البنية الإجتماعية هي علاقات إجتماعية نمطية تكرارية ! هي النمط الكامن الضمني ، الذي تنبثق منه وعنه العلاقات الإجتماعية ! هي الخريط الزرقاء (blueprint) التي تحدد لنا السلوك المتوقع ! وهي النمط المستقر نسبياً من السلوك الإجتماعي . السلوك الإجتماعي ، وليس الفردي ، إذ أن السلوك الإجتماعي هو السلوك الفردي الذي تحول إلى نمط عبر تكراره من قبل الفاعلين الإجتماعيين ، فأضحى نموذجاً إجتماعياً معتمداً (مناسباً أو غير مناسب – ليست هي المسألة –) !
أوضح مثال عن السلوك الفردي ، هو سلوك بعض المشاهير ، الذي يتحول مع المتحمسين لهم (fans) إلى “موضة” يعتمدونها ، فيصبح السلوك الفردي ، سلوكاً إجتماعياً !
هذا السلوك الإجتماعي ، ليس وراثياً ، بل هو مكتسب بالتعلم ، وعبره نتعلم البعدان الأساسيان للبنية الإجتماعية :
الأول هو الوضع الإجتماعي (status) ، ويمكن ترجمتها بالمكانة ، الرتبة ، المرتبة ، المركز ، الحالة ! وسأعتمد ضمن هذا النص مصطلح “الوضع” . وأفضل تشبيه له هو دور الممثل على المسرح ! فالممثل يؤدي دور فارس أو شحاذ ، أمير أو فقير ، هذا دوره ، فقط ، لا كينونته ! وسنفصّل في أقسامها بعد قليل .
الثاني هو : الدور (role) ، وهو الحقوق والواجبات المعرّفة ثقافياً – إجتماعياً ، المرتبطة بوضع ما ، والتي تحدّد السلوك المتوقع من الفرد صاحب هذا الوضع . والدور بالمماثلة المسرحية هو النص الذي تمثله/تقوله على المسرح !
مثال للتوضيح : وضعك كطبيب ، يتطلب منك عدّة أدوار : أن تحافظ على المواعيد ، أن تتابع الدورات والمؤتمرات لتبقي معطياتك محدّثة ، أن تشخص الداء ، وأن تصف الدواء !
لكل وضع ، كما توضّح مع مثل الطبيب ، عدّة أدوار ! وفي المماثلة مع المسرح ، لديك عدة مونولوجات أو حوارات أو حركات ستؤديها بدورك كفارس أو سارق !
هذا الجانب تهتم به الوظيفية – البنائية ، لأنه يتمأسس على نظام صريح ومتوقّع ! فالفوضى ليست محبذة (وبالتبعية التغيير) ، بل معرفة وضع كل فرد والدور المترقب منه ، هو أساس الحياة الإجتماعية السليمة !
ينقسم الوضع إلى قسمين أساسيين ، يعتمدان على المجتمع وثقافته ، الأول هو الوضع الكسبي ، الحصولي ، الذي يحصل عليه الفاعل الإجتماعي (يكتسبه) عبر جهوده وقدراته . والثاني هو الوضع غير الكسبي ، الذي ينسب للطفل حال ولادته ، كلون البشرة ، أو الطبقة التي يولد بها (في حال مجتمع منغلق الطبقات) ! فالوضع غير الكسبي ، لا يتم إختياره أو كسبه ، ولا علاقة له بالكفاءة أو القدرات ، وفي أحيان كثيرة لا يمكن تخطيه أو التنازل عنه !
هذا الجانب الثاني تقوم بدراسته المقاربة الصراعية ، ليس من حيث ذاتيته بل من خلال توظيفاته وتداعيتها ! فاللون الأسود مثلاً في مجتمع يضطهد السود يعتمد على إستفادة مجموعة من حرمان أخرى ! هناك من يحقق طموحاته بسهولة ، وهناك من لا يقدر على ذلك ، ليس بسبب قصور ذاتي ، بل بسبب ظروف إجتماعية قاهرة ! وهدف الباحث ضمن هذا المنظور ، ليس التشخيص فقط ، بل التنشيط والتثوير فالتغيير .
لكل فرد في العادة أكثر من وضع ، يتموضع فيه ضمن سياقات إجتماعية مختلفة ، فالفرد نفسه ، هو الأب ، الزوج ، الأخ ، الطبيب ، الصديق ، عازف البيانو ، المرؤوس ، إلخ …
ولنتذكر لكل وضع عدة أدوار ، ومن بين هذه الأوضاع التي يعيشها الفرد ، هناك وضع رئيسي (master status) ، هو الذي يحدّد هويته ! هو مكون شخصيته الأساسي ، وتشتبك فيه ومنه كل الأوضاع (وبالتالي الأدوار) ، وله الأولوية على البقية !
قد يكون المهنة [وهي بشكل عام السائدة ضمن المجتمعات الفردانية (individualistic)] وقد يكون الجندر ، الطائفة ، أو اللون ، أو كونه أباً !!
هذا الوضع الرئيس (الرئيسي) ، هو من له القيادة عندما تتأزم العلاقة بين الأدوار ، أو تتصارع ! لماذا ؟
ببساطة ، لكل فرد – كما أسلفت – عدة أوضاع ، ولكل وضع عدة أدوار ، هذا يعني وبحساب حد أدنى من الأوضاع للفرد مساوٍ لخمسة ، ولكل وضع منها خمسة أدوار ، هذا يعني أن لكل فرد خمسة وعشرين دوراً ، هذا العدد الكبير من الأدوار ، سيوقع الفرد في توتر ، حلوله بعد هذا الشرح .
المماثلة المسرحية لما سبق ، هي التالية : ممثل (الفرد) ، يلعب صباحاً دور صحفي (وضع 1) ، وظهراً دور جندي (وضع 2) ، وعصراً دور سائق تاكسي (وضع 3) ، وليلاً دور طبيب (وضع 4) ! ولكل دور مونولوجه/حواره الخاص (الأدوار) ، فهل نتوقع إجادة للأدوار جميعاً ؟ أم أن الإحتمالية الأعلى هي خلطهم ! سيصعب على ممثلنا الشاب أن يتذكر كل هذه النصوص ! وسيضطر إلى الإختيار بينهم ، ما هي أولوياته ؟
هناك نوعان أساسيان من هذا “الخلط” ، الأول عندما يتعارض دور في وضع مع دور مختلف في وضع آخر ! شــــــرطي (وضع 1) يلاحق مجموعة من المراهقين تتعاطى المخدرات ، دوره كشـــرطي أن يلقي القبض عليها ! وعندما فعل ، إكتشف أن أحد أفراد العصابة هو إبنه ، هنا دوره كأب (وضع 2) هو حماية إبنه !
هذا الصراع ، يرتبط بطبيعة الوضع الرئيس ، إذ عندها تصبح الأولوية لأدواره على بقية أدوار الأوضاع الأخرى .
النوع الثاني ، عندما يكون هناك توتر وشد بين دورين لذات الوضع ! فالأستاذ مثلاً عليه أن يحضّر لصفوفه ، وأن يعطي الدروس ، وأن يقيّم طلابه عبر مسابقات وإختبارات متنوعة ، كما أن يتابع ورش العمل ليبقى مطّلعاً على كل جديد ، وكل واحد من هذه الأدوار يســـتهلك الكثير من الوقت ، وقد يتداخل أحدها مع عمل الآخر ، كما قد يؤدي واحدها إلى تخفيض قيمة الآداء في آخر !
هنا على الأستاذ (مثلاً) أن يحدّد أولوياته ، هل هي في التحضير ، التقييم ، أم التأهيل الدائم ؟! هذا التحديد ، قد يساعد في تخفيض التوتر الناتج من هكذا شدّ بين الأدوار !
إذن ، الحل الأساسي لهذا النوع من التوتر والصراع بين الأدوار هو تحديد الأولويات ، إما على صعيد الأوضاع ، أو على صعيد الأدوار ضمن ذات الوضع !
الحل الثاني ، هو الفصل بين الأوضاع ، وبالتالي بين الأدوار ! فالموظف مثلاً ، عليه أن يترك مشـاكل وظيفته خارج المنزل ، فهنا هو يفصل بين وضعه كموظف ، وبين وضعه كزوج .
يبقى أن ما سبق من كلام نظري ، لا يمكن ملاحظته إلا عبر آداء الدور ، وهذا الآداء هو الذي يحدّد طبيعة الوضع الذي يتموضع فيها فرد ما ، مقابل آخر …
فآداء الدور لا يتحقق إلا عبر تفاعل إجتماعي ، هذا التفاعل الإجتماعي ، يحدّد طبيعة العلاقات الإجتماعية التكرارية النمطية !
هنا ، تعود الدائرة لتنغلق ، وتتوضح أهمية البنية الإجتماعية ، التي تم إعتمادها حديثاً كتعريف أفضل وأكمل للسوسيولوجيا !
وبالمماثلة المســرحية : التفاعل الإجتماعي هو الإشــــارة التي تخبر الممثل أن عبارته قد حان دورها ! فجملة الممثل الآخر ، تعتبر إشارة لي لأبدأ جملتي ، وعندما أنسى ذلك ، يذكّرني الملقن ! أما آداء الأدوار فهو التمثيل الفعلي على المسرح !
لأشمل هذه المماثلة بما يلي : الوضع الإجتماعي هو الدور المسرحي ، الدور الإجتماعي هو النص المسرحي ، التفاعل الإجتماعي هو الإشارة المسرحية ، وآداء الدور هو التمثيل الفعلي !
وفيما يلي تصوير غرافيكي للمماثلة المسرحية :
إن البنية الإجتماعية هي علاقات تكرارية ، غير ممكنة التحقق إلا عبر سلوك إجتماعي تفاعلي ، سلوك أفراد ، هذا السلوك هو آداء للدور ، الذي يتبع وضعاً ، يتموضع فيه الفرد ، تبعاً للثقافة/المجتمع !
لا يمكن فعلاً دراسة ثقافة ما ، إلا من خلال كشف البنية الإجتماعية الكامنة ضمنها ! وهذا متعلق بآداء الدور ضمن سلوك تفاعلي مع آخر . هذا السلوك التفاعلي ، هو مضمار المنظور التفاعلي الرمزي ، الذي يشدّد على واقع متخيّل دائم التغيّر بتغيّر الفاعلين المتفاعلين !
أعود : لنفهم الثقافة ، علينا أن نبدأ بالأدوار ، المرتبطة بالأوضاع الإجتماعية ، التي تعتبر دليلاً ومرشداً لآداء الأدوار ، من خلال التفاعل الإجتماعي ، الذي يمكن ملاحظته خصوصاً إذا كان ذا علاقات نمطية ، وهي ما يشكل البنية الإجتماعية !
من هذا المنطلق مثلاً ، تُشكِّل “العائلة” بنية إجتماعية ، لنفهمها ، كما لنفهم الثقافة التي تقدم لها دلالاتها ورموزها ، علينا أن نرى سلوكاً نمطياً تفاعلياً ! وهذا لا يمكن أن يتأتى إلا عبر ملاحظة بالمشاركة ، يتبعها مقابلات معمقة ! تسمح الملاحظة بالمشاركة في رؤية التفاعل ، وتسمح المقابلة في معرفة نمطيته ! ومن هنا يمكن للباحث أن يكتشف البنية الكامنة ! هذه البنية التي نكتسبها من الآخرين عبر التعلم ، فتتوضح لنا آلياته ، وطرائقه ، والأولويات التي يعتبرها المجتمع أساسية !
هكذا نرفع الحجب عن الكامن والمخفي ، فنبدأ بالفهم !