمثيلية. فالحركة النسائية التي إلى حد ما حركة راكمت فعلا جماعيا مهما على صعيد تغيير مكانة المرأة تبقى في معظمها مرتبطة بالأحزاب السياسية من خلال القطاع النسائي الحزبي وخاصة بالتنظيمات المنحدرة من الحركة الوطنية. أما الحركة الثانية فهي حديثة مقارنة مع الأولى وتتميز بتكونها خارج الفضاء الحزبي وبعدم تبعيتها له. وعموما يمكن القول بأننا أمام حركتين متباينتين إلى حد كبير سواء تعلق الأمر بعلة وجودهما أو بالأشكال المنتهجة في تحقيق الأهداف.

فهل ستشكل هذه الحركات الاستثناء داخل خريطة الفعل الجماعي بالمغرب؟

بطبيعة الحال لن تشكل هذه الحركات الاستثناء داخل الإطار العام الذي يؤطر العمل الجمعوي بالمغرب حتى وإن تميزت بمطالبها وأحيانا بأشكال تعبئتها وحركتها.

لذا فإن السؤال الذي يمكن أن ننطلق منه في هذا الصدد هو التالي: هل الشارع المغربي مازال ينتج الحركة الاجتماعية في ظل الشروط المشار إليها والتي تنتج الابتذال والتشوه؟ ما هو حجم حضور الأشكال النضالية اللامؤسساتية داخل هذه الحركات الاجتماعية؟ هل فعلا يمكن أن نلاحظ تراجعا في المنطق الملازم للدولة عبر ما تنتجه هذه الحركات من قيم وما تشكله من قوة ضغط Lobbying؟

– الحركة النسائية بين العلماني والديني:

يمكن تقسيم هذه الحركة التي انبثقت منذ السبعينات إلى ثلاث أنواع من الجمعيات حسب بعض الباحثين[1]:

*الجمعيات الوطنية التي تناضل من أجل المساواة في الحقوق واندماج المرأة في الحياة السياسية.

*جمعيات المساعدة المباشرة كجمعية عائشة الشنا رئيسة جمعية التضامن النسوي التي تستقبل النساء المتخلى عنهن والأمهات العازبات.

*جمعيات دعم النساء والنهوض بمشاريعها.

وهناك جمعيات أخرى ذات طابع محلي تشتغل في حقول مختلفة كالتتمية، القروض الصغرى، التعاونيات، الفن، مساعدة النساء ضحايا العنف الخ…

وإذا كانت مجموعة من المتغيرات قد ساهمت في تعزيز مطالب الحركة النسائية وجعلت من مطلب تغير الوضع الاجتماعي للمرأة داخل النسق الاجتماعي وكأنه يبدو بمثابة نتيجة طبيعية لمجموعة من العمليات الاجتماعية، كارتفاع معدل التمدرس لدى المرأة، نسبة التحضر، دخول المرأة إلى سوق الشغل، فإنه من الأكيد أن المناخ الدولي قد ساهم في ذلك بشكل كبير من خلال موافقة المغرب على العديد من الاتفاقيات والبروتوكولات الدولية التي تنص على احترام حقوق الإنسان بشكل عام (نص دستور 1996 في ديباجته وبعد اعتبار المغرب دولة إسلامية على احترام حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها دوليا) وما يتبعه ذلك من نهوض بأوضاع المرأة المغربية على كافة الأصعدة، كما حدث أخيرا حينما رفع المغرب جميع تحفظاته عن الاتفاقية الخاصة بمناهضة جميع أشكال التمييز ضد المرأة والتي أثارت بدورها ردودا سلبية من قبل الرافضين، لم تدم طويلا، لأن التصريح برفع تلك التحفظات جاء في رسالة ملكية وجهت إلى المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان بمناسبة إحياء ذكرى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان يوم 10 دجنبر 2008. ولفهم صيرورة الفعل النسائي سوف نركز على الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية التي جاءت بها كتابة الدولة المكلفة بالحماية الاجتماعية، الأسرة والطفولة مارس 1999 بتعاون مع الجمعيات وقطاعات حكومية أخرى، في سياق احترام المغرب لالتزاماته أمام المجتمع الدولي في موضوع المرأة، لكونها تبقى مرجعا مركزيا لفهم الدينامية المرتبطة بهذه الحركة في السنوات الأخيرة، ولأنها شكلت الموضوع الأساسي لمراجعة مدونة الأحوال الشخصية من جانب آخر. وإذا كانت هذه الخطة، المعدة من طرف كتابة للدولة يشرف عليها باحث في الاقتصاد ومناضل ينتمي إلى حزب التقدم والاشتراكية اليساري قد لقيت معارضة قوية، فإنه وجب التذكير بأن هذه الخطة كانت موضوع نقاش قبل مجيء حكومة “التناوب التوافقي”. فقد نظمت كتابة الدولة المكلفة بالتعاون الوطني يوم 17 فبراير 1998 ورشة جمعت نساء جمعويات، ممثلين عن قطاعات وزارية مختلفة وباحثين بتعاون مع البنك الدولي بغاية تهييئ خطة لإدماج المرأة في التنمية[1]. وفي أبريل 1998 سيؤكد التصريح الحكومي أمام غرفتي البرلمان بضرورة إصلاح وضع المرأة على المستويات القانونية، الاقتصادية، الاجتماعية، الثقافية والسياسية وهو ما سيشكل قاعدة الخطة المنجزة من طرف كتابة الدولة المكلفة بالحماية الاجتماعية، الأسرة والطفولة. وهو المشروع الذي سيتم عرضه في لقاء رسمي ترأسه الوزير الأول بحضور نائب رئيس البنك الدولي وبعض أعضاء الحكومة يوم 19 مارس 1999[1].

وقد تمركزت الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية، التي لم تكن في الواقع سوى ترجمة من طرف المغرب لالتزاماته تجاه الاتفاقيات الدولية التي صادق عليها، حول أربعة أهداف: يرتبط الهدف الأول بتعليم المرأة ومواجهة الأمية النسوية ويتعلق الثاني بالحفاظ على الصحة الجنسية والإنجابية للمرأة، أما ثالث هذه الأهداف فيصب في الإدماج الاقتصادي للمرأة ومحاربة الفقر، في حين استهدف الهدف الرابع الرقي بالوضعية القانونية والسياسية للمرأة[1]. غير أن هذه الأهداف لم تكن محل ترحيب بالنسبة لكل الفاعلين في المجتمع حيث برز موقفان متناقضان. الأول يمكن اعتباره علمانيا، لكنه لا يصرح بعلمانيته، يضم هيئات وتيارات سياسية يسارية، والثاني محافظ مرجعيته دينية ويضم حركات إسلامية إلى جانب أطراف رسمية عبرت عنها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية التي اعتبرت ومازالت ضمن وزارات السيادة التي لا يجب أن يتولى حقيبتها وزير له انتماء سياسي ويحمل مشروعا موازيا. وعلى إثر ذلك فقد أصبح المجتمع المدني منشطرا بين طرفين اثنين. طرف مؤيد للمشروع المقدم رسميا من طرف مؤسسة دولتية وطرف آخر يرفض المشروع رفضا قاطعا. وفي حين اعتبر المناوئون للخطة أنها تبدي تعارضا صريحا مع الهوية المغربية كهوية إسلامية لا يجب المساس بها، كما هو الأمر بالنسبة لتعدد الزواج المنصوص عليه في القرآن، اعتبر الطرف المؤيد بأن هذه المطالب التي تعبر عنها هي من صلب الحياة اليومية للمغاربة. فيكفي القيام بملاحظة بسيطة في الشارع المغربي وفي المحاكم المغربية للتأكد من الوضعية الكارثية التي تعيشها المرأة المغربية سواء على مستوى الأمية، الزواج المبكر ونتائجه، العنف الممارس عليها أو بالنسبة للفقر وما ينتج عنها من باتولوجيا اجتماعية إلخ…

وصل الصراع بين المجموعتين إلى مداه عبر تنظيم مسيرتين يوم 12 مارس 2000، مسيرة الرباط تحت إشراف الحركة النسائية التقدمية والتي شاركت فيها نسبة جد مهمة من النساء ومناضلين أجانب، ومسيرة الدارالبيضاء التي كان معظمها من الذكور بقيادة الحركة المحافظة والإسلامية. وسط هذا المزيج أين يمكن العثور عن المجتمع المدني؟ وأي طرف يمثل الاستقلالية المطلوبة عن الموقف الرسمي للدولة؟ ثم ماذا عن هذا المجتمع كنتاج طبيعي للحداثة؟

إنه مقابل التشدد الإسلامي لم يكن بالنسبة للحركة النسائية والتقدمية بشكل عام سوى الدفاع عن موقفها باعتباره لا يتناقض مع الإسلام دون الجهر صراحة بموقف علماني. وكالمعتاد في مثل هذه الظروف تحتفظ المؤسسة الملكية وحدها بمشروعية تأويل النص الديني بما يتوافق والمشروع الحداثي كبعد مركزي في الخطابات الملكية. وهكذا سيستقبل الملك في الخامس من مارس 2001 ممثلين عن التنظيمات السياسية والجمعيات النسائية الوطنية وسيعلن عن قراره المتعلق بتشكيل لجنة تضم إلى جانب العلماء الشرعيين كمكون تقليدي، قضاة ومتخصصين في العلوم الاجتماعية كما هو الأمر بالنسبة للسوسيولوجيا ممثلة بعالمة اجتماع، وكل الأطراف المتدخلة في المجتمع المدني لمراجعة مدونة الأحوال الشخصية. إنه نفس السيناريو الذي تم إتباعه في عهد الراحل الحسن الثاني ردا على مطالب التنظيمات النسائية سنة 1992 بمراجعة المدونة حينما اعتبر في خطاب له يوم 10 مارس 1992 على أن الإصلاح هو مسألة دينية تدخل في اختصاصاته كأمير للمؤمنين. وقد صادق البرلمان بالإجماع عن هذه المدونة يوم 3 فبراير 2004، التي أصبحت تسمى بمدونة الأسرة عوض مدونة الأحوال الشخصية، بعدما تم تقديمها من طرف الملك أمام مؤسسة البرلمان يوم 10 أكتوبر 2003، والتي تنص على المسؤولية المشتركة للزوج والزوجة عن الأسرة، وأن المرأة لا تخضع لولاية أحد أفراد العائلة الذكور، وأنه بإمكان الزوجة رفع دعوى للطلاق، كما يحق لها قبول الزواج فقط إذا وافق الزوج على عدم أخذ امرأة ثانية. وهو ما اعتبر من طرف العديد من المراقبين الدوليين في حينه بمثابة ثورة هادئة عرفها المغرب في موضوع المرأة بشكل خاص وفي مجال التشريع عموما.

إن أهمية هذه الملاحظات تتجلى في كونها تبين أن الحركة النسائية لا تشكل الاستثناء ولا توجد خارج الإطار العام الذي يؤطر البنية الجمعوية بالمغرب كما أسلفنا القول. فالواقع يكشف عن تزايد كبير في عدد الجمعيات بدون أن يفضي ذلك بالمقابل إلى مجتمع مدني. فلا تخرج الجمعيات عن ما يحكم النظام السياسي في شموليته حيث هوية الدولة-المخزن محددة دينيا والأحزاب السياسية التقدمية على الخصوص، التي تخلق نوعا من التوازن والتجديد في الدينامية السياسية، غير قادرة على المطالبة بالسلطة باسم إيديولوجية غير إسلامية أو لا دينية[1].

إن الحركة الجمعوية بشكل عام والنسائية بشكل خاص لا تمتلك الجرأة لكي تطالب بعلمنة شاملة. أفليس قانون الأسرة الذي تناضل هذه الحركة من أجل تغييره قانونا مدنيا؟ بل أكثر من ذلك إن المجتمع المدني هو بالضرورة مجتمعا علمانيا لأنه يمثل المجتمع الذي من الواجب أن يتحرر فيه الشخص من الوصاية الدينية[1].

إنه مجتمع المواطنة الكاملة الذي يختار فيه الفرد بشكل حر قيمه ومعاييره، والتي من ضمنها أن يكون إنسانا دينيا أو لادينيا. هناك إذن تناقضات واضحة في مطالب الحركة هذه. فالسؤال هو إما أن نكون علمانيين أو لا نكون. فلا مجال للحديث عن المجال العام الذي يحتوي هذا المجتمع في ظل هيمنة الطابوهات وغياب الجرأة في طرح القضايا والتناظر حولها دون التفاف ودون تكييف ديني بالضرورة لهذه القضايا.

وكذلك يكون عليه الحال بالنسبة لـ”ديمقراطية الكوطا”[1] أو التمييز الإيجابي الذي تطالب به الحركة النسائية. فهل يمكن أن تتحقق الديمقراطية على هذا الأساس بدون إعادة النظر بشكل جذري في الثقافة السياسية السائدة التي تجعل من الفرد، سواء كان ذكرا أو أنثى، مجرد رقم انتخابي في ظل وصاية وهيمنة أقلية تتمتع بالمهارات اللازمة لتحويل الفعل السياسي لصالحها مهما كان الوضع؟ فلا مشاركة ولا مساواة حقيقية في تدبير الشؤون العامة بدون ديمقراطية اجتماعية تتولد عنها ديمقراطية سياسية كاملة. فمشاركة المرأة في ظل هذا الوضع لن تشكل إضافة نوعية على مستوى الممارسة السياسية، ولن تخدم سوى الهيمنة الموجودة سلفا مسنودة بهيمنة ثقافة الكواليس وثقافة الإنزالات التي تميز الفعل السياسي. ألم يعلمنا التاريخ أن المرأة العاملة الفرنسية قد انتزعت مطالبها، التي ترسخت فيما بعد من خلال التشريعات والنصوص القانونية، بفعل نضالاتها بالميدان، دون مساندة حتى من زميلها النقابي؛ حينما رفضت النساء أن تكن خادمات لرؤسائهن أو حينما أضربن مطالبين بمعاقبة رئيس يعتبر أن له عليهن حق التفخيذ le droit de cuissage أو حينما انتظمت أخريات من أجل التدخل تجاه أحد أزواج إحداهن لأنه يعنفها[1]؟. ألا يكون من الأجدر إذن ترك هذا الموضوع لفائدة نضال شمولي يستهدف تغيير القيم والمعايير التي يحتويها النظام الاجتماعي والتي تجعل من مشاركة المرأة بنسبة معينة متفق عليها مجرد مسألة تقنية خالية من المعنى. إن المهة أكبر من ذلك وتتطلب صياغة وتنفيذ أجندة مطلبية على أرضية راديكالية وبمبدأ أن نكون متساوين ومختلفين في الآن نفسه.

وإجمالا وجب أن نشير إلى أن الحركة تظل محدودة مع ذلك وغير منفتحة على المرأة المغربية بشكل عام، وخاصة امرأة المغرب العميق أو المهمش، بتمركزها في المراكز الحضرية الكبرى وبالخصوص في العاصمة الرباط أو الميتربول المغربي الدارالبيضاء. إن الحركة تبقى نخبوية لا تعرف عن معاناة المرأة القروية مثلا، التي تفتقر لأبسط حلقات الشرط الإنساني، إلا الشيء اليسير إن لم يكن لها أي معطيات مادامت تعقد اجتماعاتها وندواتها في مقرات فخمة بمكيفات وموائد دسمة لا تعرف عنها المرأة العادية أي شيء. وهذا عائق كبير أمام الحركة يجعلها كباقي التنظيمات التقليدية بعيدة عن الجماهير المعنية بشكل مباشر بالقضايا المطروحة. إن الحركة النسائية المغربية يمكن تعريفها بالتالي كحركة للنخبة الثقافية النسائية والتي تعبر عن نفسها في مجالين ممتازين، المجال الجامعي انطلاقا من اهتمامات فردية لم ترق إلى تحويل الموضوع إلى موضوع للتدريس، والمجال الجمعوي الذي تمثله الجمعيات. ويبقى هذان المجالان بشكل عام مغلقين عن المرأة العادية[1] التي تمثل الأغلبية.

2- حركة حاملي الشواهد المعطلين:

إن هذه الحركة، التي تمثل الحركة الاحتجاجية بامتياز مادام الاحتجاج يظل من اختصاص العاطلين عن العمل والذين يعانون الهشاشة الاجتماعية[1]، بالإضافة إلى عدم ارتباطها السياسي بالأحزاب السياسية فهي تختلف تمام الاختلاف عن الأولى بالنظر لحيوية ومركزية الموضوع الذي تناضل من أجله في حياة الأفراد عموما. إنه لا يمكن توسيع لائحة المطالب أو توسيع الفعل الجماعي في غياب هذا المطلب الأساسي الذي ظل يشكل إن بشكل مباشر أو غير مباشر الأرضية الأساس للانفجارات الحضرية. يسجل الاختلاف كذلك على مستوى الأشكال النضالية المتبعة وكذا في غياب أي ارتباط بالبعد الديني عكس الحركة السابقة التي تجد نفسها مطوقة بهذا الأخير.

تأتي الجمعية الوطنية لحملة الشواهد المعطلين بالمغربANDCM[1] التي مر على تأسيسها أكثر من سبعة عشر سنة من الوجود التنظيمي والنضالي على رأس هذه الحركات بالنظر إلى ما قامت به وقدمته على صعيد المجال العام من جهة، ولأنها شكلت أرضية لبزوغ مجموعات أخرى تجعل من مطلب الإدماج في سلك الوظيفة العمومية هدفها الممتاز كما رسمته ودافعت عنه الجمعية منذ تأسيسها من جهة ثانية. هكذا ظهرت إلى الوجود مجموعات مختلفة مكونة من أطر حاملة لشواهد عليا (كدبلوم الهندسة، دبلوم الدراسات العليا أو دكتوراه السلك الثالث…) بحيث يمكن أن نتحدث عن نوع من المنافسة، رغم التفاعلات الموجودة، بين هذه البنيات التي تبحث عن الشغل كمادة نادرة[1].

فماذا عن أهمية هذه الحركة الجديدة في إعادة رسم حجم وخصائص المجال العام بالمغرب؟ ماذا عن نجاحها أو عدم نجاحها في تحقيق أهدافها إذا كان عدد العاطلين لا يتوقف عن الانتشار والتوسع سنة بعد أخرى؟

فقد انتقل عدد العاطلين على المستوى الوطني من 1.062.000 خلال سنة 2006 إلى 1.092.000 عاطل خلال 2007 أي بزيادة تقدر ب30 ألف عاطل وبنسبة 2.8%[1]، نظرا للتحولات الهامة التي طبعت الاقتصاد المغربي جراء تبعيته للاقتصاد العالمي وتعليمات المؤسسات المالية الدولية الهادفة إلى ضرورة تخلي الدولة عن تمويل القطاعات الاجتماعية لفائدة القطاع الخاص والمبادرة الحرة.

لقياس مدى قدرة الحركات الاجتماعية على تجاوز المعوقات التي تقف حائلا أمامها دون تحقيق جملة من أهدافها لا تتوقف السوسيولوجيا فقط عند حدود المكتسبات المادية الملموسة التي تم تحقيقها لأن هناك مجموعة من العناصر الأخرى غير المادية التي تحمل تأثيرا قويا على الدينامية الاجتماعية والسياسية. لذا فإن أي عملية لإصدار أحكام من هذا القبيل تبقى خاضعة لمجازفات كبرى. غير أنه مع ذلك وجب تحديد مجموعة من العناصر المرتبطة بالأهداف المباشرة والتي من خلالها يمكن أن نحكم على فعالية أو عدم فعالية الحركة.

المثال هنا يبقى بليغا على المستوى السياسي بحيث أنه لم يكن من اليسير خلال التسعينات من القرن الماضي على حركة من هذا النوع انتزاع مشروعيتها وفرض نضالاتها اللامؤسساتية في معظمها مادامت تشكل حركة مزعجة وعنيفة بالنسبة للدولة وأجهزتها.

غير أنه إذا أمكن مع ذلك رصد مواطن الضعف فيما يتعلق بهذه الحركة فسنقول أن الخسارة كانت كبيرة في اعتقادنا وخصوصا بعد 1998 مع دخول المغرب مرحلة جديدة من التدبير العمومي، ولنقل تدبير النزاعات الاجتماعية والتفتت الذي لاحق الحركة جراء ظهور مجموعات متعددة بتصورات مغايرة. هكذا أصبح الشارع العام وبالتحديد شارع محمد الخامس بالعاصمة الرباط أو حي الوزارات مسرحا لاحتجاجات جديدة ارتبطت بأطر عليا حاصلة على دبلومات عليا تفوق شهادة الإجازة كأعلى شهادة بالنسبة لمنخرطي الجمعية الوطنية لحاملي الشواهد المعطلين بالمغرب. فمع تكرار الأشكال النضالية التي خاضتها هذه الحركة وبخاصة الاعتصامات أمام مقر البرلمان وبعض المقرات الوزارية والمسيرات الوطنية التي شهدتها مدينة الرباط، التي أصبحت مؤثثة للمشهد العمومي بشكل دوري، وبعدما لم تصبح المعالجة الأمنية هي الوصفة الرئيسية لهذه الأشكال، مادام التحاور مع هذه الأطراف بالنسبة للجهات الرسمية لا يخلو من فوائد وأرباح، فإنه من الناحية الاجتماعية استطاعت الدولة بمؤسساتها المختلفة المتدخلة في حقل الشغل أن تفرغ هذه الحركة من قوتها وأن تضعفها بشكل خطير ومهول. فقد أصبح المجتمع ينظر إلى العاطل من حامل شهادة الإجازة على الخصوص نظرة مخالفة للسابق، باعتباره يدخل ضمن الصيرورة العادية للعطالة التي لا تميز بين الفئات، تحت تبريرات عدة لعل أبرزها هو ضعف التكوين الجامعي ومستوى الخريجين الجامعيين وعدم قدرتهم على الاستجابة لحاجيات سوق الشغل، الذي سوقت له الدولة بكثافة أمام عجزها المباشر عن مواجهة ظاهرة الخريجين العاطلين في غياب اقتصاد مهيكل بقطاع خاص ومقاولة مواطنة. فهل من المعقول المراهنة على هذه الإيديولوجيا المقاولاتية؟

لكن مهما بدا الاختلاف واضحا في تصور موضوع الشغل، حيث بالنسبة للبعض لا يمكن القضاء على معضلة البطالة إلا في إطار مقاربة وإرادة سياسية، كما هو الشأن بالنسبة لجمعية المعطلين، فإنه بالنسبة للمجموعات الأخرى يبقى الدخول في الحيثيات السياسية للظاهرة بدون جدوى مادام الهدف الأساسي الذي يجمع أعضاءها هو لا شيء غير تحقيق الشغل في القطاع العمومي، دون الحاجة بالضرورة إلى تقديم ما يبرر ذلك سياسيا. وقد عرف مطلب التشغيل تطورا بعد 1999، تاريخ تخرج أول دفعة من حملة دبلوم الدراسات العليا المعمقة، بعد الإصلاح الذي عرفة نظام الدراسات العليا فيما عرف بقانون 19 فبراير 1997، الذي أعاد النظر في عدد سنوات التكوين وتسمية الشواهد، في إطار وحدات التكوين والبحث UFR. فعوض تقنين أعداد الخريجين اعتمادا على إعمال مبدأ الانتقاء كانت النتيجة عكس ذلك تماما وأصبحت نسبة هؤلاء الخريجين من حملة دبلوم الدراسات العليا المعمقة أو المتخصصة DESA أو DESS (ما يقابل الماستر الآن في نظام LMD) أو الدكتوراه جد مهمة في تأثيث المجال العام وفي تشكيل مجموعات مختلفة متمركزة بالعاصمة لأجل مطلب الشغل[1].

مع ذلك وفي ظل هذا التعدد وجبت الإشارة إلى مركزية الجمعية، حيث يمكن اعتبار هذه المجموعات بمثابة امتداد لهذه الحركة بقيادة المجازين، التي راكمت الأدوات والأشكال الملائمة على امتداد فترة زمنية مهمة. ألا يمكن اعتبار هذه الحركة إذن مهما كانت محدودية نتائجها بمثابة جواب جريء عن فشل التنظيمات النقابية من جهة وعن إضافة نوعية للمجال العام بالمغرب؟

إن الفراغ الذي تركته النقابة على العموم في مختلف البيئات، مهما تباينت درجات نمو الاقتصادات الوطنية، هو الذي دفع بالأطراف المعنية بشكل مباشر بنتائج العطالة إلى التفكير في تنظيم أنفسهم وخوض تجربة الفعل الجماعي في ظل هذا السياق، خصوصا وأن نفس الشروط أدت إلى نتائج مماثلة في العالم المتقدم.

ويتجلى تأثير الحركة، بمختلف مكوناتها، بجلاء في علاقتها بالمجال العام حيث بالإمكان الجزم بأنها ساهمت بشكل كبير في إعادة تعريف هذا المجال انطلاقا من الأشكال المتعددة التي خاضتها بدءا بالمسيرات، الاعتصامات، احتلال مقرات عمومية، محاولات للانتحار الجماعي عن طريق تناول مواد سامة أو إضرام النار في الذوات، تكبيل الأجساد بالسلاسل مع السكة الحدديدية أو مع سياج بناية مؤسسة البرلمان، كما هو الحال بالنسبة للمعطلين المكفوفين، رغم القمع الذي ووجهت به من طرف الدولة في كثير من الأحيان. لكن بالمقابل وجب التسجيل أيضا الضعف الذي ظل يلازمها أمام حدة الظاهرة من زاوية، وعدم قدرتها على منافسة السلطة التي تمتعت بها الدولة في تدبير الملف من زاوية أخرى.

فإذا كانت العطالة ظاهرة تخترق مختلف الانتماءات الجامعية ومختلف الدبلومات والشواهد، وإن كان ذلك بدرجات متفاوتة، فإن الملاحظ هو أن هذه الحركة لم تستطع استقطاب جزء مهم من المعنيين يعكس وإن بشكل نسبي النسبة العامة للعطالة في البلد. فلماذا لم تستطع الجمعية الوطنية لحملة الشواهد المعطلين مثلا، كإطار تنظيمي محكم بأجهزة محلية، جهوية ووطنية، والتي من الناحية النظرية تعتبر قاعدتها عريضة لأنها تضم التقنيين، حاملي الباكالوريا، دبلوم الدراسات الجامعية العامة (سنتان بعد الباكالوريا) وشهادة الإجازة، أن تجمع حولها نسبة مهمة من هؤلاء الذين هم في حاجة إلى شغل؟ أين يكمن الخلل؟ هل في الحركة ذاتها أم في المحيط والمنافسة بين مختلف التنظيمات؟

إن جزءا من الجواب متضمن بدون شك في البنيات الاجتماعية والسياسية ذاتها، مادامت الحركة اجتماعية لكن بمطلب سياسي يقتضي إرادة سياسية للتخلي عن التصور الذي يزداد معه المشكل تفاقما. ولم تواجه الحركة فقط من طرف الدولة والمؤسسات الرسمية، بل ووجهت أيضا من طرف التنظيمات السياسية. فالأغلبية الساحقة التي اختارت الانضمام للحركة والدفاع عنه كبديل رئيسي لحل إشكالية الشغل ظلت من المناضلين الذين في معظمهم تمرسوا داخل الفصائل اليسارية للاتحاد الوطني لطلبة المغرب بالجامعة، من دون أن يكون لهم امتداد في خريطة التنظيمات السياسية الشرعية وخاصة منها التنظيمات المنحدرة من الحركة الوطنية (الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية أو حزب الاستقلال). فقد عملت هذه الأخيرة بدورها على إضعاف نفوذ الجمعية بواسطة سياسة التشغيل التي انتهجتها بالجماعات المحلية التي تسهر على تدبير شؤونها والرامية إلى توسيع قاعدتها واستقرارها عن طريق إعطاء الأولوية في التشغيل لمناضليها والمحسوبين عليها الذين يساندونها لحظة الانتخابات. بالتالي لم يكن من السهل على مناضلي الجمعية تحقيق ما يرغبون فيه عن طريق الأشكال التي يخوضونها في الميدان رغم حديث ملك البلاد في خطاب له يوم 2 يناير 1991 عن قضية تشغيل الشباب وضرورة حل مشكل حاملي الشواهد المعطلين. أضف إلى ذلك، أن هناك نسبة من العاطلين التي لا يسعفها الزمن والإمكانات لكي تنتظر حلا تعرف أنه في ظل موازين القوة المعاشة من النادر أن يتحقق. لذا فهي تبحث عن الشغل بأدواتها الخاصة دون أن تتبنى هذا اللون التنظيمي مادام الانتماء لهذه البنيات قد يكون مكلفا على مستويات عدة، ومادامت غير مكترثة بما إذا كانت هذه الطرق شرعية أو غير شرعية. أفلا يشرعن النظام الاجتماعي الفساد والفردانية في مثل هذه الشروط التي يفقد فيها الفرد إنسانيته؟

خاتمــة:

هل إخفاق هذه الحركات هو استمرار لإخفاق السياسي بشكل عام وعدم قدرته على رسم وقيادة فعل اجتماعي بأبعاد تغييرية واضحة المعالم دون لبس وهيمنة منظور أحادي وضعته القوى المتحكمة في السياسة الدولية وأخرجته مؤسساتها المالية الكبرى؟

إنه ومن خلال المعطيات المستعرضة تتبين الصعوبات الملازمة للمجتمع المدني على العموم الذي أصبح يخضع لتعريف جديد ليس من جوهره، تعريف يرتبط بمدى تفاعله مع التصور الدولي المهيمن والقائم على التمويل. فالوجود الجمعوي أصبح مرهونا بهذا البعد الحاسم من دون أن يستمر في الدفاع عن أجندته النقدية التي ارتبط بها منذ النشأة، عكس ما هو عليه الأمر اليوم. وتمثل حركة المعطلين حاملي الشواهد مثالا حيا عن هذا التردي، حيث بقيت ضعيفة رغم التضحيات التي قدمتها والإبداع الذي رافق أشكالها بالنظر إلى العوائق المالية الكبيرة التي تصاحبها، لاستحالة حضورها في أولويات المانحين الدوليين، مادامت أهدافها تشكل خطرا على مصالح هؤلاء ولا تخدم استراتيجياتهم في خلق قيم ومجتمع الاستهلاك الذي تهيمن عليه أقلية تتمتع بكافة الامتيازات وأغلبية من دون مقومات الحياة. كما تشكل المؤسسة الملكية حائلا آخر أمام استقلالية فعلية للمجتمع المدني وكل الحركات المرتبطة به مادامت السلطة الروحية مازالت تلعب دورا أساسيا في العديد من القضايا والمواضيع. فأهمية القضايا التي تطرحها هذه الحركات غالبا ما تضيع في ظل هيمنة هذا المنظور على الفعل الجماعي وخاصة الفعل المرتبط بالحركة التقدمية واليسارية. ولم يكن التفتت والبلقنة والترهل الذي يعانيه الحقل السياسي من دون نتائج على الفعل الجماعي الخاص بالحركات الاجتماعية بالمغرب، مادام السياسي هو المؤطر بامتياز والمتحكم في بلورة وصياغة كل فعل جماعي وامتداداته على مستوى المجال العمومي. الشيء الذي لا يكون من دون انعكاسات سلبية على فعل الحركات الاجتماعية. وهو ما يجعلنا نتساءل في آخر هذه الورقة عن الدور الذي يمكن أن تضطلع به الحركة النقابية من جديد في ظل هذا الواقع متجاوزة بذلك وضعها المأزوم.

الهوامش

[1] – Mounia Bennani-Chraibi, Olivier Fillieule (dir.), Résistances et protestations dans les sociétés musulmanes, Presses de Sciences Po, Paris, p.22. (Introduction).

[1] – Ibid, p. 23.

[1] – Bourdieu Pierre, Pour un mouvement social européen, in, Manière de voir, Le Monde diplomatique, Bimestriel, N° 103, Février- Mars 2009, p. 67. (Cet article a été publié en juin 1999 dans le Monde diplomatique)

[1] – Peter Dreier, A Chicago, la lutte syndicale a payé, in, Manière de voir, Le Monde diplomatique, Bimestriel, N° 103, Février- Mars 2009.

[1] – http://coord-comites.forumactif.com

[1] – Jean Etienne, Françoise Bloess, Jean-Pierre Noreck, Jean-Pierre Roux, Dictionnaire de sociologie, Hatier, Paris, p.216.

[1] – Ibid., p. 217.

[1] – Erik Neveu, Sociologie des mouvements sociaux, troisième édition, La Découverte, Paris, 2002, p. 67.

[1] – Ibid., p. 67.

[1] – Ibid., p. 68.

[1]- نقصد هنا فؤاد عالي الهمة كاتب الدولة في الداخلية سابقا وصديق الملك الذي أقدم على الاستقالة من منصبه والتقدم لانتخابات 7 شتنبر 2007 التشريعية كمرشح مستقل ليكون بعد نجاحه فريقا برلمانيا في لمحة البصر ويؤسس لاحقا حزبا سياسيا “الأصالة والمعاصرة” عقد مؤتمره الأول أيام 20-21و 22 فبراير 2009. وقد ضم هذا الحزب أشخاص يمينيين إلى جانب آخرين كانوا يساريين راديكاليين بدون أن يتمكن المرء حقيقة من رصد ما يجمع ويوحد بينهما اللهم الضحالة الإيديولوجية التي أصبحت تميز المشهد السياسي المغربي في عموميته.

[1] – Miège Bernard, La société conquise par la communication, Presses Universitaire de Grenoble, 1989.

[1] – Wolton Dominique, Penser la communication, Flammarion, Paris, 1997.

[1]- بوعزيزي محسن، فضاء الحركات الاجتماعية بالمجتمعات العربية: الحالة التونسية مثالا، مجلة إضافات، العدد 1، شتاء 2008، ص.22.

[1] –  تأسست هيئة الإنصاف والمصالحة بمقتضى قرار ملكي سامي بتاريخ 6 نونبر 2003 بالمصادقة على توصية للمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان صادرة بموجب المادة السابعة من الظهير الشريف رقم 1.00.350 المتعلق بإعادة تنظيم المجلس.

وبناء على الموافقة الملكية تتكون الهيئة من رئيس وستة عشر عضوا نصفهم من بين أعضاء المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان وهي مؤسسة رسمية، والنصف الآخر من خارجه. وقد تم تنصيب الهيأة من طرف الملك بتاريخ 07 يناير 2004. أنظر:                                                                 http://www.ier.ma/article.php3?id_article=1512

[1] – Ouard Abdelmalek, Action associative et gouvernance ou la participation en question, in, Maknasat, Revue de la Faculté des Lettres et des Sciences Humaines, Meknès, N°18, 2008,  pp. 77-86.

[1] – http://www.indh.ma/fr/discours.asp

[1] – السخيري عبدالمجيد، المجتمع المدني: حقيقة سوسيولوجية أم استغاثة إديولوجية؟ حالة المغرب. في المأزق الإديولوجي لليسار، مجلة وجهة نظر، عدد 38، خريف 2008، صص. 48-49.

– نفس المرجع، ص. 50.[1]

[1] – Belghazi Taieb et Madani Mohammed, L’action collective au Maroc : Da la mobilisation des ressources à la prise de parole, Publication de la Faculté des Lettres et des Sciences Humaines- Rabat, Série Essais et études N°30, 2001,  p. 42.

[1] – Ibid., p. 44.

[1] – Ibid., p. 45.

[1] – Dialmy Abdessamad, Le féminisme au Maroc, Editions Toubkal, Casablanca, 2008, p. 173.

[1] – Ibid., p. 176.

[1] – Ibid,. p. 180.

[1] – تتوخى الدولة المغربية رفع نسبة تمثيلية النساء في الجماعات المحلية إلى 12% في الانتخابات الجماعية المقررة في 12 يونيو 2009 وقد خصصت وزارة الداخلية صندوقا من عشر ملايين درهم لهذا الغرض.

[1] – Genevière et Thérèse Brisac, Les femmes dans les luttes sociales, in, Manière de voir, Le Monde diplomatique, Bimestriel, N°103, Février-Mars, 2009, p. 61.

[1] – Dialmy Abdessamad, op.cit., p.41.

[1] – العطري عبدالرحيم، الحركات الاحتجاجية بالمغرب: مؤشرات الاحتقان ومقدمات السخط الشعبي، منشورات دفاتر وجهة نظر 14، 2008، ص. 162.

[1]- عقدت الجمعية مؤتمرها التأسيسي بالمقر المركزي للكنفدرالية الديمقراطية للشغل بمدينة الدارالبيضاء أيام 25-26 و27 أكتوبر 1991.

[1] – Belghazi Taieb et Madani Mohammed, op. cit., p. 59.

[1]-http ://www.hcp.ma/pubData/emploiChomage/rapportPremiersresultats/EMPLOIANNEE07.pdf

[1]- عدد الخريجين المعتصمين بالعاصمة اليوم يناهز 1134 إطار عالي معطل في إطار ثلاث مجموعات (المجموعات الأربع 528 عضو، الاتحاد الأربع 33 عضو والتنسيقية الوطنية 573 عضو). أنظر: http://marocchomeurss.blogspot.com

Exit mobile version