عادت ميد إلى نيويورك في ربيع عام 1933م وهي مدركة أنها وقعت في حب غريغوري بيتسن وفي غضون سنتين حصلت على الطلاق من فورتيون وتزوجت بيتس .
في تلك الأثناء كتبت ميد كتابين آخرين أولهما “الزواج والمزاجية” الذي نشر في عام 1935م هذا الكتاب مبني على دراستها للشعوب الثلاثة الذين زارتهم في رحلتها الأخيرة إلى غينيا الجديدة وهم ” الأرابيش والمندوغومر والتشامبولي ” وقد ناقشت في هذا الكتاب فكرة أن الطبيعة الإنسانية مطواعة بشكل غير متناهي وأن الكثير من سمات الشخصية التي نسميها مذكرة أو مؤنثة هي في الحقيقة أمر من إملاءات المجتمع والتوقعات الثقافية وأن ارتباطهما بالغريزة والتكوين الفيزيولوحي ضعيف جداً كارتباطهما بالألبسة والسلوك .
ثم عكفت ميد على دراسة ما أسمته ” التعاون والتنافس عند الشعوب البدائية , وترأست ميد ما بين عامي 1934 – 1935 م حلقة بحث في قسم علم الإنسان بجامعة كولومبيا لمناقشة الموضوع السابق .
بعد انتهائها من تأليف الكتابين السابقين أصبحت ميد جاهزة للعودة إلى ميدان العمل , ففي ربيع عام 1935 قدم غريغوري بيتسن إلى نيويورك وخطط مع ميد للقيام سوياً بعمل ميداني في بالي في السنة التالية .
غادرت نيويورك في أوائل عام 1936 م حيث قابلت بيتسن في جافا ليتزوجا بعد ذك في سنغافورة ثم هبا إلى بالي .
وجدت ميد في بيتسن أخيراً الشريك العقلي والعاطفي المثالي لما أرادت القيام به من أعمال , أرادت ميد هذه المرة أن تدرس كيفية تطور الأطفال ليصبحوا أعضاء كباراً في مجتمع معين , أحبت أن تدرس أسلوب تنشئة الطفل الذي تشكل شخصيتهم كالبالغين أما من الناحية الرسمية فكان مشروعهما يسمّى شيئاً آخر فقد تم تمويلهما لدراسة الاستيعاب الثقافي لمرض فصام الشخصية وكان هدف الدراسة هو معرفة ما إذا كان سبب هذا السلوك هو ممارسات معينة متبعة في تربية الأطفال ؟ وهل هذا يعني أن سبب فصام الشخصية في الولايات المتحدة أو على الأقل مسببا لها هو ممارسات معينة في تربية الأطفال .
كان الباليون بشوشين لكنهم متحفظون وحذرين وخجولين وانعزاليين بل حتى كئيبين , عزت ميد أسباب ميل سكان بالي للإنعزال عن التواصل الاجتماعي إلى الممارسات المتبعة في تربية الأطفال , فالأم في بالي قد تضايق طفلها ثم تبعده عنها بشكل فظ تاركة إياه محبطاً ومتضايقاً وفي النهاية يتعلم الطفل أن ينسحب كوسيلة لحماية نفسه .
بعد قضاء سنتين في بالي أرادت ميد مع بيتسن تجريب أساليبهما الجديدة في البحث في ثقافة أخرى فاختارا الذهاب إلى الإياتمول في غينيا الجديدة حيث عمل بيتسن من قبل . وكان ذلك في سنة 1938 م عند وصولهما إلى غينيا الجديدة ووجدت ميد المتعة بين شعبها المنفتحين والمشاكسين ولكن ثقافتهم مع ذلك كانت معقدة في نواح أخرى.
بعد أن قضيا ثمانية أشهر في غينيا الجديدة عادا إلى نيويورك حيث اكتشفت ميد أنها حامل . في الحرب العالمية الثانية وخاصة عندما أعلنت بريطانيا العظمى وفرنسا الحرب على ألمانيا غادر بيتسن إلى انجلترا ليقدم خدماته لبلده بينما مكثت ميد لتضع مولودتها ماري كاثرين بيتسن في الثامن من ديسمبر عام 1939 م , عندما عجز بيتسن عن معرفة ما يفعله وما يقدمه لبلده عاد إلى نيويورك لينهي عمله الذي بدأه في بالي وكان عمر ماري آنذاك ستة أسابيع. نشرت ميد مع بيتسن كتابهما الشخصية البالينة تحليل مصور عام 1942 م .
التهديد بالحرب أعطى ميد مجالاً لخدمة بلدها فشكل علماء الإنسان من حول ميد وبيتسن مجموعة أطلقوا عليها اسم ” مجلس العلاقات الثقافي ” وقاموا بعرض خدماتهم على الحكومة .
وبعد قصف اليابانيين عملت ميد كمديرة تنفيذية للجنة العادات الغذائية في المجلس الوطني للأبحاث وهي منظمة للعلماء .
إنّ سمعة ميد وشهرتها في استيعابها للأفكار الدقيقة شجعت الحكومة لأن تعتمد عليها في شرح موقفها , استمتعت ميد بالاهتمام ببلدها فأخذت إجازة مدة ثلاثة أسابيع من العمل الحربي وذلك في صيف 1942 م لتؤلف كتاباً عن أمريكا سمته ” احفظ البارود جافاً ” .
تابعت ميد حياتها في واشنظن واستمرت في العمل في لجنة العادات الغذائية وفي عام 1944 م أنشأت ميد منظمة لمساعدة علماء الإنسان الشباب المهتمين بتطبيق منهج ثقافي مثل منهجها على المشاكل العالمية بإعانتهم مالياً أطلق عليه اسم ” معهد الدراسات الثقافية ” وأدى العمل الذي قامت به ميد مع علماء الإنسان الذين عملوا معها إلى تطوير برنامج سمي بـ ” دراسة الثقافة عن بعد ” .
بعد الحرب حولت ميد دراستها من الثقافة عن بعد إلى تقديم اقتراحات لتوجيه بحوث الثقافات المعاصرة وتمت الموافقة على إنشاء مكتب البحوث البحرية عام 1947 م وتمويله بمئة ألف دولار , وظفت ميد مئة وعشرين شخصاً ليعملوا كعلماء إنسان ويقابلوا لاجئين من الصين والاتحاد السوفيتي وتشيكوسلوفاكيا وسوريا وأوربا الشرقية .
عند عودة بيتسن لم يكن مرتاحاً في العيش في ظل زوجته الأكثر شهرة والأكثر طاقة فظل يمكث بعيداً لفترات أطول فأطول حتى تم الطلاق بينهما في النهاية عام 1950 م وخسرت ميد وهي في أواخر الأربعين من عمرها ليس فقط الزوج الذي أحبته بعمق وأعجبت به ولكن خسرت أيضاً الرفيق الفكري الذي عملت معه بعضا من أكثر أعمالها الخيالية ووجدت نفسها مثل الأم العزبة مع طفلتها الصغيرة لتعتني بها .
في كتابتها ” الذكر والأنثى ” الذي نشر عام 1949 م عبّرت ميد عن إحساسها الجديد بأهمية الأمومة فإنجاب الأطفال كان فوق كل شيء هو الشيء الوحيد الذي لم يكن بوسع الرجل فعله . كان كتابها هذا أكثر كتبها تعقيداً فقد حاولت جاهدة أن تفصل بين ما هو فطري بين الرجال والنساء في أمزجتهما الخاصة عما هو ببساطة ناتج ما يتعلمونه من ثقافتهم .
نظر المجتمع إلى ميد على أنها جدة الحركة النسائية لأنها قدمت المثل الجيد . في عام 1951 م دعيت لإلقاء محاضرات في أستراليا وبينما كانت في أستراليا سمعت عن التغييرات السريعة التي حصلت في جزر الأدميرالية فأرادت أن تذهب وترى ذلك بنفسها فهي تشعر في سن الخمسين بطاقة جديدة وقد وصفت هذا الشعور بأنه ” حيوية مابعد سنّ اليأس ” , انطلقت البعثة بعد سنتين عام 1953 م حيث توجهت إلى قرية بيري في جزيرة مانوس فاندهشت من مدى التغير الذي حدث نتيجة الحرب العالمية الثانية فقد أدهشها الاتصال المتزايد مع العالم الخارجي ومدى نجاح أهل مانوس في التكيف مع هذه الظروف ورغبتهم في إعادة صياغة حياتهم وتبني مظاهر الحياة الغربية المتنوعة مما جعل ميد تقول عنهم إنهم قفزوا أربعة آلاف سنة وكان هذا هو موضوع كتابها ” الحياة الجديدة للقدامى ” الذي نشرته عام 1965 م حول عودتها إلى مانوس .
غادرت مانوس ولكنها عادت إليها مرات عديدة في 1964 , 1965 ,1973 ,1975 , وعادت إلى غينيا الجديدة في عام 1976 م .
كان مكتب ميد في المتحف بعد عودتها محوراً لنشاطاتها وكان بيتها الحقيقي وكانت تعتمد على جيش من المساعدين وكانت تحب أن توظف النساء الشابات اللواتي يتمتعن بذكاء ويخططن للعمل في إحدى مجالات العلوم الاجتماعية واللاتي كن قويات جسدياً .
في العقود الثلاث الأخيرة تشعبت نشاطات ميد في مجالات عدة إلا أنها تابعت اهتماماتها في علم الأمراض العقلية والمؤتمرات النظامية وشاركت بشكل حيوي في منظمات عديدة , وأخذت في الكتابة لمدة ستة عشر عاماً في مجلة نسائية هي الكتاب الأحمر , وكتبت كتابين للمراهقين الصغار ” أناس وأماكن ” و ” علماء الإنسان وما يفعلون ” أصبحت ميد جدة في التاسع من اكتوبر عام 1969 , وفي عام 1972م نشرت سيرتها الذاتية ” شتاء العليق : سنوات حياتي الأولى ” .
في متصف السبعينات انتخبت ميد للأكاديمية الوطنية للعلوم وهي من أكبر مجموعات العلماء مكانة في الولايات المتحدة , كما انتخبت لرئاسة الجمعية الأمريكية لتطوير التعليم , وأقيم احتفال على شرفها يوم عيد ميلادها في بوسطن في السادس عشر من ديسمبر وكانت في الخامسة والسبعين .
في السنوات الأخيرة تدهور سمْعها بشكل كبير مما حرمها متعتها الأعظم في الحوار مع الناس ثم وجدت نفسها مريضة جداً بسرطان البنكرياس .
توفيت ميد في مدينة نيويورك في الخامس عشر من نوفمبر 1978 م وذلك في اليوم الذي تمّ فيه اختيارها واحدة من الخمس والعشرين امرأة الأكثر تأثيراً في العالم وذلك من قبل التقويم العالمي , حزن عليها العالم كله وعندما علم سكان قرية بيري في جزيرة مانوس بوفاتها أغلقوا المدارس وبقوا في منازلهم أربعا وعشرين ساعة ثم ولخمسة أيام أدّوا الطقوس الخاصة برحيل زعيم , وقد منحت بعد وفاتها الميدالية الرئاسية للحرية وهو أعلى وسام يمنح لمدني .
3 رأي حول “مرغريت ميد -الجزء الثاني”
التعليقات مغلقة.
شـــكرا لموقع أنثروبوس على قصة مرغريت ميد ، أفادتني في بحثي في مقياس الأنثروبولوجيا.
أنا طالبة سنة أولى علوم اجتماعية بجامعة البليدة .
قصة رائعة شكرا بوركتم..
اشكركم على هذا الموضوع لكن الايوجد مالينوفيسكي