كاتب المقال :محمد الحمامصي
يصعب على قارئ كتاب “مذاق الزعتر .. ثقافات الطهي في الشرق الأوسط” أن يتركه من يده قبل أن يفرغ من قراءته، أولا لندرة موضوعه في المكتبة العربية وهو علاقة
الطعام بثقافات الشعوب الشرق أوسطية، باعتباره ـ أقصد الطعام ـ ثقافة وتاريخا و”رمزا للقوة وتعبيرا عن الهوية والإيديولوجية”، وثانيا لعمق وجدية ورشاقة التناول واتساع الأفق الزماني والمكاني، وثالثا لكون بحوثه وقراءاته التحليلية لعدد من كبار المتخصصين العرب والأجانب الذين بذلوا جهدا واضحا في بحثا ودرسا وتحليلا.
وعلى الرغم من أن الكتاب يصب في خانة الطعام والطهي في علاقتهما بالثقافة العربية والشرق أوسطية، متوقفا عند الكثير من تفاصيل الطبخ والأطباق والحلويات وتقاربات كل ذلك من ثقافة لأخرى، مثل طرق طهي الأرز في مصر وإيران وتركيا وآسيا الوسطى، إلا أننا سوف نتجاوز في عرضنا ذلك مركزين على الجانب الثقافي والسياسي والاجتماعي في أمر الطعام.
وقبل أن يدخل بنا الكتاب الصادر عن مشروع “كلمة” (أحد مشروعات هيئة الثقافة والتراث بأبوظبي)، إلى تكويناته الثلاثة الأول مكونات وأطباق ومطابع، والثاني الطعام والمرتبة الاجتماعية، والثالث لغة الطعام، يمهد محررا النسخة الإنجليزية ريتشارد تابر وسامي زبيدة بمقدمة ثم دراستين لكل من توني آلان وسامي زبيدة، حيث يتم رسم خارطة منطقة الشرق الأوسط من ناحية المصادر الطبيعية والطرق الزراعية وإنتاج الطعام والأنماط الاستهلاكية ومشكلة المياه، مناقشة فكرة الاكتفاء الذاتي من الغذاء، ثم قراءة الأبعاد الشعبية والقومية والعالمية لثقافة الطعام والنزعة الحديثة، وراسم ملامح محددة للمطبخ القومي من خلال الربط بين الفروقات الثقافية والاجتماعية والعادات الغذائية عند الأغنياء والفقراء مثلا أو المجموعات العرقية المختلفة، أو سكان القرى والمدن أو بين النساء والرجال.
ويرى سامي زبيدة عن حديثه عن علاقة الطعام بالوجدان الشعبي أن الطعام يعد علاقة ثقافية بارزة تبرز الحدود الاجتماعية، وقبل ظهور القومية، كانت هذه الحدود التي تميز بين الجماعات العرقية أو الدينية أو الجهوية، وقد بقي هذا التمييز موجودا ضمن الدولة القومية، لكن فرقا واضحا بين التفاخر بالطعام في الخطاب الشعبي ووجود طعام قومي في الدولة.
ويشير سامي زبيدة إلى تأثير العولمة على الطعام وتغير طرق الطهي في الشرق الأوسط حيث تظهر واضحة في استعمال أنواع الزيوت النباتية والدهون في المطبخ، ويقول “الأمثلة على ذلك كثيرة، ومنها أن كل أنواع الحبوب التي كانت موجودة في الشرق الأوسط مثل الذرة في مصر، والشعير في العراق وإيران، والأرز في جنوب العراق وبعض مناطق القزوين، تم استبدالها جميعا بالقمح والأرز في السوق العالمية لتكون الغذاء الرئيسي لسكان المنطقة جميعهم، إذ يستعمل الأرز والخبز المصنوع من الطحين الأبيض في جميع الوجبات”.
في الجزء الأول من الكتاب نتعرف على مكونات وأطباق ومطابخ في إيران وأفغانستان وأوزباكستان وأذربيجان وآسيا الوسطى وتركيا، وتخصص دراستان عن الأرز والكشك، لكن جانبا مهما يلفت إليه بيرت فراغنر أستاذ الدراسات الإيرانية من جامعة بامبرغ الألمانية في فصله “مغامرات في الطهي من القوقاز إلى التبت” حيث رأى أن المناخ السياسي الذي كان سائدا في القرنين السادس والسابع عشر هيأ انتقال الأطعمة التي اكتشفت من العالم الجديد / القارة الأميركية إلى منطقة البحر الأبيض المتوسط عبر إسبانيا مثل بذور عباد الشمس والذرة وأنواع الفلفل وديك الحبش.
ويقول “إن حركة انتقال المواد في الشرق قد أسست لمجموعة من العلاقات وفتحت خطوط الاتصال بين حضارات المنطقة بدءا بالحضارة المصرية والبابلية وانتهاء بالهندية والصينية منذ أمد بعيد، قد يكون أبعد من أي تاريخ حددته القطع الفنية الأثرية التي وجدها علماء الآثار في هذه المناطق، ويعتمد انتقال أنواع الطعام من مكان لآخر بشكل كبير على البيئة السياسية، وهكذا قد تتغير التقاليد الغذائية في الطهي لمنطقة ما بناء على انتقال السلطة السياسية فيها”.
ويرصد فراغنر في فصله التالي “فن الطهي بين الواقع والخيال” كتب الطبخ الفارسية القديمة والحديثة، ويصف الأخيرة سواء في إيران أو آسيا الوسطى بأنها خيالية بعض الشيء، فهي أحيانا تضخم دور السلالات والأعراق الموجودة في الماضي، وأحيانا أخرى تعبر فقط عن الحنين إلى ثقافة الماضي برموزها وأحلامها، دون تقديم معلومات فعلية حول نوعية الطهي وظروفه، ويرد فراغنر ذلك إلى الطبيعة الأدبية للثقافة الفارسية التي تشكل كتب الطهي جزءا منها.
ويؤكد فراغنر أن هذه الكتب لم تكن موجهة لربات البيوت صاحبات المطابخ المحدودة، التي تراعي فيها احتياجات الأفراد وإمكانياتهم، بل كانت موجهة للطهاة الآخرين في الفترة نفسها أو للأجيال القادمة، ويقول: “كتب الطهي تلك لم تكن موجهة لربات البيوت ولا حتى أصحاب المطاعم، إذ لم يكن هناك أي مطعم في تلك الفترة في إيران أو آسيا الوسطى بل كان ثمة ما يمكن تسميته اليوم بمحلات الأكل، التي كانت تقدم أصنافا محدودة جدا مثل (آش) وهو نوع من الحساء و(آب غوشت) وهو حساء اللحم، وكذا (كالي باتشا) وهو مجموعة من الأطباق تحضر من الكوارع (أرجل الخروف)، ومؤخرا أضيف طبق (شيلو كباب) وقد كان أصحاب هذه المحلات من الطهاة المحترفين أيضا لكنهم لم يكونوا بمستوى طهاة القصور، وهكذا فإن كتب الطهي تلك كانت موجهة فقط للطهاة أنفسهم وأحيانا لشخصيات مهمة مثل كتاب ميرزا علي أكبر خان الذي أهداه إلى الدكتور تولوزان”.
ويلفت سامي زبيدة الباحث في علم الاجتماع والسياسة في جامعة بيرك بيك كوديفا في لندن في فصله “الأرز في ثقافة الطهي في الشرق الأوسط”، إلى أن الحدود الجغرافية للبلدان لا تعني بالضبط حدودا أو فواصل ثقافية “فمثلا نحن لا نستطيع أن نضع العالم العربي كله ضمن ثقافة طهي واحدة متجانسة مختلفة عن ثقافة الطهي في إيران أو تركيا، فالروابط التي تجمع هذه المناطق ليست جهوية فقط بل لها علاقة وثيقة بالطبقات الاجتماعية والدين والبيئة المحيطة، فإذا نظرنا إلى أسلوب الحياة والذي يعد الطهي جزءا منه بالنسبة للطبقة الراقية في مصر، نجد أنها كانت تتبع أسلوب الطبقة الأرستقراطية العثمانية، وانتقلت بعد ذلك إلى تمثل الأسلوب الأوروبي، أما شيعة المدن العراقية وليس جميع الشيعة وكذلك اليهود فقد تأثروا بالمطبخ الفارسي، بينما تأثر السنة بالمطبخ التركي العثماني مع أنهم جميعا يتحدثون العربية”.
لقد تغيرت كتب الطهي العربية كثيرا خلال الأربعين عاما الماضية في رأي بيتر هان مدير معهد فورت نفازثنزم للدراسات الشرقية في برلين، في فصله “إحياء الطعام التقليدي في كتب الطبخ العربية الحديث”، والذي يأتي بمثابة تمهيد لفصول الجزء الثاني من الكتاب “الطعام والمرتبة الاجتماعية” والذي يضعنا أمام الكثير من المعاني والمؤشرات المتعلقة بالمرتبة الاجتماعية والكرامة والشرف ونوع الطعام وكميته والخدمة المقدمة ومكان الجلوس.
يضيف بيتر هان “كان جل هذه الكتب موجها إلى السيدات العاملات اللواتي لا يملكن الوقت لتعلم فنون الطهي في المنازل على أيدي سيدات العائلة، كما توجهت هذه الكتب عموما في البداية إلى تقديم أطباق حديثة وعالمية، لكننا نلحظ توجها مغايرا منذ بداية الثمانينات حتى الآن وهو العودة إلى الأطباق الغربية والطرق التقليدية في صناعتها، وهناك محاولات لإظهار هوية عربية مشتركة لهذه الأطباق دون تجاهل عوامل التفرد والتميز فيها، وقد تعكس هذه التطورات في كتب الطهي ما يحد على أرض الواقع في المجتمعات العربية”.
وتؤكد كلوديا رودن ـ باحثة ومؤلفة للعديد من كتب الطهي ـ في فصلها “الطعام اليهودي في الشرق الأوسط” على غنى المطبخ السفاردي (السفارديم/اليهود الشرقيون) وتنوعه مقارنة بالمطبخ الإشكنازي الذي تمتد جذوره إلى ألمانيا في القرون الوسطى، وترد ذلك إلى البيئة التي عاش فيها اليهود في الشرق الأوسط من حيث اعتدال المناخ والوفرة الغذائية والاندماج مع جيرانهم من المسلمين وغير المسلمين.
وترى كلوديا أن المطبخ اليهودي في المغرب من أهم المطابخ اليهودية وأكثرها تميزا، ويضاهي المطبخ المراكشي أو التطواني، لكن هذا لا يحط من قدر المطابخ اليهودية الأخرى في بلدان البحر الأبيض المتوسط، فكل له ما يميزه، إذ يعكس الأصول التاريخية لكل جماعة يهودية، كما يعكس انضمام موجات جديدة دائما من المهاجرين اليهود إلى هذه الجماعات، كما حدث في حارة اليهود في مصر، التي بنيت عام 389 وسوق السمك في الإسكندرية، وكلاهما استقبل على مر العصور أفواجا من اليهود الجدد، أتوا حاملين ثقافة البلدان التي قدموا منها، مثل يهود اليمن وإسبانيا والبرتغال الذين قدموا في القرن العشرين”.
وتذكر الباحثة أنه على الرغم من تهميش ثقافة السفارديم في إسرائيل، إلا أن مطبخهم دائماً في تفوق وازدهار، وبينما يتعلم الأطفال في المدارس أن وجبة العشاء اليهودية التقليدية ليوم الجمعة هي السمك وحساء الدجاج، تأكل معظم العائلات اليهودية وجبات شرقية مثل الكسكس أو السمك والبيض وصلصة الليمون والأرز، ولا يزال هذا الطعام الشرقي يعد طعاماً إثنياً حتى الآن، حتى إن التلاميذ في المدارس يخجلون من الاعتراف بأنهم يتناولون هذه الأطباق، ولا يقرون إلا بتناول الستيك والبطاطا أو الفلافل.
ويعد الطعام في المجتمع اليمني في بحث أنيت ماكليغان الباحثة في أوضاع النساء “الطعام والجنوسة في المجتمع اليمني” محورا لعلاقات متشابكة ومتصارعة “إذ تستعمل النساء الطعام كسلاح في تحسين موقعهن ضمن العائلة ويستعمله الرجال كقوة رمزية للتعبير عن السيطرة”.
وتؤكد ماكليغان أن الطعام في المجتمع اليمني يعد أداة للتعريف بالتزامات كل جنس تجاه الآخر، “ولقد سألت مجموعة من النساء حول السبب الرئيسي لخلافهن مع أزواجهن، فأجبن بصوت واحد: الغذاء”.
وتقول “تحدد علاقة المرأة بالرجل علاقتها بالطعام، فالنساء اللواتي غاب أزواجهن للعمل في الخليج مثلا، يقلن أنهن لا يأكلن طعاما جيدا، ولا يجدن من يحضر لهن الفاكهة من السوق، كما يغيب اللحم عن الوجبات التي يتناولنها، إذ إن اللحم مرتبط بالرجال في هذا المجتمع”.
ويبحث فصل الكاتبة السعودية مي يماني “الطهي والطبقة الاجتماعية في مكة” أهمية الطعام عند طبقة من النخبة الملكية التي لم تعد تسكن مكة لأسباب اجتماعية أو اقتصادية، وتتكون هذه الطبقة من عائلات التجار الكبار، وعلماء الدين والمطوفين وهم الأدلاء في موسم الحج.
وتقول يماني “يحرص المكيون على تقديم أطباق معينة خاصة بهم يستعملون فيها خلطاتهم الخاصة من التوابل والبهارات، ويقدمونها ويأكلونها كذلك بطريقتهم التقليدية، وقد استعاد المكيون بعض الطقوس التي كانت قد اختفت منذ عقود ما بعد مرحلة النفط”.
وتضيف “يميز الطعام معظم المناسبات الاجتماعية والدينية للمكيين في مكة وخارجها ويشكل الطعام رمزا لوحدة المكيين وتميزهم، ومن هذه المناسبات احتفالات المولد النبوي إذ يتم الاحتفال بطهي خروف كامل في الفرن مع الأرز وبعض الأطباق الجانبية، وهناك طبق العاشورية الذي يتكون من عشرة أنواع من الحبوب، ويقدم هذا الطبق للاحتفال بالعاشر من محرم”.
وتشير يماني إلى عادات المكيين في إكرام الضيف وترى أنها إحدى الوسائل لتعزيز المكانة الاجتماعية الرفيعة، ويتضمن ذلك مجاملة الضيوف والعمل على راحتهم طوال فترة وجودهم وحتى لو كان المضيف أعلى مرتبة من الضيف فعليه أن يخدمه بنفسه، ويعلل المكيون ذلك بالحديث الشريف “من كان يحب الله ورسوله فليكرم ضيفه”، ولا بد أن يقوم المضيف نفسه بذلك حتى مع وجود الخدم، فلا يترك ضيفه أبدا.
ومن طريف ما ترصده كريستيان بومبيرغر في فصلها “العادات الغذائية والحدود الثقافية في شمال إيران” الاختلافات الموجودة في العادات الغذائية لدى سكان بحر قزوين، تقول “يرى أهل جيلان أن أهم ما يميزهم ولعهم بأكل الخبز، وينظرون إلى هذا الولع بشيء من السخرية ويلقبون أهل قزوين (بدهان جوشيد) أي ذوي الأفواه الكبيرة، لأنهم يمضغون الخبز دائما فتظهر أسنانهم، ويصور النمط الأركي السائد بأنهم مجموعة من المساكين آكلي الخبز الذين لا يملكون رفاهية أكل الأرز الجيلاني، والجيلانيون لا يأكلون الخبز بل يعدونه أكله انتقاصا من مكانتهم، فقد يقول الرجل الجيلاني لزوجته إذا غضب منها (اذهبي وتناولي بعض الخبز والموتى) وعندما يغضب الأهل من أولادهم يهددونهم بإرسالهم إلى أراك حيث يعانون من أكل الخبز، وعلى العكس من ذلك تمجد الحكم والأمثال الأراكية الخبز وطعمه ورائحته، ويشددون على أهميته بالنسبة لهم، ويعدونه الخيط الذي يربطهم بالمنزل”.
يقوم الجزء الثالث من الكتاب بمعالجة لغة الطعام في عدة مستويات منها فلسفة التذوق التي تخضع لعوامل التغيير مثل أي ظاهرة ثقافية، وآداب الطعام ولاسيما في المناسبات والمآدب ويتضمن آداب الحديث والسلوك في أثناء الطعام، ولغة المجاز من جانب استعمال مفردات الطعام كناية عن أشخاص أو مناسبات معينة، فمثلا تقيم بعض القبائل الأفغانية الزفاف بعدد أطباق الأرز التي قدمت، واستعمال كلمة الخبز أو العيش كناية عن الطعام عموما في بعض المجتمعات.
يختار ريتشارد تابر الباحث في الأنثربولوجيا في معهد الدراسات الشرقية والأفريقية في فصله حول الجوانب الرمزية والاجتماعية للشراب والشرب في المجتمع الإسلامي في الشرق الأوسط ثلاثة أنواع من السوائل تحمل العديد من المعاني والمضامين في معظم الثقافات وليست حكرا على الثقافة الإسلامية في الشرق الأوسط، وهذه السوائل هي الدم والنبيذ والماء، فضلا عن تعريجه على مشروبي الشاي والقهوة، فقد تم تحريم الخمر في الإسلام لما فيه من تلويث للدم وأصبح تعاطيه خطيئة كبرى، ويستعمل الماء في الإسلام للطهارة، فمسببات النجاسة مثل الحيض والجماع والولادة كلها يجب التطهر منها بالماء، وللماء الطهور مواصفات خاصة حيث يجب أن يكون جاريا صافيا بلا رائحة ولا لون ولا طعم، أما الدم فهو من أكثر الملوثات في التشريع الإسلامي فلا يجوز أكله أو شربه، لكنه يبدو مقدسا في حالات الشهادة أو الأضاحي.
ويقول ريتشارد “يؤسس الدم لصلة القرابة والنسب والرابطة الجماعية، أما الماء فيرتبط بالفردية داخل المجموعة، وعموما يتعلق الدم بالعالم المادي هنا وبالجحيم في الآخرة، ويتعلق كذلك بالحزن والمرارة والعواطف الجنسية، بينما يتعلق الماء بالخلود والفردوس والألوهية والقيم الروحية والحب الإلهي”.
ويخلص ريتشارد إلى أن العلاقة بين السوائل الثلاثة لها أبعاد وصلات مع العالم الميتافيزيقي والقوى الإلهية وتعتمد هذه الصلة أساسا على الزمن والحركة، فقوة الماء والدم وطهارتهما تعتمد على جريانهما وتدفقهما بدرجة معينة، أما قوة النبيذ وطهارته فترتبط بالأبدية والخلود بينما يرتبط تلوثه بالحياة الفانية، وتتضارب المواقف حول السوائل الثلاثة بشكل كبير كما أن العلاقة بينها غير ثابتة ولكل جماعة تأويلها المناسب لهذه السوائل فتضيف إليها أو تحذف منها قيما أخلاقية محددة، ولكل سائل منها قوة رمزية يمكن أن تعمل على تحويل الأفراد ودفعهم إلى فعل ما وتتأتى هذه القوة من التأويل الثقافي لهذا السائل في مجتمع ما، لذا يمكن القول أن التأويل الثقافي لرموز هذه السوائل في أية ثقافة محلية سيعكس ويحدد تجربة هذا المجتمع بالنسبة للمجتمعات الأخرى، إسلامية أو غير إسلامية.
ويؤكد الناقد د. صبري حافظ في فصله الطعام ورموزه السيميائية في الأدب العربي، استعمال الأدب العربي الكلاسيكي لرموز الطهي والطعام للتعبير عن عدة جوانب في الواقع، فنجد أن الشعر الكلاسيكي قبل الإسلام يعج بصور الطهي ومصطلحاته، كما يستعمل القرآن الطعام والشراب بكثرة في سرده حول الحياة الدنيا والآخرة.
ويرى حافظ أنه مع دخول الأدب الواقعي تغيرت عوامل الطهي شكلا ووظيفة في النص الأدبي، إذ ظهرت بصورة أكثر ديناميكية ولم تعد تنحصر في بعد واحد، ويتناول عددا من الأعمال الأدبية التي كان للطعام رمزيته فيها فيلفت إلى عناوين اتخذت من الطعام عناوينا مثل “رأس السمكة”، و”الوليمة” لحيد حيدر، و”تمر حنة عجب” لمحمود تيمور، و”قصعة من الخبز” و”الزيت والتمر” لعبدالله القويري، و”البرتقال المر” لسلمى الحفار الكزبري، و”بيضة الديك” لمحمد زفزاف.
ويحلل حافظ الطقوس والرموز الاجتماعية بما فيها الطعام وطهيه وتنوعاته المكانية في عدد من أعمال نجيب محفوظ وخاصة ثلاثيته الشهيرة “بين القصرين”، و”قصر الشوق”، و”السكرية”، ويلتفت إلى أن الطعام يرتبط كمتعة حسية في الأدب بالمتع الأخرى خاصة بالجنس، “وفي ثلاثية نجيب محفوظ نجد أن الطعام الذي يقدم في بيت المحظية في سهرات المتعة يختلف تماما عن الطعام المقدم في الأجواء العائلية في المنزل، إذ عادة ما تقدم أطباق المزة في بيت المحظية وتتبعها المشروبات الكحولية، وكما ترتبط المزة بالكحول في هذه السهرات يرتبط الرقص والغناء بممارسة الجنس”.
ويخلص صبري حافظ إلى أن الرموز السيميائية للطعام تخترق كل جوانب التعبير الأدبي، وللطعام رموزه الخاصة، لكن إذا نزعت هذه الرموز عن سياقها العادي فإنها تخلق تغييرا مهما في تطور الحبكة وفي الإشارة للخلفية الثقافية، كما أنها تضيء جوانب مهمة في الاعتقادات الدينية والتراثية، ويتفاعل الطعام مع البعد المكاني في السرد ويلعب دورا حيويا في عدد من النشاطات الإنسانية الدينية أو الشهوانية.
الكتاب ترجمه عبلة عودة وحرر نسخته العربية د. أحمد خريس، وحرر نسخته الإنجليزية سامي زبيدة وريتشارد تابر، وشارك فيه البروفيسور توني آلان المتخصص في الجغرافيا في معهد الدراسات الشرقية والأفريقية، وفرنسوا أوييل سالنيف الباحث في الأنثروبولوجيا والثقافة، وكريستيان برومبيرجر مدرس علم الأجناس في جامعة بروفيس، وعبدالحي الدويري الأستاذ المساعد في معهد البحث العلمي جامعة محمد الخامس بالرباط، ومانلاويلا مارين الباحثة بقسم الدراسات العربية في المعهد الاستشاري الأعلى للعلوم بمدريد.
المصدر : ميدل ايست اون لاين
http://www.middle-east-online.com/?id=103648