محمد حبيدة أستاذ التاريخ الاجتماعي بجامعة ابن طفيل بالقنيطرة-المغرب. مدير مختبر “تاريخ وسوسيولوجيا المغارب”. اهتماماته ذات صلة بالأنثروبولوجيا التاريخية والمناهج والترجمة. من مؤلفاته: “كتابة التاريخ: قراءات وتأويلات”، “من أجل تاريخ إشكالي: ترجمات مختارة”، “تاريخ أوروبا: من الفيودالية إلى الأنوار”، “المغرب النباتي: التاريخ والبيولوجيا” (بالفرنسية).
كريمة حكوش: من يقرأ كتاباتك تستوقفه صورة المزاوجة بين تاريخ المغرب وتاريخ أوروبا، بين الترجمة ومناهج الكتابة التاريخية، من “المغرب النباتي” الذي يرسم تاريخ الأغذية والزراعة في المغرب قبل الاستعمار، إلى “تاريخ أوروبا من الفيودالية إلى الأنوار”، من “التاريخ الإشكالي” الذي يعرض للتصورات الراهنة للبحث التاريخي، إلى التأويلات الممكنة في “كتابة التاريخ”. كيف يمكن أن نضع المتتبع لمؤسسة مؤمنون بلا حدود في صورة هذه المزاوجة؟ ربما تكمن الإجابة في طبيعة التكوين. في الأصل اشتغلتُ حول تاريخ أوروبا الفيودالية بجامعة بوردو بفرنسا في بداية الثمانينيات من القرن الماضي. وهذه التجربة هي التي فتحت لي باب المناهج التاريخية والانتقال إلى البحث في تاريخ المغرب من منظور هذه المناهج. ثمة فرق كبير، من حيث التكوين في التاريخ، بين الجامعة المغربية والجامعة الأوروبية. في المغرب نكتفي بالبحث في التاريخ، بينما يجمع الأوروبيون بين البحث في التاريخ والبحث في تجارب المؤرخين، على غرار ما يحصل في تخصصات أخرى كالفلسفة وعلم الاجتماع. والحال أنّ المناهج تُكتسب بالاحتكاك بهذه التجارب. كيف يستقيم مثلاً تكوين الباحث في التاريخ وهو لا يقرأ سوى نصوص المؤرخين الأقدمين التي تُطلعه على ما يحصل في الماضي، بينما يهمل تجارب المؤرخين المحدَثين في تصور التاريخ وكتابته؟ كيف يستقيم هذا التكوين والباحث يجهل ما كتبه مؤرخون كبار من أمثال مارك بلوك، وإريك هابسبوم، وهايدن وايت، ونورمان كانتور وفيرناند بروديل، وغيرهم؟ ومن ناحية أخرى تبدو هذه المزاوجة مفيدة في فهم تاريخنا، المغربي أو المغاربي أو العربي الإسلامي عمومًا، ليس فقط بالاطلاع على تاريخ أوروبا، بل بمعرفة التواريخ الأخرى كتاريخ الهند أو تاريخ الصين أو تاريخ اليابان. نحن نستحضر دائمًا تاريخ أوروبا عندما نقارن. وهذا أمر عادي بالقياس إلى الجوار الجغرافي والتدافع التاريخي الحاصل في منطقة الحوض المتوسط منذ انتشار الإسلام في هذا الحوض، مرورًا بالحروب الصليبية، وانتهاءً بالغَلَبَة الاستعمارية. لكن تاريخ بلدان آسيا يبقى هامًا جدًّا، في صورة هذه المزاوجة، لفهم تاريخنا فهمًا جيدًا. الاطلاعُ على تاريخ آخر يمكِّن من تعميق المقارنات وإسقاط الكليشيهات وتفسير الوقائع والظواهر بكثير من النسبية. ثم إنّ الانفتاح على تاريخ آخر هو انفتاح على لغة أخرى، على منهج آخر، على رؤية أخرى. من يطلع مثلاً على تاريخ الهند لا يفهم فقط مجرى التاريخ الهندي بل يستفيد من تصور تاريخي له وزنه على الساحة المعرفية العالمية، ويتعلق الأمر بـِ “السوبالتيرن ستاديز” التي عرفت تألقًا كبيرًا مع المؤرخ الهندي راناجيت غوها ومن داروا في فلكه وأثبتوا خصوبة هذا التصور في البحث التاريخي في الجامعات الهندية والأمريكية والبريطانية. وهو تصور، كما نعلم، يرد الاعتبار للفئات المهمشة بوصفها فئات فاعلة في التاريخ، ويشتغل في استقلالية تامة عن الأنساق الأوروبية النابعة من فلسفة الأنوار.
يرتبط اسم محمد حبيدة بمدرسة الحوليات، وخاصة بالمؤرخ الفرنسي فيرناند بروديل الذي كتبتَ عنه وترجمتَ له. إلى أي حد يظهر تأثير هذه المدرسة في أعمالك؟
ربما يكون في هذا الربط بعض المبالغة. كل ما في الأمر أنّ مجموعة من اهتماماتي انصبت، بحثًا وترجمةً، على هذه المدرسة. مدرسةُ الحوليات غيرت تصور المؤرخين من البحث في الأحداث إلى البحث في البنيات، من البحث في التاريخ السياسي والعسكري إلى البحث في التاريخ الاجتماعي وتاريخ العقليات. ثم إنّ هذه المدرسة، وهذه هي نقطة قوتها، استطاعت على مدى ثمانية عقود أن تتكيف معرفيًّا مع المنعطفات الإبستيمولوجية التي عرفتها العلوم الاجتماعية في القرن العشرين، وذلك بالقدرة على صياغة المفاهيم وإعادة صياغتها وتجديدها وإيجاد مخارج ذكية للأزمات التي عرفتها الكتابة التاريخية خاصة في الثمانينيات من القرن المذكور. مؤرخون كثر قرأتُ لهم وتأثرت بأفكارهم: مارك بلوك ولوسيان فيفر وجاك لوغوف وبيير نورا وفيرناند بروديل. لكن يبقى هذا الأخير، الذي أعتبره شخصيا أكبر مؤرخ عرفه القرن المنصرم، هو الأكثر تأثيرًا في تكويني مؤرخًا. كتابه “الحوض المتوسط والعالم المتوسطي” خلق ثورة في تصور التاريخ بابتكاره لتعدد الأزمنة التاريخية وتركيزه على الزمن الطويل، الزمن البطيء، الزمن شبه الثابت، الذي يفتح باب التلاقح بين التاريخ والأنثروبولوجيا. وبرأيي لا يكتمل تكوين الباحث في التاريخ من دون الاطلاع على هذا الكتاب. لكن كتابه الرائع “الحضارة المادية والاقتصاد والرأسمالية”، ولاسيما جزؤه الأول “بنيات الحياة اليومية”، هو الذي أثر فيَّ كثيرا بمقاربته المقارِنة التي تجُول بالقارئ بين المجالات الحضارية الكبرى للعالَمين، القديم والجديد، من أوروبا إلى أمريكا مرورًا بالعالم العربي الإسلامي والهند والصين. هذا الكتاب، الذي قرأته أكثر من ثلاثين مرة، هو الذي نقلني من تاريخ أوروبا، ميدان تكويني الأصلي، إلى تاريخ المغرب الاجتماعي، وتحديدًا تاريخ الأغذية والزراعة.
على ذكر تاريخ الأغذية والزراعة كيف استطعتم كتابة “المغرب النباتي” على الرغم من المشاكل التي نعرفها جميعًا فيما يتصل بنقص الأرشيف الكفيل بالكشف عن التاريخ الاجتماعي؟
على خلاف الأرشيف الأوروبي المنظم تنظيمًا محكمًا من حيث الجرد والتوزيع المجالي بين المدن والأقاليم وعمليات التحقيق والنشر التي تسهر عليها مؤسسات ومعاهد متخصصة، يبقى أرشيفنا ضعيفًا وبحاجة إلى جهد كبير من أجل وضعه رهن إشارة الباحثين على النحو اللائق. ومع ذلك لابد من القول بأنّ مشكلة الأرشيف في المغرب لا تُطرح بالحدة نفسها على مستوى الحقب المدروسة. ففيما يخص مرحلة ما قبل الاستعمار التي اشتغلتُ عليها، معظم النصوص المتوفرة إما إخبارية وإما ذات طبيعة فقهية مما يزيد من صعوبة الباحث في مجال التاريخ الاجتماعي. ولذلك يبدو المؤرخ وهو ينقب في الأرشيف وكأنّه يصطاد السمك بالصنارة عوض الشِّباك. هذه الاستعارة تبدو هامةً لأنّ الموضوعات التي تستلزم معالجة كمية مثل الديموغرافيا التاريخية أو تاريخ التجارة يصعب تناولها بدون أرشيفات متسلسلة. ومع ذلك يبقى هذا العائق نسبيًّا، لأنّ الوثائق مهما تعددت وكثرت فإنّها لا تقدم، في نهاية المطاف، سوى إرهاصات لإعادة بناء الواقع التاريخي بناءً تفسيريًّا. هذا يعني أنّ تطور المعرفة التاريخية يرتبط بالاحتكاك بنتائج العلوم الاجتماعية واستخدام أدواتها ومفاهيمها أكثر مما يرتبط بتوفر الأرشيف. فالمسألة هي مسألة مفاهيم بدرجة أساسية، لأنّ هذه الأخيرة هي التي تميز التاريخ عن الأرشيف، وتُمَكن المؤرخ، كما يقول بول فايْن، من الحديث بلغة مغايرة عن لغة الإخباري، ودراسة نمط العيش، ودينامية الجماعة، والعقلية، وغيرها. هذا النقاش يدفعنا إلى التذكير بأنّ تطور المعرفة التاريخية، على النحو المعروف في الجامعات الأوروبية في بداية القرن العشرين، ارتبط بالانفتاح على علم الاجتماع وليس بما وفَّره الأرشيف. أصلاً، علم الاجتماع هو الذي دفع بالمؤرخين إلى مراجعة قوالب التاريخ الجاهزة وحفزهم على التفسير والتأويل، مع النقاش المعرفي الذي حصل بين المدرسة الدوركايمية ومدرسة الحوليات. وبالعودة إلى الكتاب المذكور أقول إنّ الإشكالية الرئيسية التي اشتغلتُ عليها هي الأغذية مدخلاً لفهم المجتمع المغربي وتناقضاته قبل البنيات الحديثة التي أدخلها الاستعمار. كان كلود ليفي ستروس قد نبَّه في كتابه “أصل آداب المائدة” إلى أنّ الأغذية تترجم بنية المجتمع وتكشف عن تناقضاته. هذا ما تبيّن لي في تجربتي مع تاريخ التغذية في المغرب. كان المغاربة نباتيين، يقتاتون أساسًا من الشعير والزيت، بحكم الضرورة الاقتصادية إذ كان الإنتاج الزراعي هو الغالب، لكن سلوكياتهم وحساسياتهم كانت تتغيَّر في أوقات الجوع، فيتحوَّلون من نباتيين إلى لاحِمين، حيث يأكلون مواشيهم الجائعة، ويخرجون عن قواعد الشريعة بأكل لحم الخنزير ولحوم محظورة أخرى.
نغيّر زاوية النظر ونتحدث عن إحدى القضايا الأساسية التي تظهر في انشغالاتك وهي قضية التحقيب التاريخي، إذ تقول إنّ العصر الحديث في المغرب، وبلاد المغارب بشكل عام، بدأ مع الرجة الاستعمارية. بمعنى آخر أنّ القرون الوسطى استمرت حتى نهاية القرن التاسع عشر. كيف يمكن قبول مثل هذا الطرح؟
التحقيب الذي تتبعه أقسام التاريخ بالجامعات المغربية موروث عن التقطيع الكرونولوجي التقليدي (عصر قديم، وعصر وسيط، وعصر حديث، وفترة معاصرة) الذي يستجيب إلى مقاييس صنفٍ معين من التاريخ، هو التاريخ السياسي الذي يهتم، في المقام الأول، بالزمن القصير ذي التذبذبات السياسية والدبلوماسية والعسكرية المتوترة والمتحولة باستمرار. هذا التصور هو الذي يفسر كيف أنّ المؤرخين المغاربة يرون في قيام السعديين بداية للعصر الحديث حيث أصبح الحكم يستند إلى السلالة العربية وإيديولوجية الشرف عوض العصبية القبلية الأمازيغية. هذه المرحلة من تاريخ المغرب هامة حقًّا لكن الأخذ بها مؤشرًا لدخول البلاد في العصر الحديث لا يقنع من الناحية التاريخية. صحيح أنّ حركية كبيرة حصلت في عهدي السلطانين عبد الملك وأحمد المنصور على مستوى تنظيم الجيش وتدبير شؤون المخزن والمكانة السياسية الهامة التي حظي بها المغرب في الساحة الدولية عقب الانتصار على البرتغال في معركة الملوك الثلاثة سنة 1578. لكن بعد وفاة أحمد المنصور انهارت البلاد مثل قصر من ورق بسبب تطاحن الأمراء على الحكم، وتنامي شوكة رجال الدين، وكثرة المجاعات والأوبئة. هذا إن دل على شيء فإنّما يدل على أنّ قوة البلاد ارتبطت بشخص السلطان أكثر مما ارتبطت ببنية الدولة. فقد عجز المخزنُ عن إحداثِ مؤسسات سياسية وإدارية منظمة بحكم القانون، وتأسيسِ نظامٍ قار لولاية العهد، كما عجز عن فرض وجوده على الفقهاء بصفة شاملة ودائمة. ثم إنّ العقليات ظلت متشبثة بالتقليد، مناهضة لكل جديد. فقد تحفظ الناس من ميل السلطان السعدي عبد الملك للتجديد القائم من حوله في الحوض المتوسط في القرن السادس عشر، مثلما تحفظوا من نزوع السلطان العلوي عبد العزيز إلى المستحدثات القادمة من أوروبا في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. ولذلك ظل المغرب يدور في حلقة مفرغة لمدة قرون، وفشِلَ بالتالي في الدخول إلى العصر الحديث بطريقة ذاتية. التاريخ الحديث يستلزم بالضرورة مفهوم الحداثة. والحال أنّ الحداثة هي بنية، اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية، لا يمكن الكشف عنها قبل التحولات المادية والتجارب الجديدة التي أدخلها الاستعمار، والتي فرضت واقعًا لم يسبق له مثيل. لقد ظلت البنيات المادية والثقافية في المغرب لقرون طويلة وفيةً لروح العصر الوسيط. بنيات بطيئة السيل، شبه ثابتة، إذ بقي الناس أوفياء للنمط المعيشي والفكري نفسه الذي تركه الأجداد. هذا بالإضافة إلى استمرارية بنيةٍ جغرافية عمودية، جعلت المغاربة يديرون ظهرهم للبحر، ويركزون معظم أنشطتهم بمدن الداخل وقراه، من حيث استغلال المجال وشبكات التبادل التجاري. لقد لخص الاقتصادي الأمريكي شارل ستيوارت هذا الوضع جيدًا، بالقياس إلى التفاوت الحاصل بين المغرب وأوروبا، عندما قال إنّ المغاربة استطاعوا الدفاع عن سواحلهم، في مواجهة الغزو الإيبيري خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر، “لأنّهم كانوا يحملون أفكارًا وتقنيات تتلاءم مع تلك الأزمنة”، لكن “مشكلتهم القاتلة” هي أنهم لم يغيِّروا هذه الأفكار والتقنيات التي تنتمي إلى القرون الوسطى، في وقت كانت تجري فيه تحولات كبرى وعميقة على مقربة منهم، في أوروبا، حتى جاء الاستعمار الفرنسي في مطلع القرن العشرين، وزعزع البنيات التقليدية وأدخل أساليب حديثة في حياة الناس المادية والثقافية.
أليس في هذا الطرح استعادة للفكرة التي نادى بها جاك لوغوف حول “القرون الوسطى الطويلة” فيما يتصل بالتاريخ الأوروبي؟
يقول المؤرخ الفرنسي بول لاكومب إنّ “الزمن لا يمثل قيمة في حد ذاته، من الوجهة الموضوعية، إذ هو مجرد فكرة من ابتكارنا نحن”. معنى ذلك أنّ التحقيب مفهوم قابل للمراجعة على ضوء التطور الحاصل في المناهج والإشكاليات. نحن نعلم أنّ تاريخ أوروبا لا يطرح الكثير من المشاكل من حيث فهم الانتقالات الكبرى بين الحقب أو بين أنماط الإنتاج أو بين أنساق التفكير. ومع ذلك ظلت المراجعة قائمة. يرى جاك لوغوف أنّ نهضة القرن السادس عشر، التي حدثت فيها تحولات كبرى كظهور البورجوازية ونشأة الرأسمالية والكشوفات الجغرافية والإصلاح الديني والإنسانوية، لم تُدخل أوروبا إلى العصر الحديث، كونها مجرد استمرار للعصر الوسيط الكلاسيكي على مستوى حياة الناس وحساسياتهم، وأنّ التحول الكبير باتجاه العصر الحديث أحدثته الثورة الصناعية وأفكار الأنوار حيث صارت الحداثة ظاهرة شمولية غيرت حياة الناس اليومية وسلوكياتهم وعاداتهم. والتنبه إلى حياة الناس هو في واقع الأمر تنبه لما يمكن أن يضيفه علم الاجتماع بشقيه، السوسيولوجيا والإثنولوجيا، إلى فهم التاريخ، ذلك أنّ علم الاجتماع هو الذي يغير التقسيمات الكرونولوجية بما يتلاءم مع التاريخ، ويدفع المؤرخين للتنبه بصفة خاصة للزمن شبه الثابت، على حد قوله. ولذلك تطرح علينا هذه الرؤية تحديًا بالقياس إلى فهم تاريخنا والنظر إليه من زاوية البنيات وليس الأحداث. في واقع الأمر، تندرج بنيات المجتمع المغربي، بمختلف مستوياتها، من علاقات بين الإنسان والمجال، وتقنيات زراعية وحرفية، وأطر المعيش اليومي، كالأغذية واللباس والسكن، وشكل ممارسة السلطة، والعلاقات بين الحاكمين والمحكومين، وبين الشرائح الاجتماعية، وبين الرجال والنساء، وبين الآباء والأبناء، والطقوس الدينية، والأفكار الموَجِّهة للمجتمع، وعقليات الناس وسلوكياتهم ومواقفهم من الحياة والموت، ضمن “تاريخ بطيء التحول، مُكوَّن في الغالب من حلقات متكررة باستمرار”، كما يقول فيرناند بروديل، وذلك إلى غاية الرجة الاستعمارية.
يلاحظ المهتم باتجاهات البحث التاريخي في الجامعة المغربية، في المدة الأخيرة، توجه بعض المؤرخين نحو ما يسمى بـ “الزمن الراهن” أو “التاريخ الفوري” كما يقول الصحفي الفرنسي جون لاكوتير. كيف تفسر اقتحام المؤرخ لهذا المجال الذي ظل إلى وقت قريب حكرًا على المختصين في علوم السياسة والاجتماع، وعلى الصحفيين أيضًا؟
معظم المؤرخين كانوا متحفظين من الخوض في الزمن الراهن. يعود هذا الأمر لثلاثة أسباب رئيسية: أولاً سببٌ منهجي لأنّ المقاربة الموضوعية تستلزم، من حيث المبدأ، وجود مسافة زمنية بين الباحث وموضوع البحث. ثانيًا سببٌ معرفي كون أنّ التاريخ، بالمنظور الوضعاني، لا يكتب انطلاقًا من شهادات ومذكرات وخطابات وجرائد وروايات شفهية، بل اعتمادًا على الوثائق المكتوبة. وثالثًا سببٌ سياسي يتمثل في حساسية المرحلة وارتباط رجالاتها بتفاعلات ما يجري اليوم على الساحة السياسية. ولذلك يرى المؤرخون المشكِّكون في مصداقية التاريخ الراهن أنّ الانتقال من التاريخ البعيد إلى التاريخ القريب هو انتقال في التخصص نفسه، أي انتقال من التاريخ إلى علم السياسة وعلم الاجتماع السياسي. لكن الذي حصل هو أنّ الإنتاج المرتبط بعلوم السياسة والاجتماع أسهم إسهاماً كبيرًا في فهم الكثير من القضايا ليس فقط من الناحية السياسية والسوسيولوجية، بل من الناحية التاريخية أيضًا، كما تدل على ذلك أعمال ديل إكلمان (المعرفة والسلطة/2000)، والمهدي بنونة (أبطال بلا مجد/2002)، وجون واتيربوري (أمير المؤمنين/2004). هذا ما حفز المؤرخين على اقتحام الزمن الراهن والاجتهاد من أجل فتح المعرفة التاريخية على تساؤلات العلوم الاجتماعية. ويتضح ذلك في عدد من الأطروحات التي نوقشت بأقسام التاريخ، والملتقيات العلمية التي تناولت هذا الموضوع بالعلاقة مع إشكالية الذاكرة. هذا بالإضافة إلى تكوين خاص بالزمن الراهن، من درجة ماستر بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط.
مسألة المسافة الزمنية تبقى مع ذلك حجة رئيسية، لأنّ القرب من الأحداث من شأنه إبطال الحس الموضوعي الذي اعتاد عليه المؤرخ، والتشويش على أبحاثه، وإعمال ذاتيته في تناول الظواهر والأحداث المعروضة للنقاش. أليس كذلك؟
محمد حبيدة: هذا ما يخيف المؤرخ. صحيح. اختمار الأحداث شيء مهم جدًّا بالنسبة إلى المشتغل في مجال التاريخ، لأنّه يوفر إمكانية فهم الأمور وقد تبيّنت نتائجها. لكن قضية المسافة تبقى نسبية في نهاية المطاف. فكثيرة هي الكتابات التاريخية التي تشكل اليوم مرجعًا أساسيًّا في تاريخ البشرية، أنتجها مؤرخون حول التواريخ القريبة منهم من دون مسافة زمنية تفصل بينهم وبين موضوعاتهم، أمثال الإغريقي هيرودوت، والعربي ابن خلدون، والفرنسي ميشلي. وفي المقابل، فيما يخص الأزمنة البعيدة عن المؤرخ، قد لا تُوَفِّر المسافةُ، بالضرورة، ما يلزم من موضوعية لمقاربة الأمور، كما يظهر في بعض الأحيان فيما يتعلق بالتاريخ القديم، تاريخ ما قبل الإسلام، الذي لا يسلم من ذاتية الحاضر ورهاناته.
من المشكلات الرئيسية التي يطرحها الزمن الراهن الخلط الذي يحصل في أحيان كثيرة بين التاريخ والذاكرة. كيف يمكن توضيح هذا الأمر؟
قضية الذاكرة عامل من العوامل التي دفعت بعض المؤرخين إلى الخروج من صمتهم ووضع النقط على الحروف في المغرب على وجه الخصوص، إذ أنّ العديد من منتجي الذاكرة، عبر شهادات حول أحداث سنوات الرصاص في شكل مذكرات تحديدًا، يعتبرون ما يكتبونه تاريخًا. والحال أنّ ما يحكيه الأفراد، انطلاقًا من تجربتهم الخاصة، أو الحزبية، لا يمكن نعته بالكتابة التاريخية. لأنّ الشهادة شيءٌ وكتابة التاريخ شيء آخر. التمييز ضروري، في هذا المقام، بين الشهادة التاريخية والكتابة التاريخية. فالشهادة أو الذاكرة، فردية كانت أم جماعية، تبقى ذات سمة ذاتية، انفعالية، رمزية، لأنّها تفتقر لجهاز مفاهيمي وتعمل بكيفية إرادية أو لا إرادية، بناءً على حاجيات اللحظة، على تضخيم الأحداث أو تقزيمها. ومن ثم تبقى مجرد صورة غالبًا ما تغلب عليها القدسية كصورة بعض الشخصيات السياسية، من زعماء أحزاب أو زعماء تمرد أو قواد حرب. ولذلك تقترن، كما يرى بيير نورا، بإعادة بناء المخيال وخروج المكبوت. ثم إنّ الذاكرة تحكمها الغائية، وتشتغل من منظور “الواجب” تحت شعار “حتى لا يتكرر هذا” الذي غالبًا ما يخضع لتوجهات سياسية وأخلاقية. أما الكتابة التاريخية فتقوم على الموضوعية والتحليل والنقد. فما ينتظره القارئ من المؤرخ يختلف عما ينتظره من راوي الشهادة أو منتج الذاكرة. فالقارئ يترقب من الكتابة التاريخية فك تعقيدات الماضي، سواء كان ماضيًا بعيدًا أم قريبًا، ومساءلة هذا الماضي والسعي إلى فهمه. وهو فهم يقوم على النقد، على الاحتمال، على النسبية، لإعادة بناء نسق التطورات والاستمراريات الزمنية والقطائع، بعيدًا عن أشكال الحكم. لقد قال بول ريكور عن حق: “القاضي هو الذي يحكم ويعاقب، والمواطن هو الذي يناضل ضد النسيان ومن أجل إنصاف الذاكرة، أمّا المؤرخ فمهمته تكمن في الفهم دون اتهام أو تبرئة”.
التاريخ الراهن يقترن، كما نعلم جميعًا، بعودة الحدث إلى ساحة البحث التاريخي بعد مرحلة انصبت فيها جهود المؤرخين على التاريخ الاقتصادي والاجتماعي والثقافي؟ هل تحصل هذه العودة على حساب تاريخ البنيات والعقليات؟
التشظي الكبير الذي عرفه التاريخ على مستوى الموضوعات والإشكاليات مع الجيل الثالث من مدرسة الحوليات في السبعينات من القرن العشرين بزعامة جاك لوغوف قتَلَ السياسة والتغيُّر والمنعطف. هذا ما عبَّر عنه فرانسوا دوس في كتابه “التاريخ المفتَّت” حيث تجزأ التاريخ إلى موضوعات فرعية كثيرة مشبعة حد التخمة بالأنثروبولوجيا حتى أصبح معها التاريخ ثابتًا (immobile). ولذلك ارتفعت أصوات عديدة في نهاية الثمانينات وبداية التسعينات تدعو إلى ممارسة نوع من النقد الذاتي، ومراجعة النماذج المهيمنة المرتبطة بالعقليات والأنثروبولوجيا التاريخية، وإعادة الاعتبار للفرد باعتباره فاعلاً تاريخيًّا والتنبه إلى السياقات التي تتحكم فيها الأحداث، والتعامل مع الحدث بوصفه مؤشرًا رئيسيًّا للكشف عن البنية وفهمها. لكن العودة إلى الحدث لا تعني العودة إلى التاريخ الحدثي، على الطريقة اللافيسية (نسبة إلى المؤرخ الوضعاني إرنست لافيس). فالمقصود هو بعث الحدث المرتبط بالبنية حتى يكون البحث في هذا المجال ممكنًا من الناحية المعرفية ومصدرًا للتجديد من الوجهة المنهجية. فالمطلوب هو الاهتمام بالحدث من زاوية الآليات الاجتماعية للسلطة، ومقاربة السياسة مقاربةً أنثروبولوجية كشكل اجتماعي وثقافي والتركيز على دور الإيديولوجيا في تكوين الحقل السياسي. لقد تجاوز المؤرخون في “عودة الحدث” التفسير السببي الذي يعالج الحدث انطلاقًا من منبعه، وقاربوا الموضوع مقاربة هيرمينوطيقية تُحوِّل التفسير باتجاه المصب، أي باتجاه تأويل ما يخلفه الحدث من آثار في الواقع والفكر والتمثل. من هذه الزاوية أعاد عددٌ من المؤرخين قراءة الثورة الفرنسية وأحداث أخرى كثيرة.
ينقلنا الكلام عن “الحدث” و”الثورة”، ارتباطًا بقضية الزمن الراهن، إلى واقع ملموس هو “الربيع العربي”. كيف يمكن للمؤرخ أن يقارب موضوعًا فائرًا كهذا؟
محمد حبيدة: هذا سؤال مأزقي. لنحدِّد أولاً المفهوم. الزمن الراهن سردٌ للأحداث واجتهاد في تفسيرها، في الوقت نفسه. هنا تكمن الصعوبة، لأنّ تفسير ما هو متفاعل هو المأزق بعينه. لماذا أقول هذا؟ لأنّ التفسير يتحول أحيانًا إلى تشخيص. ثم إنّ التشخيص قد يسقط في التعليق. وهما معًا، أي التشخيص والتعليق، لا ينجوان، مهما غَلُبَ التفسير، من التشويش الطبيعي الذي تمارسه تقلبات الساعة. كان فيرناند بروديل قد ميّز في معظم أعماله بين الزمن القصير والزمن الطويل. والزمن القصير، زمن الأحداث المتفاعلة في حينها، زمنٌ سريعٌ ومتقلِّبٌ ودراميٌ. ولذلك فهو زمن خادع، يخترق التاريخ مثل الضوء، لكنه سرعان ما يختفي ويغيب. إذا لم يستحضر المؤرخ الزمن الطويل، القماشة الأساسية لكل تحليل تاريخي رصين، قد تحجب عنه أضواءُ الحدث الرؤيةَ، ويجانب التحليل، ويسقط بالتالي في التعليق. ما حصل في البلاد العربية خلال الثلاث سنوات الأخيرة محك حقيقي بالنسبة إلى مؤرخي الزمن الراهن. لقد كشفت أحداث “الربيع العربي” عن بنية سياسية واجتماعية معقدة. فالدولة التي انتفض ضدها الشارع لا هي دينية محضة، ولا هي مدنية صرفة. فالأنظمة العربية كانت قد لعبت، في مرحلة التحرر من الاستعمار والحصول على الاستقلال، على تشويش الصورة السياسية والثقافية، والرهان على الضبابية في تدبير شؤون السياسة والدين، وتأمين البقاء برعاية الفساد ونهج سياسة الاستبداد، واللعب على المتناقضات، والعمل على ضرب تيار بتيار آخر، وتخويف التيارات من بعضها البعض، الإسلامية والماركسية في مرحلة أولى، ثم الإسلامية والعلمانية في مرحلة ثانية. وقد وجدت هذه الأنظمة مصلحةً كبيرة في هذه السياسة اتقاءً لما قد يترتب عن هذا التيار أو ذاك من تهديد قد يعصف بها، أي نظام الدولة الدينية على طريقة “الخلافة”، أو نظام الدولة المدنية على طريقة “الديمقراطية”. أما من الناحية الاجتماعية فقد ظلت الشرائح العريضة في المجتمع، بسبب ضعف التكوين المدرسي وعتاقة المناهج الدراسية، مرتبطة بالخطابات الانفعالية وبالفهم التقليدي الذي يغيب فيه إعمال العقل وحس الاختلاف. وبالتالي فقد شكلت تربة خصبة نمت فيها الجماعات المتطرفة التي رأت في التحولات الراهنة فرصة للرجوع إلى دولة الخلافة. ولذلك يبدو لي أنّ المشكلة الرئيسية في أحداث “الربيع العربي” لا تكمن في الاحتكار العمودي للسلطة بقدر ما تكمن في التمثل التقليدي للدين. ومعنى ذلك أنّ إصلاح الدين هو المدخل الرئيسي لإصلاح السياسة. هنا أيضًا يمكننا فهم هذه الإشكالية بمنظور مقارِن. جارتنا أوروبا لـمّا قامت فيها الثورات في القرنين السابع عشر (الثورة الجليلة في إنجلترا) والثامن عشر (الثورة الفرنسية) كانت قد مرَّت من مرحلة الإصلاح الديني في القرن السادس عشر. إنّ إسقاط القداسة عن الدين في أوروبا هو الذي مهد لإسقاط القداسة عن السلطة السياسية ويسَّر التحول من سيادة الدولة (المونارشية الإلهية) بالطريقة التي برّرها توماس هوبز إلى سيادة الأمة على النحو الذي بيَّنه جون لوك ومونتيسكيو وجون جاك روسو. الرهان الرئيسي اليوم في البلاد العربية هو إصلاح الدين، لكن من داخل الدين، حتى تحظى عملية الإصلاح هذه بما يلزم من مصداقية كما حصل في عصر النهضة الأوروبية مع مارتن لوثر ومصلحين دينيين آخرين. نحن بحاجة إلى فقهاء مستنيرين يفهمون في الدين وفي غير الدين، أي في الفلسفة والتاريخ وعلم الاجتماع والقانون الوضعي، حتى يستطيعوا توجيه الناس نحو ممارسةٍ دينية تتلاءم ومستلزمات التحولات الحديثة، نحو ممارسةٍ تجعل الدين يُحيل إلى الحياة لا إلى عذاب القبر، نحو ممارسةٍ تحجم من دور الدين في الحياة السياسية. ومهما يكن من أمر فإنّ أحداث “الربيع العربي” حرّكت المياه الراكدة، وخلقت دينامية سياسية واجتماعية جديدة، وتدافعًا فكريًّا غير مسبوق بين تيار حداثي يدعو إلى الأخذ بالقيم الكونية المتمثلة في الحرية والمساواة المدنية والديمقراطية، وتيار أصولي متشبث بالعودة إلى نمط الخلافة. ومن شأن هذا التدافع أن يفرز اتجاهًا واضح المعالم على المدى المتوسط أو البعيد. التحولُ التاريخي لا يحصل في المدى القريب، بل يحصل في الزمن عبر صراعات وتدافعات ومخاضات. ومن شأن طرق التربية والتكوين ومؤسسات الفكر والمعرفة ووسائل الإعلام أن تلعب دورًا أساسيًّا في هذا التحول لتشييد وعاء سياسي وثقافي شفاف يتسع للجميع ولكل الآراء والعقائد. أمّا إذا استمرت الأمور، في المدى البعيد، بالشكل الضبابي الذي نعيشه اليوم خدمة لمصالح ضيقة، قبلية أو حزبية أو مذهبية، وسادت فيه الأفكار الظلامية وفرضت وجودها في الواقع، فمعنى ذلك أنّنا سنظل على هامش التغيير، على هامش الحداثة، على هامش التاريخ.
أود في ختام هذا الحوار أن أطرح سؤالاً يخص واقع البحث التاريخي في المغرب. كيف تقيِّمون هذا الواقع؟
هذا سؤال عريض. سؤال شائك. سؤال يكتسي حساسية كبيرة لأنّه لا يروق للكثير من المشتغلين في هذا الميدان. ومع ذلك أقول إنّ مشاكل كثيرة تخيّم على البحث التاريخي، في طليعتها ضعف التكوين. فالمتتبع النبيه لما يقدَّم من أطروحات جامعية وما ينشر من مقالات ومؤلفات يلاحظ قصورًا بيِّنًا على مستوى المنهج، ورؤية الزمن، وبناء الموضوع. فقد اعتاد الباحث في التاريخ أن يعالج موضوعًا من الموضوعات التاريخية دون طرح إشكالي، إمّا تبعًا لانتمائه إلى المجال الجغرافي أو البشري الذي يمثل موضوع البحث، أو لقربه من وثائق من شأنها أن تشكل قاعدة لهذا البحث، أو استجابة لاقتراح من مشرفٍ على البحث، يرى فيه مبررًا لملء فراغ في حقبة ما أو موضوع ما، أو محاكاة لبحث حقق نجاحًا منهجيًّا. وفي هذه الحالة أو تلك، غالبًا ما تغيب الرؤية والأطروحة. هذا الوضع تفسره ثلاثة أسباب رئيسية: أولًا: غياب بنيات للبحث تؤطر الباحثين، وتوفر لهم الوسائل المادية، وتوجه أعمالهم باتجاه أقطاب بحثية واضحة، يسهر عليها باحثون متمرسون راكموا من التجربة ما يؤهلهم لشق مسالك بحثية جديدة ينخرط فيها الطلاب الباحثون. ولذلك ترجمت معظم الأبحاث جهودًا فردية بالدرجة الأولى، غابت عنها لمسة الإشراف وما يقتضيه من توجه منهجي ومعرفي. ثانيًا: إهمال اللغات الأوروبية، إذ يعاني الكثير من الطلاب والباحثين من قصور لغوي فيما يتصل باللغات الحية. ومعنى ذلك، أنّ اللغة العربية وحدها لن تمكن الباحث، مهما اجتهد، من السير بعيدًا في البحث، ليس فقط في المجال الذي يعنينا، بل في الآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية بصفة عامة. فإتقان لغات أخرى، أو على الأقل استخدامها أداةً في البحث، يعني الانفتاح على مناهج أخرى، وأفكار أخرى، وآفاق أخرى. ثالثا: ضعف المتابعة النقدية التي من شأنها أن تحفز على الصرامة في البحث والتقدم في التناول المنهجي، بواسطة قراءات بعيدة عن المجاملة والمحاباة، من شأنها أن تكشف أسباب العطب ومواطن الخلل، أو تخلق في المقابل نقاشًا مثمرًا حول موضوع ما، أو رؤية ما. وهذه المتابعة النقدية هي التي من شأنها أن تصحح الكثير من الأمور، وتقطع الطريق على أشباه الباحثين.
كان عبد الأحد السبتي قد عبَّر عن هذا الوضع، في سياق النقاش الذي دار حول التقرير الخاص بالعلوم الإنسانية والاجتماعية بالمغرب، الذي أشرف عليه محمد الشرقاوي سنة 2009، عندما تحدث عن “بداية التراجع” في البحث التاريخي خلال المدة الأخيرة، بعد مرحلة من التراكم كانت قد تحققت في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي. أين نحن من هذا الوضع اليوم؟
ما قاله عبد الأحد السبتي معاينة صريحة لوضع البحث التاريخي في المغرب. في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي حقق مجموعة من المؤرخين الذين اشتغلوا حول التاريخ المونوغرافي تراكمًا هامًا، إذ جددوا النظرة إلى تاريخ المغرب بتجاوز “النزعة الوطنية” المرتبطة بالرد على الإسطوغرافية الاستعمارية، التي مثلها بعض المؤرخين غداة الاستقلال، وجمعوا بين الصرامةِ الوضعانية في التعامل مع الوثائق وإتقانِ اللغات الأجنبية وعمقِ التحليل المشبع بمفاهيم العلوم الاجتماعية، كما يظهر في مجموعة من الأعمال المرجعية التي همت تاريخ القبائل والمدن والزوايا استنادًا إلى إشكالية تقضي بمعالجة تاريخ المغرب وتفسيره انطلاقًا من الملاحظة المجهرية، أو بعبارة أخرى الانطلاق من البحث في الإقليم لفهم البنيات الاجتماعية والاقتصادية للمغرب قبل التدخل الأوروبي. هذا لا يعني غياب أبحاث جادة ومجددة في الوقت الحالي. فهناك أعمال تواصل التراكم المذكور لكن بمشقة كبيرة. التراجع اليوم بيِّنٌ. دراسات كثيرة همت موضوعات متنوعة خلال العشرين سنة الأخيرة، بدت وكأنها تعالج مجالاً بكرًا، مع العلم أنّ تراكمًا كبيرًا كان قد حصل في هذا الموضوع أو ذاك، يستلزم الرجوع إليه ومحاورته، وربما انتقاده وتجاوزه، إن كانت الفكرة نيرة والمقاربة وجيهة. وهذا القفز الذي لا يخلو من كسل فكري في كثير من الأحيان، إمّا لقصور لغوي، أو لموقف مسبق من الإنتاج الكولونيالي، تسبب في فقر فظيع للكثير من الرسائل الجامعية وحوّلها إلى مونوغرافيات جافة. كيف لنا أن نتصور دراسة نوعية حول تاريخ قبيلة ما، أو مدينة ما، أو مؤسسة دينية ما، تنطلق من مجموعة من المصادر وتُهمل التراكم الذي خلفته مثلا الدراسات الكولونيالية لكل من إدموند دوتي، وإدموند ميشو بيلير، وروبير مونتاني، وجورج سبيلمان، وروجي لوتورنو، أو الدراسات ما بعد الكولونيالية، الأنجلوساكسونية بالخصوص، لكل من إرنست غيلنر، وكليفورد غيرتز، ودايفد هارت، وكينيث براون، وإدموند بورك، وغيرهم، ومناقشتها والعمل على تقديم مقاربات من شأنها أن تفيد في فهم تاريخ البنيات الاجتماعية والسياسية والدينية. اليوم تتناسل الأبحاث، في شكل رسائل وأطروحات، في موضوعات عدة واتجاهات متعددة، لكنّها لا تقدم إضافة تذكر لا شكلاً ولا مضمونًا. فالكثير من هذه الدراسات تظهر كمُسودّات لأنّها تفتقر للصياغة في البناء والانسياب في الأسلوب ولكونها مليئة بالأخطاء اللغوية، ومع ذلك تحصل على شواهد عليا. فهل نحمِّل المسؤولية للباحثين أم للمشرفين أم لهما معا؟ هذا سؤال كبير لا أحد قادر على مواجهته بمسؤولية. ولذلك تبقى الأبحاث التاريخية الجادة قليلة مثل العشب الذي ينبت بين مفاصل الصخر.
المصدر: مؤسسة مؤمنون بلا حدود بتاريخ 11 ديسمبر 2014