موقع أرنتروبوس

مبادئ أساسية 4 – أبعاد الثقافة

culالثقافة هي طريقة حياة ، وهي التي تقدم معنى لها ، وهي التي تحدّدها أيضاً ، فالثقافة هي التي تكمن خلف سلوكنا الإجتماعي ، وكنت قد ألمحت إلى أهمية ذلك في مقالة سابقة ، وهذا سيظهر مع الكلام حول أبعادها :

  1. البعد الأول : المعياري (normative) .
  2. البعد الثاني : المعرفي (cognitive) .
  3. البعد الثالث : المادي (material) .

البعد الأول : المعياري ، وأهم مظاهره :

والأنماط الأساسية للمعايير هي :

وفيما يلي تحديد لكل بُعد مع مثال توضيحي .

*** *** *** *** *** *** *** *** ***

البعد الأول : المعياري : وهو يحتوي على قواعد السلوك المناسبة لجماعة أو لمجتمع ! وأهم مظاهره هي : المعايير ، الزواجر والقيم .

شرّح السوسيولوجي الأمريكي “ويليام سمنر” (William Graham Sumner) طبيعة المعايير ، واعتبر أن أعضاء المجتمع يستعينون بها لترشدهم إلى السلوك الإجتماعي المطلوب ضمن لحظة ما ! وقد لا نشعر بتحكمها بنا ، إلا في اللحظة التي يتم إنتهاكها بها .

مثلاً ، لا يفكر الفرد بالقيادة على اليمين (أو على اليسار تبعاً للدولة) كمعيار إلا عندما يرى أحداً يخالفه ! هو خالف القاعدة المتوقعة للسلوك ، إنحرف عن الطريقة المتبعة !

هذا التوقع ضروري لحفظ النظام في الحياة المجتمعية ! ودونه يقع المجتمع في الفوضى ! الفوضى التي تعني أن سلوك اليوم تتم مكافأته وتعزيزه ، أما غداً فذات السلوك يتم زجره ومعاقبته !

الروتين هنا يؤمن الإستقرار على الصعيد الفردي ، كما على الصعيد الإجتماعي ! وكسر الروتين ، يقوم به الفرد عندما يسافر أو يغير مهنته ! فقط ليؤسس روتيناً مختلفاً !

تتغير قواعد السلوك من مجتمع لآخر ، ووعي هذا الأمر يخفّف كثيراً من مأزم الصدمة الثقافية ، كما من الحكم على الآخر بمعاييرنا !

دوماً سيكون هناك نحن/هم ، لكن هذه الثنائية ليست في مواجهة أو تصارع ! بل هي حالة تلاقح ! وهذا التلاقح لن يكون إلى عبر وعيه أولاً ، ومن ثم يمكن تعلم مهارة الحكم على السلوك تبعاً لمعاييره ، بعبارة أخرى النسبية الثقافية .

إذن ، لقد حدّد “سمنر” ثلاثة أنماط أساسية من هذه المعايير ، وهي :

إن كان الإنقياد للعادات مسألة خيار شخصي ، فالإنقياد للأعراف هو مطلب إجتماعي . العادات تحدّد لنا السلوك الصحيح من الوقح ! بينما الأعراف تحدّد السلوك الصحيح من الخاطئ ! العادات متغيرة بإستمرار ، بينما الأعراف أكثر ثباتاً .

بعض الأعراف أكثر خطورة ، كالتابو ! فالهندوس مثلاً يعتبرون قتل البقرة تابواً . كما أن سفاح القربى هو التابو الوحيد الموجود في كل المجتمعات .

بالطبع التفرقة بين الأعراف والعادات خاضعة للجماعة ذاتها ، كما لعملية التثاقف ، فكلما زادت نسبة التلاقح كلما تبدلت العادات ، لتلحقها الأعراف (ولو بعد حين) . العذرية في أمريكا الخمسينيات مثلاً كانت من الأعراف ، لتصبح الآن من العادات ! [أي أنها كانت تعدّ شأنا مجتمعياً وأصبحت الآن خياراً فردياً ، فالفتاة التي تفقد عذريتها كانت تجلب العار لنفسها ولعائلتها ، أما اليوم فإختلف الأمر وأضحى التجريب مسألة متسامح بها] .

لأن المعايير يتم تعلمها ، وعلى الأفراد تقبلها ، لذا فالطاعة والإنقياد لها ليست تلقائية ! لذا على الجماعات/المجتمع إعتماد وسائل لتعليم المعايير وتشجيع طاعتها . من بين هذه الوسائل الزواجر .

تقوم التنشئة الإجتماعية بإستدخال الطاعة للمعايير ضمن البنية النفسية فنزجر أنفسنا قبل القيام بإنتهاك أحدها . ولذا يكون التغيير صعباً ، ويحتاج إلى وقت طويل ، كما إلى تنشئة مغايرة !

إن المعايير والزواجر محدّدة ومحسوسة ، على عكس القيم ، العامة والمجردة .

قيمة الحرية مثلاً ، إختلفت معاييرها وطرق التعبير عنها ما بين الإتحاد السوفياتي السابق والولايات المتحدة الأمريكية ، ففي الأول كانت قيمة الحرية تعني حق العمل ، الضمان الصحي ، والتعلم . بينما عنت في الثانية ، حق الإعتصام ، والتعبير ، وتأسيس شركة خاصة !

قيمة البر بالوالدين تعني في البلاد العربية أن يكون الأولاد سنداً للوالدين عندما يكبرا ، بينما في بعض قبائل الإسكيمو (الإنويت) تعني أن يؤمنوا لهما موتاً رحيماً (لأن الإنويت يعتمدون على البيئة في تأمين بقائهم ، لذا إذا اشتدت قساوتها يضطرون إلى قتل الكبار في العمر غير القادرين على تأمين طعامهم) – بالطبع إنقرضت هذه الممارسة مع دخول التجارة والتقنيات (التثاقف الموسّع مع الرأسمالية) التي سهّلت الحصول على الطعام – !

*** *** *** *** *** *** *** *** ***

البعد الثاني : المعرفي : نقصد بالمعرفي كيفية التفكير ، وعملية معالجة المعلومات (الترميز ، الحفظ ، وإستعادة المعطيات) ! فالبعد المعرفي يشمل مركب الأفكار والمعارف ، والأكثر أهمية ضمنها هو المعتقدات [الأفكار حول طبيعة الحقيقة] . إن قبيلة تانالا في مدغشقر ، مثلاً ، تعتقد أن أرواح ملوكها الأموات تحلّ في الأفاعي .

ليس مهماً صحة المعتقد أو خطله ، فهو مؤثر على معتنقيه ! صيبة العين مثلاً تؤسس لعلاقات إجتماعية وتلزم معتنقيها بسلوكيات ، ولا دليل علمي تجريبي يسندها !

البعد المعرفي (والمعتقد ضمناً) مهم ، لأنه يمأسس سلوكيات الناس ، فهم يستندون إليه في تبرير تصرفات قد تبدو للدخيل غريبة ! أن يمسك البعض الخشب أو يدقون عليه عندما يشعرون بخوف من حالة حسد ، أن يتوقعوا حزناً أو مالاً إستناداً إلى الحاجب (أو الكف) الذي يشعرون فيه بالحكة !

البعدان المعياري والمعرفي هما جزء من الثقافة اللامادية ، ويبقى لدينا البعد المادي .

*** *** *** *** *** *** *** *** ***

البعد الثالث : المادي : ويتكون من الأشياء المادية ، الملموسة ، المحسوسة ، الواقعية ، العينية : السيارة ، حبوب الدواء ، المنزل ، الكرسي ، الثياب ، الطرقات ، الفن ، كلها أمثلة عن الثقافة المادية .

هذه الأشياء المادية لا تحمل معنى خاصاً بذاتها (أو إستعمالاً)  منفصلاً عن المعنى الذي يعطيه الناس لها ! للتوضيح ، يمكنك تَصوّر الجريدة والفلفل الحار كما تَصوّر طريقة إستخدامهما ! لكن لا يمكنك تصورهما معاً كتقنية متراكبة ! إن مزجهما معاً كما كانت تفعل بعض القابلات لتسريع الولادة يقدم لهما معنىً مختلفاً . وإن كان لكل شيء منفرداً معناه الخاص الذي أعطاه الناس له ! فإن مجرد هذا الوجود لا يعني إمكانية إختراع معنى لهما – عبر مزجهما كتقنية – قبل وجود التقنية الواقعي !

بالطبع ، لا علاقة لشـكل وخصائص الشـيء ، بالمعنى الثقافي الذي نعطيه له ! بل هو مرتبط بالبعدين المعياري والمعرفي . إن معنى الأشياء المادية يعتمد على المعتقدات ، المعايير ، والقيم ، التي يحملها الناس بشأنها . فالباص يستخدم للنقل ، كما يمكن تحويله إلى مطعم مثلاً !

*** *** *** *** *** *** *** *** ***

وفيما يلي تصوير غرافيكي لأبعاد الثقافة :

*** *** *** *** *** *** *** *** ***

لماذا تفكيك الثقافة إلى أبعاد ؟!

لتسهيل دراستها .

نعم أسمع إعتراضات البعض ، ثقافتنا وثقافتهم ، هذه وجهة نظر “سمنر” ، هناك أبعاد أخرى ، ترجمة المصطلحات غير دقيق : فالعادات (على سبيل التوضيح) تعني “عندنا” غير تعريف “سمنر” لها …

نعم ، هذا صحيح ، إلى حد ما ..

لكن ، إمكانية دراسة الثقافة ككل ، ممكنة فقط عبر تفكيكها إلى أبعاد ، ومن ثم ملاحظة السلوك الإجتماعي ضمنها ، والعودة لاحقاً بتركيب الصورة المفككة ، لنحصل على لوحة تقريبية عن ثقافة المجتمع المحلي الذي نحاول دراسته !

دون هذا التفكيك ، ستبقى الدراسة مجرد كلام !  إذ لن نقدر على رؤية الكامن (هذا الذي يحركنا دون أن ندركه) ، كما لن نقدر على قيادة التغيير (إذا كان هناك إرادة حقيقية) ، دون أن نوصّف بشكل سليم (أي نفككها إلى أبعادها) !

ما سبق وفصّلت فيه هو من ألفباء المتخصصين ضمن الإنسانيات والعلوم الإجتماعية ، ويقدم فرصة لغيرهم في التعرف إليها ، كما إلى الإتساع والشمولية التي تسمها .

أما عن ترجمة المصطلحات ، فلتتفق مجامع اللغة وسنتبع تعليماتها بحذافيرها !!

لقد ذكرت المصطلح ووضعت مباشرة التعريف الذي أقصده ! وهو أقرب كلمة يمكن إستخدامها تشير إلى المعنى الذي أراده “سمنر” ! – ولا مشاحة في الإصطلاح –

يبقى إعتراض ثقافتنا/ثقافتهم ! وهو إعتراض لا يعني شيئاً ! لأن نظرية “سمنر” تطال أي ثقافة ، ففي كل ثقافة نجد الأبعاد التي ذكرها !

وإن كان هناك بُعدٌ ما لم يذكره ، فلنراكم عليه ، ونجدّد في نظرته ونظريته !

*** *** *** *** *** *** *** *** ***

الكلام في الثقافة طويل ، وهذا جزء – قد يكون له تتمة – !




ملاحظة : نشرتها مسبقاً على مدونتي على هذا الرابط

Exit mobile version