موقع أرنتروبوس

ليفي ستروس في معرض الحديث عن ألفريد لويس كروبر: الأنتروبولوجيا علم تحكمه المسافة.

حاورته: مادلين شابسال

يَقرن كلود ليفي ستروس  1908 – 2009   ما بين علم الأنتربولوجيا وما بين مفهوم” البُعد “ مؤكداً أن علم الإناسة يقوم على أساس المضي لاكتشاف ودراسة ما هو بعيد عنا، وذلك ليس من ناحية جغرافية فحسب بل ومن ناحية ثقافية أيضاً. جغرافياً كان أم ثقافياً، هذا الابتعاد الذي يعتبره مؤلف »الفكر البريLa Pensée sauvage « نقطة انطلاق علم الأنتربولوجيا، أودى به للوصول إلى ما هو نقيض الغربة والبعد، إلى اﻟﻤﺠاورة والقرب من الآخر الذي هو على مسافة آلاف الأميال منا، أو من ذاك الذي له أسلوب عيش ونمط حياة غريبان عنا. في حديثٍ له مع الكاتبة الفرنسية مادلين شابسال، يعود ليفي ستروس على مفهوم الإتنولوجيا عند زميل له في ميدان البحوث الأنتروبولوجية، الأمريكي ألفريد لويس كروبر، وعلى بعضٍ من أفكار جان جاك روسو الذي يبدو وكأن ستروس يعتبره من أوائل الذين كان لهم حدس أنتروبولوجي. من هذه المقابلة المطولة التي أجرتها مادلين شابسال مع المفكر الفرنسي الذي غادرنا مطلع الشهر الماضي والتي نُشرت في كتاب لهذه الأخيرة بعنوان :» الكُتاب بأنفسهم «الصادر عام 1973 عن دار نشر 10/18 في باريس اخترنا هذه الفقرات.

مادلين شابسال: من هو ألفريد لويس كروبر الذي تعتبرونه كواحد من كبار علماء الإتنولوجيا المعاصرة والذي توفي منذ وقت قريب في باريس؟

كلود ليفي ستروس: إنه آخر من عرف من علماء الإتنولوجيا هنوداً أصليين. هنود حمر كانوا في صباهم بَرّيّين، وليسوا هنوداً بَريّي(من هؤلاء لم يبق أحد بالطبع). ولد كروبر عام 1876 ، ويعود عمله الَميداني الأول المكرس للأرباهو إلى عام 1900 . والحال، إن المد الغربي عبرالأمريكيين البيض لم يبدأ إلا حوالي عام 1850 ولم ينته تماماً إلا نحو عام 1880 . وبالتالي فإن المسنين الذين تتراوح أعمارهم بين السبعين والثمانين عاماً والذين استطاع كروبر التعرف عليهم، كانوا قد عاشوا جزءاً كبيراً من حياتهم على طريقة الهنود البَريّين. في الحقيقة، مع كروبر تزول أمريكا ما قبل كريستوف كولومب بشكل نهائي.

مادلين شابسال: أين كان يعيش بالضبط هؤلاء الهنود الذين عرفهم كروبر؟

كلود ليفي ستروس: في السهول وفي كاليفورنيا. وهناك بدأت تصفيتهم عام 1880 ، حيثوا كانوا حوالي

. 150000 عام 1850 وأكثر من 20000 بعد العام 1880 قال لي كروبر منذ أسابيع قليلة في النمسا عندما كنا سوية في ندوة بورغ فارتينشتاين بأنه منذ عامين أو ثلاثة عاد للمرة الأخيرة إلى أقوام اليوروك، حيث بعضهم مازال يعيش في جماعات مؤلفة من عشرة أشخاص وأحياناً من عائلة واحدة، لا بل من شخص بمفرده لم يزل يتكلم لغتهم الأصلية ويتذكر أساطيرهم وخرافاتهم. إنهم أناس يعيشون مما يستطيعون جمعه ومن الصيد، و لربما يمثلون أقدم ما في أمريكا.

مادلين شابسال : وهل كان كروبر الوحيد الذي أبدى اهتماماً بهم؟

كلود ليفي ستروس: لا، كان هنالك غيره من علماء الإتنولوجيا، ولكنه الوحيد الذي كان على صلة

شخصية قوية معهم، فهنالك أيضاً محللون نفسيون كانوا قد شغفوا منذ عهد قريب بهنود كاليفورنيا، وذلك بتأثير جزئي من كروبر. أظن أنه قام نحو عام 1920 بالتحليل النفسي لمدة ثلاثة أعوام، في الوقت الذي كان يتابع فيه مهنته.

مادلين شابسال : وهل تَعرّف على سيغموند فرويد؟

كلود ليفي ستروس: لا أعتقد، ولكنه قام بمراسلته وبإعداد تقريرين عن كتابه في اﻟﻤﺠتمعات البدائية:

الأول، عام 1920 حيث يدحضه ،» الطوطم والتابوتماماً« والثاني في العام 1939 كان أكثر تبايناً، حاول فيه، ومن وجهة نظر ما، الإظهار لعالم الإتنولوجيا ما يمكنه .الطوطم والتابو القبول به من بعض طروحات

مادلين شابسال : بغضِ النظرعن كون كروبر هو آخر صلة وصلٍ بأمريكا البرية، ما الذي يجعل منه

بنظركم شخصية استثنائية ؟

كلود ليفي ستروس: كان رجلًا ذا حيوية غير معهودة، ففي حياته لم يكن عالم إتنولوجيا ميدانياً يدرس بشكل مباشر عدداً ضخماً من الشعوب الأمريكية فحسب، بل كان أيضاً عالم آثار، إذ قام في البيرو بالعديد من التنقيبات التي سمحت باقتراح تصنيفات لثقافات البلد القديمة والتي بقيت فيما بعد من الكلاسيكيات. لقد كان مؤرخاً للأقوام البائدة في شمال وجنوب أمريكا، مثل الشيبكاس، وجزءٌ من

نتاجه الفكري كان ذا طابع فلسفي، بالإضافة إلى أنه انكب على دراسة الموضة النسائية في القرن المنصرم. لقد انصرف أيضاً إلى علم اللسانيات وإلى بعض الأبحاث السوسيولوجية، مكرساً كتاباً للعلاقات بين الأوساط الجغرافية في أمريكا الشمالية واﻟﻤﺠتمعات التي كانت قد تطورت فيها. باختصار، لقد كان رجلاً ذا فضول وحِدّة ذهن فريدين.

مادلين شابسال : ولكنه قبل كل شيء عالم إتنولوجيا؟

كلود ليفي ستروس: نعم. ومن جهة أخرى، قال لي مراراً لَكمْ تصيبه الدهشة حيال رؤيته علماء الإتنولوجيا الأمريكيين الشباب وهم يختارون لأسباب اعتباطية علم الإتنولوجيا كعلم اجتماعي مثل غيره من العلوم، كما لو كان بوسعهم اختيار علم الاجتماع أو علم النفس. في حين أن الإتنولوجيا لم تكن لكروبر ولرفاق جيله عِلماً كسائرالعلوم، بل كانت الأنتروبولوجيا بالنسبة له ديناً.

مادلين شابسال : لكن أهي دينٌ ذو خطورة ؟ فبتلقينها ذاك الذي يمارسها أن جميع الأخلاقيات والمؤسسات والصيغ الاجتماعية هي نظم بمقدورها ألا تنوجد بالأصل لأنها تتجدد بشكل مستمر، ألا يُوشِك بهذا عالم الإتنولوجيا على أن يكون تائهاً، وفي حيرةٍ من أمره ؟

كلود ليفي ستروس: على العكس، أنا أعتقد أن هذا يودي به إلى الحكمة.

مادلين شابسال: كيف هذا؟

كلود ليفي ستروس : ذلك تحديداً بالشعور أن لا شيء فيما يعيشه هو جوهري بشكل مطلق. فما يبدو

أنه غاية في الأهمية لن يكون فعلياً إلا من نطاق تمركزنا في حيز زمني ما. إن أراد عالم الإتنولوجيا حقاً، عبر تمرين كان قد اعتاده، القيام بتغييرٍ ما وبوضع نفسه ولو لوهلة على سُلمِ الأحقاب أو القرون بدلاً من سلم العقود، فإن الأمور التي تبدو أنها أساسية ستظهر له من منظار جديد.

مادلين شابسال : عندما يُخيل إلينا أنكم تقومون بدراسة سلوكيات الأقوام فإننا نخطىء بعض الشيء،

لأن ما يستهوي اهتمامكم بشكل رئيسي هو العقل الإنساني؟ انعكاساته؟ تركيبته؟

كلود ليفي ستروس: بلى. لكن إسهامنا في معرفة العقل الإنساني يشتمل على التطرق إليه بشكل مغاير،ة وذلك من جهة وطريقة مختلفتين عما هو الحال عند عالم

النفس مثلاً أو عند المؤرخ. دعونا نقول بأننا نبحث الكُليات
على فهمه عبر ما يسميه سارتر

مادلين شابسال: وما هي حيلتكم أنتم؟

كلود ليفي ستروس: البُعد. ليس فقط لأن اﻟﻤﺠتمعات التي نتفحص بعيدة جغرافياً، ولكن لأنها

أيضاً غريبة بنمط حياتها، فالبعد الذي تفرضه علينا من أجل دراستها يحكمنا بأن لا نكتشف فيها إلا بعضاً

من خواصها الأساسية ومن خواص العقل البشري. إن علمنا، الأنتروبولوجيا، محكوم بالمسافة، بالبعد الذي لا يترك لنا اصطفاء إلا ما هو جوهري.

مادلين شابسال : البُعد، لكن القُرب أيضاً. أَما مِن لحظاتٍ ويجد فيها الإتنولوجي نفسه أمام إنسانٍ، وهذا الإنسان ليس سوى موضوع دراسة، لا أكثر؟ أمْ أنه ينتظر كل ماهو وارد من احتكاكه الوشيك معه؟

كلود ليفي ستروس: أجل، لكن ينبغي التمييز بالمواقف تلك. فعلى سبيل المثال، الهنود في أمريكا

الجنوبية لم يكونوا على عهدي يعرفون حقاً من هو الإتنولوجي، وابتداء من اللحظة التي يبدو لهم فيها

أن ذلك الذي يعيش بينهم هو امرؤ خدوم، بحيث أنهم على ثقة بالحصول منه على العديد من الفوائد المادية كتقديم الهدايا، الطعام، السكاكين أو اللؤلؤ، كانت الأمور تتطور من تلقاء نفسها. الأمر كان مختلفاً عند الأقوام التي درسها كروبر، فما إن بدأ علم الإتنولوجيا في الولايات المتحدة عام 1840 حتى عَلِموا سريعاً وعلى امتداد القارة من هو عالم الإتنولوجيا. فكانت هنالك إما عقبات يجب تخطيها مع الوقت، أي الانتظار، أو العكس، تعاون شديد الحيوية : هذه الأقوام كانت مدركة بأن ما يتمسكون به، أي أسلوب معيشتهم، محكوم عليه لامحالة بالاندثار، وأن فرصتهم الوحيدة في المحافظة على ذاكرتهم للأجيال اللاحقة هي في العمل مع علماء الإتنولوجيا. لقد كانوا متعاونين وهم على أتم المعرفة بضرورة أن يكون كل شيء مدوناً ومكتوباً، وأنه ينبغي النقل إلى المتاحف بعض الأشياء مثل الهياكل المحمولة النفيسة للغاية التي تمثل للقبيلة صندوقها المقدس، يقيناً منهم بأن المتحف هو المكان الذي ستكون محفوظة فيه. ولما كان آخر المسنين قد شارف على الموت، حمل بكنزه إلى المتحف لأنه لم يكن هنالك من خيار آخر.

مادلين شابسال: أتعتقدون أننا ماضون نحو توحيد اﻟﻤﺠتمعات؟

كلود ليفي ستروس: هذا أيضاً سؤال تمت مناقشته مع كروبر في النمسا. على ما يبدو أنه يتصور أمراً

كهذا، أما باقي المشاركين في الندوة فلا يعتقدون ذلك. لقد اعترضناه بمقولة أنه بقدر ما تصبو اﻟﻤﺠتمعات إلى التجانس، فإن نقاط انشقاق وتفاوت ستظهر على الأرجح في مناطق ليست أبداً بالحسبان.

مادلين شابسال : أتساءل أحياناً إذا ما كان يمضي الأنتروبولوجي في الواقع إلى مجتمعات أخرى لأنه لم ينجح في إقامة تواصلات مُرضية مع مجتمعه هو. ففي البعيد، حاله مختلف إذ أن مسألة المساواة لاوجود لها، لأنه، وفي جميع الأحوال، الآخر، الغريب…

كلود ليفي ستروس : بلى، ولكن لا يتواصل الأنتروبولوجي عموماً بشكل سيىء مع الناس،(وإلا لما

كان أنتروبولوجياً أو لفر هرباً بعيداً عنهم ليصبح عالم آثار)، بل مع مجموعته الاجتماعية. من جهة أخرى، إن كل ما يسعى إليه عالم الإتنولوجيا على أرض الميدان هو المرور من دون أن ينتبه إليه أحد، أن يُنسى أمره، أن لا يكون أحد، أن يصبح قطعة أثاث. وإن أمكنني القول، أن لا يكون سوى شبح لا نعيره أي انتباه.

مادلين شابسال : من الحماقة التحدث عن اللامساواة بين اﻟﻤﺠتمعات، لكن مجتمعنا ولو حتى ﻟﻤﺠرد

تقويضه للمجتمعات الأخرى، أهو مجتمع متفوق؟

كلود ليفي ستروس : إنه دون شك متفوق من ناحية قدرته المادية، حجمه، كثافته وتعداده السكاني، إنه بالطبع متفوق بسيطرته على قوى الطبيعة، وفي هذا ما من شك. والسؤال الوحيد الذي بوسعنا طرحه هنا هو: هل هنالك مجتمعات متفوقة بشكل مطلق وأخرى مُتدنية بشكل مطلق؟ ليس فقط على بعض الأصعدة، بل على كافة الصعد.

مادلين شابسال: هل هنالك؟

كلود ليفي ستروس: لا، لا أظن. أعتقد أن كل مجتمع قام بالعثور على ما هو أساسي من احتياجات الكائن البشري، وإلا لما كان قد وجدْ.

Exit mobile version