موقع أرنتروبوس

“كناوة”: طقوس وممارسات

 

“كناوة”: طقوس وممارسات

زيارة أنثروبولوجية قصيرة لعوالم التصوف الشعبي

 

محمد جحاح*

تقديم:

ليس التصوف مجرد نظام معرفي، أو بالأحرى “عرفاني”، له رؤيته الخاصة للإنسان -كوجود – ولكل ما يحيط به من قضايا وتساؤلات، وليس مجرد تجربة دينية أو نمط خاص من التدين أيضا، وبالمثل فهو ليس مجرد منظومة من القيم وشكل من أشكال التنظيم الاجتماعي (طرق، طوائف وزوايا)، كما أنه ليس مجرد “إيديولوجيا” أو أداة للتوظيف السياسي (الدولة، الأحزاب والتنظيمات السياسية ذات المرجعية الدينية) (1)؛ بل هو أيضا فضاء “احتفالي” بامتياز تحكمه طقوس وممارسات، ولعل أهم ما يميز كل طريقة صوفية عن غيرها في هذا الإطار هو طقوسها. في هذه المساهمة المتواضعة، واستحضارا منا لواقع التعدد والتنوع على مستوى هذه الطرق الصوفية بالمغرب – خاصة الشعبية منها (الحمدوشية، العيساوية، الهداوية والكناوية) – سنكتفي بتقديم النموذج بهذه الأخيرة “الكناوية” لما تثيره طقوسها حقا من أسئلة ملحة، سواء تعلق الأمر بطابع الغرابة الذي يميزها، أو بما تستقطبه من اهتمام كبير لدى شرائح واسعة من فئات المجتمع المغربي، أو بما يعتقد حولها من أمور خارقة قد تجد تعبيرها الحي هنا في مفهوم “البركة”.. فمن هم كناوة إذن؟ وما طبيعة الطقوس التي تمارس في إطار هذه الطائفة الصوفية؟ وما هي المرجعية القيمية التي تستند إليها هذه الطقوس؟ وهل هناك من “منطق” رابط بين “لاعقلانية الطقوسي” و”معقولية الطلب الاجتماعي”؟ وكيف يمكن تفسير استمرارية هذه الطقوس والممارسات برغم ما تثيره اليوم من ردود فعل قوية ومن مقاومات؟؟

– “كناوة” في خارطة التصوف المغربي (لمحة تاريخية سريعة):

في الواقع، لا يمكن فهم هذه الطقوس سواء كممارسات أو كنسق من الرموز والقيم والمعتقدات التي تمنحها منطقها لدى ممارسيها، من دون التعريف أولا بالطائفة الكناوية، وبالسياق التاريخي والاجتماعي الذي أطر نشأتها وتجدرها أيضا كطائفة صوفية محسوبة على تيار ما يعرف بـ”التصوف الشعبي” بالمغرب.

فمن هم “كناوة” إذن؟ وما هو موقعهم من داخل حقل الممارسة الصوفية بالمغرب؟ ولماذا ارتبطت هذه الممارسة لديهم، أكثر فأكثر، بـ”الخارق” و”العنيف” أيضا (العنف الأضحوي) كما تعكسه طقوس الجذب وغيرها من أشكال التخاطب و”التفاوض” مع عالم الجن والأرواح؟

لقد درج الباحثون في مجال التدين والطوائف الصوفية بالمغرب (مؤرخون وعلماء أنثروبولوجيا) على التمييز بين تصوف عالم، كما تجسده طرق النخبة العالمة: (التيجانية، الناصرية، البودشيشية…إلخ)، وبين تصوف شعبي هو الأكثر تجدرا من داخل الأوساط الشعبية: (العيساوية، الحمدوشية، الهداوية، الكناوية…إلخ) (2). لكن، ومع تحفضنا على الدلالات التي قد يكتسيها هذا التمييز لدى البعض، باعتباره تمييزا بين مجالين متعارضين من التدين: الأول رسمي مرتبط بإسلام الدولة وتحت رعايتها والثاني يكتسب شعبيته من هامشيته أو بالأحرى من معاكسته لسنن هذه الرعاية، فإننا مع ذلك نحتفظ بهذا التوصيف (شعبي) في “نسبيته” للتعبير عن الطبيعة الدينامية للتدين التي قد تعكس في نفس الآن غنى وتنوع وتغير الحقل الديني ككل (فشعبي الأمس قد يصبح رسمي اليوم والعكس صحيح). لعل هذا ما تؤكده اليوم، وبجلاء، السياسة الدينية (الصوفية) للدولة برهانها الكبير على طرق التصوف هذه التي كانت محسوبة على الهامش، وذلك لمواجهة “إسلام” كان بالأمس القريب تحت رعايتها وفي خدمتها(3) .

بالعودة إلى الطائفة الكناوية إذن، ومقارنة بباقي الطوائف الصوفية “الشعبية” الأخرى، تعتبر هذه الطائفة الأكثر أهمية من حيث عدد أتباعها المنتشرين بكثرة وعلى امتداد مدن المغرب وقراه، كما أن ما يميزها عن غيرها كطريقة، هو بساطة بنائها التنظيمي، والذي يتوازى طبعا مع طبيعة تكوين مريديها وأتباعها، هذا علاوة على ارتباطها العضوي بقاعدة اجتماعية – إثنية “خاصة” ممثلة في الزنوج من أصول إفريقية.. لكن وعلى عكس ما قد توحي به هذه البساطة، فإن طقوس وممارسات هذه الطائفة تمثل بحق مجالا يكتنفه الكثير من الغموض والتعقيد أيضا؛ ولعل هذا يبقى مؤشرا على خصوصية وغنى تجربة صوفية يمتزج فيها الديني بالسحري والواقعي بالمتخيل والمحلي بالإفريقي (الثقافة الزنجية) والعربي بالبربري… وربما هذا ما شجع الكثير من الأنثروبولوجيين – الذين اشتغلوا حول المعتقدات والممارسات الدينية بالمغرب وشمال إفريقيا – على تطوير أطروحة “البقايا الوثنية” (4)، كمحاولة لتأكيد استمرارية الصراع بين بنيتين عقديتين الأولى توحيدية (كما يجسدها الإسلام) والثانية وثنية، معتبرين التصوف (بمعتقداته وطقوسه الغريبة) بمثابة خلطة “خيميائية” بين البنيتين.. لعل هذا ما أسس له عمل إدوارد وسترمارك الموسوم بـ”البقايا الوثنية في الحضارة المحمدية”، ودراسة إدموند دوتي حول السحر والدين بإفريقيا الشمالية وسار على منواله آخرون.

يرجع التواجد “الكناوي” بالمغرب إلى أواخر القرن السادس عشر الميلادي، وذلك في إطار السياسة التجارية للإمبراطورية السعدية التي كانت تقوم آنئذ على جلب الذهب والرقيق من إفريقيا (السودان الغربي).. وبحكم المعاناة التي كان يعيشها هؤلاء كعبيد، وبدافع من وعيهم العرقي وثقافتهم الزنجية، ورغبة أيضا في الحفاظ عليها كضامن لتماسكهم واستمرارهم، سيعمد هؤلاء إلى الانتظام في إطار “زوايا” صوفية للدفاع عن هويتهم.. وكما يتفق على ذلك الكثيرون، فإن الأصل في تسميتهم بـ”كناوة” هو نسبتهم إلى (غينيا) موطنهم الأصلي، لهذا كانوا يعرفون بـ”غناوة” أو “كناوة”، حيث ستقلب الغاء كافا مشددة.

لايزال الحضور “الكناوي” فاعلا اليوم، ولعل هذا ما يمكن تفسيره، إلى جانب عوامل أخرى طبعا، باستمرارية الطلب الاجتماعي على هذا النمط من الممارسة الصوفية، سواء في بعدها الروحي التديني، أو على مستوى أبعاد أخرى وظيفية (فنية، استشفائية…). ولعل انتشار فروع الطريقة الكناوية في شخص طوائفها عبر أهم القرى والمدن المغربية: (الصويرة، مراكش، مكناس، فاس، صفرو، الرباط…)، لدليل على ذلك.

من الناحية الروحية/ الصوفية، وفي سبيل تعزيز مشروعيتهم الدينية، على غرار بقية الطرق الصوفية بالعالم الإسلامي، يربط المنتسبون إلى الطائفة الكناوية نسبهم الروحي (السلسلة الدينية) بالصحابي “بلال الحبشي” (5)، وذلك تثمينا لرمزية العبيد ودورهم التاريخي في إنجاح الدعوة إلى هذا الدين الجديد الذي رأوا فيه مشروعا لتحررهم .. ولتأكيد ذلك على مستوى الواقع، سعى هؤلاء إلى اتخاذ ضريح “سيدي بلال” الموجود غرب مدينة الصويرة مركزا روحيا لطائفتهم، وقبلة تشد إليها الرحال كل سنة في العشرين من شهر شعبان لإحياء الموسم الكناوي ؛ هذا على الرغم من عدم توفر أية معطيات تفيد برسم صورة واقعية عن هذا “الولي” الذي يبقى محسوبا على فئة الأولياء مجهولي النسب والهوية ضمن خارطة الصلاح بالمغرب.. لعل هذا ما يضفي سمة الغرابة أكثر على هذه الطائفة، لا تضاهيها سوى غرابة طقوسها وممارساتها..

الطقوس “الكناوية” والتفاوض مع الأرواح: بين العنف التاريخي والعنف الأضحوي:

بالعودة إلى هذه الطقوس والممارسات، وفي علاقة بالمرجعية القيمية التي تستند إليها وتمنحها منطقها لدى ممارسيها، نود التأكيد هنا على أن الأمر لا يستقيم إلا باستحضار الأصول الإفريقية وما يوازيها من “ثقافة زنجية” لدى هؤلاء، كل هذا في تفاعل طبعا مع معطيات الثقافة المحلية والدينية.. مع ما يعنيه كل ذلك على مستوى المخيال الاجتماعي وفي علاقة أيضا بسيرورة تشكل الهوية الجماعية لديهم.. ولا ننسى، في هذا السياق بالذات، الدور الحاسم الذي سيلعبه “وضع العبودية” الذي أطر استقدام هؤلاء واستقرارهم أيضا بالمغرب؛ لدرجة يمكن معها الجزم بأن معظم – إن لم نقل- كل طقوسهم وما يرتبط بها من رقص وجذب وغناء هي انعكاس بشكل أو بآخر لمعاناتهم جراء “العنف التاريخي” الذي تعرضوا له كعبيد.

إننا هنا بصدد نوع من السفر الطقوسي يتجاوز حدود الجسد نحو “الروحي”، وحدود الزمن التاريخي نحو السيكولوجي، كما يتجاوز لحظة “الحضور” العيني نحو “استحضار” اللامرئي (أرواح الأسلاف وملوك الجن…).. كل ذلك يتم في جو تتواطأ فيه ومن خلاله كل “الحواس”: (يتحول السمع إلى سماع، والرؤية إلى رؤيا، واللمس إلى مس وحلول…)، بغية الإفلات من قبضة الإحساس بالعالم المادي ووقف كل مصادر ومصائر الألم الناجمة عنه. كل شيء ينطق إذن بلغة الألم والحسرة: حركات الجسد لحظة الجذب توحي بردات فعل هستيرية على لسع السياط، عنف الضرب على الطبل لا يقابله سوى عنف الجلاد على جسد العبد، صوت “القراقب” أشبه هنا بحشرجة الأغلال التي كانت توضع على العنق والرجلين أثناء اقتياد “العبيد” نحو أسواق النخاسة، أو إبان اشتغالهم بحقول “أسيادهم”، كما أن آلة “الهجهوج” أو “الكنبري” بإيقاعاتها الحزينة، وفي تناغم مع مقاطع غنائية تتخللها الآهات والصياح (كما هو الشأن بالنسبة لـ”محلة أولاد بامبارا” أو “كويو”)، تعبر عن نوع من البكاء والأنين.. لكن الممارسة الطقوسية عند كناوة لا تبقى محصورة – طبعا- في هذا الحيز السيميائي الضيق ((6.

– الليلة “الكناوية” أو ليلة الملوك:                       

لتوضيح الصورة أكثر، وفي علاقة ببعض الطقوس الاستشفائية كما درجت الطائفة الكناوية على ممارستها، (خاصة فيما يتعلق بحالات المس والسحر) (7)، لا بد من الوقوف على نموذج من هذه الممارسات في شخص ما يعرف لدى هذه الطائفة بـ”الليلة الكناوية” أو “ليلة الملوك”، حيث يتم فيها استحضار ملوك الجن لأجل التفاوض معهم توسلا لتدخلهم بغرض المساعدة على العلاج أو لتصفية الحسابات:( سيدي شمهاروش، لالة ملكية، لالة ميرة، سيدي حمو، لالة جميلة، سيدي ميمون، لالة عيشة…).

باختصار شديد، تتخذ الليلة الكناوية صيغة نزول أو هبوط متدرج يخضع لإيقاعات الموسيقى ولحركات الجسد المملوك  ولتراتبية الألوان.. وتسمى عملية “النزول” هذه لدى العارفين بأحوالها بـ”الدردبة” أو “الدرديبة”، وربما تبرز هنا واحدة من نقاط الاختلاف الجذري بين تصوف “عالم” يقوم على فكرة المعراج، كصعود وارتقاء نحو الأعلى “السماء”، وبين تصوف “شعبي” يكرس لرحلة عكسية نحو “التحت” حيث عالم الجن.. تلعب الألوان – كما الإيقاعات الموسيقية – دورا حاسما في ضبط عملية النزول أو “الدردبة”، بحيث أن كل لون يوازي “مقاما” أو “محلة” من المحلات العشر التي ترسم الرحلة الطقوسية الكناوية لاستحضار “ملوك الجن”. هناك سبعة ألوان أساسية تنضاف إليها ثلاثة أخرى – كمزج بين بعضها – حتى يتناسب عدد الألوان مع عدد المحلات: (محلة الأبيض، الأسود، الأزرق، الأحمر، الأخضر، الأصفر، البنفسجي، ثم المبرقش، ثم الأبيض والأسود، والأبيض والأصفر)؛ كما أن لكل لون أصحابه من ملوك الجن (وأصحاب الحال) (8).. تبدأ اليلة بالفاتحة وبذكر الله وأوليائه الصالحين، فيكون ذلك تمهيدا لـ (محلة البويض) أصحاب اللون الأبيض حيث يتم النداء على “م.عبد القادر الجيلالي”؛ ثم تأتي (محلة الكوحل) أصحاب اللون الأسود، خاصة في جذبة “المس”، حيث يتم النداء على “س. بلال” كرمز مقدس، وأيضا على “س. ميمون” و”ل.ميمونة” ككائنين مختلطين؛ وفي نفس السياق أيضا تأتي (محلة الزرق) أو “السماوي”، ليتم النداء على “س. موسى”؛ وبعدها تصل الدردبة إلى (محلة الحمر)، أو (أولاد بلحمر) لتتم المناداة على “س. حمو” و”س. حمودة”.. وجدير بالذكر أن هذه المحلة مشروطة بإراقة الدم لإرضاء الملوك (أصحاب الكرنة)، سواء أكان دم الذبيحة (تيس أسود) أو دم الجسد المجذوب كجسد طقوسي يستعير رمزية الذبيحة (القربان)، فيما يمكن أن نصطلح عليه هنا بـنوع من “العنف الأضحوي” (ضرب المجذوب جسده بسكين أو آلة حادة لإسالة الدم)..

وهكذا يستمر النزول مع (محلة الخضر)، ثم (رجال الغابة) لتستقر “الدردبة” في نهايتها عند (محلة ملكات الجن) أو (العيالات)، حيث تراتبية الألوان تعكس مدى قدرة كل واحدة منهن الخارقة على تحقيق الطلب وتفعيل البركة الكناوية.. يحضا اللون الأصفر من بين كل الألوان هنا برمزية السطوة والهيمنة، وهكذا تتربع “لالة ميرة” (صاحبة هذا اللون الذي يرمز إلى شعاع الشمس) على عرش هذه المحلة.. وليس بغريب أن يصادف وصولها بداية بزوغ الفجر، لتكشف تباعا عن حضور ملكات أخريات من قبيل “لالة مليكة” صاحبة اللون البنفسجي، ثم “لالة رقية” ذات اللون الأحمر، و”لالة عيشة” (9) بلونها الأسود، والتي يعتبر مقامها من أقصى مقامات الجذبة الكناوية التي يكون القصد منها تخليص الجسد والروح من شرها الأسود.

كل شيء في “ليلة الملوك” هذه يخضع لإيقاع مضبوط: فالموسيقى تتوزع هنا وفق إيقاعات متدرجة، بحيث كل إيقاع يتناسب مع (محلة خاصة)، وكل محلة هي حضور لملك من ملوك الجن السبعة، وكل لون من الألوان السبعة هو تعريف بأحد هؤلاء الملوك، وكل ملك مسؤول عن نوع خاص من الأذى (المس، العقم، السحر، العجز الجنسي…)، ولكل ملك نوعه المفضل من البخور، وفي كل محلة يكتب الجسد “المجذوب” لغته الخاصة وهو في لحظة سفره الطقوسي بحثا عن الشفاء والاقتلاع من الضيق.. كل هذا يتم تحت إشراف “المعلم” الكناوي (الذي يضبط الليلة على إيقاع آلة “الهجهوج” التي يعزف عليها)، وتساعده وسيطة روحية (شوافة أو عرافة) مهمتها تيسير سبل التواصل مع ملوك “المحلات” (10).

لعل رمزية العدد هنا لها قيمتها المركزية، فالرقم سبعة الذي يحضر بقوة في كل الطقوس الكناوية، وعلاوة على كونه يندرج ضمن خانة الأعداد الفردية المقدسة – كنقيض للأعداد المزدوجة بما تحيل عليه من ثنائية الخير والشر- (الله واحد، خمس صلوات، أسماء الله الحسنى تسع وتسعون…)، فإنه يتخذ رمزيته أيضا من الألوان السبعة لقوس قزح، بما يعنيه هذا الأخير: من جهة كحاجز بين السماوات السبع والأرض، وأيضا كجسر للعبور والتواصل مع الغيب..

حتى لا ندخل في مزيد من التفاصيل فيما يخص الليلة الكناوية، وكل ما يرتبط بها من طقوس وممارسات، وجب التنويه هنا إلى أنه، وبرغم مظاهر الغرابة والخرق La transgression التي قد يلمسها الملاحظ على امتداد اشتغال هذه الطقوس، فإن هناك نظاما صارما يحكمها ويوجهها.. إننا هنا أمام عالم من الرموز والدلالات المخبوءة، والتي لا يمكن الكشف عن منطقها إلا بمسائلة البنيات الثقافية والذهنية والنفسية أيضا التي تتعاضد فيما بينها وتعبر عن نفسها من خلال “الجسد الصوفي” مشكلة بذلك نوعا من “الهابيتوس” بالمعنى الذي حدده بيير بورديو.. وهكذا يصبح السؤال التالي مشروعا: ما الذي يجعل الناس يستمرون في اعتقادهم في مثل هذه الممارسات، بالرغم مما تفصح عنه من تعارضات مع العقل؟ أو بصيغة أوضح، ما الذي يفسر استمرارية الاعتقاد في “بركة الأولياء” ومن ثم اللجوء إلى “العلاج الروحاني”- (كما تكرس له الليلة الكناوية بطقوسها هذه، أو ممارسات شبيهة مرتبطة بطوائف صوفية أخرى كالعيساوية والحمدوشية، أو الطقوس والممارسات المرتبطة ببعض الأضرحة كـ”بويا عمر” و”على بوسرغين”…) – هذا في الوقت الذي نجد فيه مؤسسات “حداثية” قد أنشأت لهذا الغرض: (مصحات الطب النفسي والعقلي)؟ هل يمكن تفسير ذلك فقط، وكما تذهب بعض التحليلات التبسيطية، بـ”فرضية العوز” أو الغياب، كغياب الثقة مثلا في جدوى ونجاعة هذه المؤسسات البديلة، أو كغياب للإمكانيات المادية والاجتماعية لولوج هذه المؤسسات أصلا؟ أم أن هناك أسباب أخرى تفسر هذه الاستمرارية؟

على سبيل الختم: “لاعقلانية” الطقس و”معقولية” الطلب الاجتماعي !

في الواقع، وحتى لا ندحض نهائيا “فرضية العوز” تلك، وإن كانت صدقيتها تظل مرتهنة بحالات وسياقات محدودة، فإننا ننتصر هنا لنمط من التحليل الأنثروبولوجي الثقافي.. ولعل المسألة يمكن تفسيرها هنا بالعودة إلى طبيعة المرض أولا ثم إلى فهم طبيعة “تمثل هذا المرض” في الثقافة الشعبية السائدة، خاصة لما يتعلق الأمر بأمراض لها حساسيتها الخاصة من داخل مجتمع لم يتصالح بعد مع المرض، (وأعني هنا تحديدا الأمراض النفسية والعقلية والجنسية، وهي نفسها الحالات التي تلتمس هذا النمط من العلاج الروحاني).

إننا هنا أمام مجتمع لا يزال فيه الاعتقاد في ثقافة “المس” و”الجن” و”الأرواح” قويا، ليس فقط في الأوساط المسماة “شعبية”، بل وحتى في أوساط أخرى يفترض أنها “أرقى” من الناحية الاجتماعية والثقافية أيضا. ففي علاقة بما تقدم، غالبا ما تكون طبيعة المرض مبررا أو دافعا قويا كي نلقي بأسبابه خارجا عنا، وهكذا وبدلا من البحث عن هذه الأسباب في جسدنا وفي ذاتنا نقوم بإلباس حالاتنا المرضية “لبوس التآمر” من طرف “الآخر” أو”الخارجي” أو “الغيبي”.. وبذلك يصبح “السحر” أو “المس” La possession كشكل من أشكال “التلبس”، هو الشكل “الملتبس” الذي نشخص من خلاله حالاتنا وبالتالي نبرر طريقة تعاطينا “الملتبسة” معها. إنه الخوف من الوصم La stigmatisation إذن، خاصة إذا كان الأمر يتعلق – كما الشأن هنا – بحالات تكون طبيعة المرض فيها تعلن إدانة مسبقة لأهلية المريض ومكانته الاجتماعية، خاصة في مجتمع يتأسس على قيم ثقافية تعلي من شأن (الفحولة، الرجولة، العقل والاستقامة..)؛ لعل الأمر يتعلق هنا بإستراتيجية تنزيه الذات بإلقاء اللوم على الآخر وشيطنته.

عوض اللجوء إلى الطب العصري إذن، (خاصة في حالات المرض النفسي أو العقلي وكذلك حالات العجز الجنسي)، حيث يتم تشخيص الحالة بالبحث في ذات المريض وعضويته، يتم اللجوء إلى أساليب “العلاج الروحاني” التي يلقى باللوم فيها دائما على قوى خارجية وغيبية شريرة (11): وهكذا يصبح العجز الجنسي عند الرجل، وعلاوة على أسباب قد تكون مرتبطة بالسحر، نتيجة مس أو “تملك” من قبل (عايشة قنديشة) مثلا، كما يصبح البرود الجنسي لدى المرأة أيضا نتيجة تملك جسدها من قبل (حمو العاشق) أو (الكزار)، أو نتيجة أذى سلط عليها من قبل (الجنية ميرة) المعروفة بغيرتها المدمرة من النساء الجميلات.. بحيث تتشكل ثقافة خاصة بالمرض (كتآمر وعدوان خارجي)، مما ييسر ويشرعن أيضا طرقا للعلاج تقضي بالتخلص نهائيا من “المس”، كمس أولا وأخيرا بالرأسمال الرمزي والاجتماعي للشخص المصاب: (الفحولة، الرجولة، الخصوبة ورجاحة العقل…).

وبالعودة إلى حالات المرض النفسي والعقلي، وبغض النظر عن إستراتيجية الهروب من الوصم الاجتماعي (حتى لا ننسى أيضا التكلفة المرتفعة جدا من حيث ميزانية المال والوقت التي يقتضيها العلاج في مؤسسات الطب العصري)، هناك سبب آخر يجعل الناس يفضلون عدم إيداع مرضاهم في المصحات العقلية، لعل الأمر يتعلق هنا بطبيعة تعريف المرض ودلالاته الثقافية.. فبينما يتحدد هذا الأخير، بالنسبة للطب العصري، كـ”حالة” تؤشر على خلل واضطراب يضع صاحبه “اجتماعيا” في وضع الأحمق والمعتوه وعديم الأهلية، نجد بأن العلاج الروحاني – وبتواطؤ مع ثقافة “البركة الضرائحية” ومعتقدات “الأسياد” والأولياء – يحول هذه “الحالة” (المدانة) إلى “حال” منشود من أحوال الخرق والكشف الصوفيين: (بوهالي، هبيل، مجذوب…).. ألسنا هنا أمام إعادة لتشكيل الهويات والتعريف بها أيضا؟ فما هو “انحراف” Déviance عن العقل في قاموس الطب العصري، يصبح – في ثقافة “الطقس الصوفي” – مؤشرا على نمط خاص جدا من الرؤية والإدراك، أو لنقل من “المعقولية” (12). إننا هنا أمام “ثقافة صوفية” متجدرة برموزها وقيمها ومقدساتها ومؤسساتها، ولفهم الممارسات المرتبطة بها طبعا، وجب البحث في بنية المعتقدات والتمثلات التي يصدر عنها الفاعلون وتمنحهم منطقا معقولا لأفعالهم وسلوكاتهم.

وعلى مستوى آخر، وتأكيدا لاستمرارية هذه الثقافة، ليس في علاقة فقط بالطقوس الكناوية، نعطي المثال هنا بعلاقة “المواسم الصوفية” بـ”اقتصاد الجنس”: فكثيرا ما يذهب البعض، وفي تحليلات تبسيطية يغلب عليها الحس العام، إلى وضع هذه العلاقة في سياق معادلة (العرض والطلب)، مما يجعل الموسم الصوفي هنا سوقا رائجة لأنشطة تحت الطلب. وهنا طبعا لا نكاد نميز بين “العمل الجنسي” وأنشطة أخرى تخص: النقل السري، وكراء البيوت، وتجارة لوازم الزيارة من شمع وحناء وبخور…إلخ، هذا علاوة على أنشطة ترتبط بالتسول وممارسات أخرى موسمية. بهذه الرؤية التبسيطية للأشياء إذن، يتحدد العمل الجنسي هنا – كغيره من هذه الأنشطة الموسمية – بمثابة استثمار في “الرأسمال الرمزي” للموسم لأجل المال؛ بينما – وفي كثير من الحالات – العكس هو الحاصل، بحيث يمكن الحديث بالأحرى عن استثمار في “الجسد” لأجل “المعتقد”، مما يجعل من التعاطي لنشاط (الدعارة) وسيلة فقط لضمان الموارد المالية لاستكمال طقوس الزيارة، خاصة بالنسبة لفئة من النساء تقدمن أنفسهن ضمن فئة “الممسوسات”. لعل هذه واحدة من أهم الخلاصات  التي انتهينا إليها بخصوص بحث ميداني حول طقوس الزيارة بموسمي “الشيخ الكامل” و”علي بنحمدوش” بمكناس وضاحيتها (13)، بحيث يصعب الفصل هنا بين “جسد ممسوس” و”جسد مومس” Possession et Prostitution ، فالثاني يشتغل كرها وطوعا لإرضاء هوامات الأول ونزوعاته، كما أن الأول يمنح الثاني حق القول والفعل وشرعيتهما أيضا.

 

 

 

 

 

 

 

 

هوامش وإحالات:

* أستاذ السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا بكلية الآداب – جامعة مولاي إسماعيل/ مكناس – المغرب؛ رئيس مجموعة البحث حول: الدين، القيم والتغير الاجتماعي؛ مدير مختبر الدراسات والأبحاث في الفلسفة والعلوم الاجتماعية LPSS؛ عضو مؤسس لفضاء الأبحاث والدراسات في العلوم الاجتماعية والإنسانية ERESH

(1) – للتمييز بين هذه المستويات المختلفة من الحضور “الصوفي”، نحيل هنا – وعلى سبيل المقارنة – على كل من:

– عبد اللطيف الشاذلي: التصوف والمجتمع، نماذج من القرن العاشر الهجري، منشورات جامعة الحسن الثاني- مطابع سلا، المغرب 1989

– محمد ضريف: مؤسسة الزوايا بالمغرب، منشورات المجلة المغربية لعلم الاجتماع السياسي، مطبعة المعارف الجديدة، الرباط   1992

– عبد المجيد الصغير: إشكالية إصلاح الفكر الصوفي في القرنين 18 و 19، منشورات دار الآفاق الجديدة، 1988

– محمد جحاح: الزاوية بين القبيلة والدولة، في التاريخ الاجتماعي والسياسي للزاوية الخمليشية بالريف، منشورات أفريقيا الشرق 2015

– محمد جحاح وآخرون: التصوف والسياسة الدينية، منشورات أفريقيا الشرق 2016

– Georges Spillman : Esquisse d’histoire religieuse du Maroc – Confréries et Zaouïas, Paris 1951.

– Jacques Berque : L’intérieur du Maghreb 17e  – 19e  siècle, Paris 1978 .

– Michaux Billaire : Les confréries religieuses, in Archives Marocains, Vol 27 – 1927.

– (2) يمكن الرجوع مثلا إلى:

– E. Douté : Les Aissawa, imp. Martin Frères, 1990

– Georges Spillman : Esquisse d’histoire religieuse du Maroc – Confréries et Zaouïas, Paris, 1951.

– Ali Aouttah : Anthropologie du pèlerinage et de la sainteté dans le maraboutisme Marocain, Revue Ibla, n° 175, 1995.

– Jacques Berque : Ulémas fondateurs insurgés du Maghreb 17siècle, Edition Sindbad, Paris, 1982.

– Levy Provençal : Les historiens des Chorfas, Ed : Afrique orient, Casablanca, 1991.

– Levy Provençal : Religion, culte des saints et confréries dans le nord Marocain, in Rif et Jbala (ouvrage collectif), Ed : Bulletin de l’enseignement publique du Maroc – Paris, 1927

– (3)  يمكن الرجوع بهذا الخصوص إلى كتاب: التصوف والسياسة الدينية، مرجع سابق.

– (4) كنموذج لأهم الدراسات والأبحاث التي تندرج في إطار أطروحة البقايا الوثنية هذه، نحيل على الكتب التالية:

– Edmond Douté : Notes sur l’Islam Maghrébin : Les Marabouts, Alger, 1909.

– Edmond Douté : Magie et religion dans l’Afrique du nord, 1909.

– Edward Westermarck: Ritual and Belief in Morocco, London, 1926.

– Edward Westermarck: The popular Ritual of the great Feast in Morocco, 1912.

– Edward Westermarck: Pagan survivals in Mohammedan civilization, London, 1933.

– Edward Montait: Le culte des Saints musulmans dans l’Afrique du nord et plus spécialement au Maroc, Librairie Georges et Cie ? Genève, 1909.

– Henri Basset : Le culte des grottes au Maroc, Alger, 1920.

– Alfred Bell: La religion musulmane en Berbèrie, Paris, 1938.

– (5) بغض النظر عما يعنيه ارتباط الطريقة الكناوية بالصحابي بلال الحبشي، وعلى مستوى رمزي طبعا، من مصدر اعتزاز وتقدير للمنتسبين إليها باعتبار وضعهم كعبيد، فإن الهدف الإستراتيجي من إعلان هذا الارتباط هو تعزيز شرعية الطريقة ومناعتها ضد أي تشكيك في سنيتها سواء من قبل الدولة أو فقهائها.

– (6) بحكم واقع التداخل والتعاضد بين مجالي الممارسة وتمثلاتها، لا بد من التنويه  هنا إلى أن أية مقاربة أنثروبولوجية لهذه الطقوس -كممارسات – لا يمكن أن تكون ممكنة من دون الانفتاح على السؤال السيميولوجي.

– (7) هذه واحدة من الوظائف الأساسية (الاستشفاء)، ليس فقط بالنسبة للطائفة “الكناوية” بل ولغيرها من الطوائف الصوفية الشعبية الأخرى (الهداوية، العيساوية، الحمدوشية، الدغوغية…)؛ يمكن الرجوع بهذا الخصوص – وتحديدا بالنسبة للطريقة الحمدوشية – إلى كتاب فانسون كرابانزانو:

– Vincent Crapanzano : Les Hamadcha, une étude d’ethnopsychiatrie marocaine, traduit de l’anglais Américain par Olivier Ralet, Sanofi-Synthélabo, PariS, 2000.

– (8) كثيرا ما يتم التعبير أيضا، وعلى مستوى الثقافة الشعبية، عن قوة “الجن” وسطوتهم من خلال تراتبية الألوان التي تحدد طبيعتهم (الجن الأبيض، الأسود، الأحمر، الأزرق…)، وليس بغريب أن يعيد التصوف الشعبي إدماج وإنتاج هذه التراتبية على مستوى بنية خطابه الخوارقي.

– (9) تعتبر “عايشة” هذه من بين أكثر أسماء “الجنيات” تداولا في الثقافة الشعبية المغربية، وأكثرها إثارة للبس من حيث تعدد وتناقض مسمياتها والذي يحيل بالمثل على تعدد واختلاف مضامين أسطورتها من منطقة لأخرى ومن طائفة صوفية لأخرى، بحيث يمكن أن تعرف باسم “عايشة قنديشة” كما باسم “عايشة السودانية” أو “مولات الواد” أو “مولات المرجة” كما تعرف أيضا باسم “عايشة البحرية”.

– (10) كما هو شائع لدى الطائفة الكناوية، فإن الوساطة الروحية (كوساطة بين عالمي الإنس والجن) هي مرتبة خاصة واستثنائية، فهي من جهة اختصاص نسوي بالأساس، ومن جهة ثانية تتطلب قدرات ومواصفات خاصة جدا قد تبدو معالمها على شكل سلسلة من “الغيريات” و”الشذوذات”، غالبا ما تفسر بتدخل قوى غيبية غير مرئية (جن، أرواح) مما يجعل الوسيطة أو “العرافة” أو “الشوافة” شخصا “ممسوسا” يعيش على نقاط “التماس” بين عتبات: العقل واللاعقل، المرئي واللامرئي، السوي وغير السوي…

– (11) بطبيعة الحال، نحن هنا أبعد ما يكون عن أي تعميم، وإن كانت هناك صعوبة منهجية في قياس حجم الظاهرة وتطورها بفعل ما يمكن أن نصفه هنا بـ”الرقم الأسود” لظاهرة العلاج الروحاني، والذي نلخصه هنا في كل الحالات التي لا يتم التصريح بها أو يتم التحفض والتكتم عليها من طرف المبحوثين كما من طرف الدولة، وذلك طبعا بسبب حساسيات هذا الموضوع “الطابو”.

– (12) لانخفي استلهامنا هنا لنظرية السوسيولوجي الأمريكي هوارد بيكر حول الوصم الاجتماعي وسيرورات الوسم، وما يوازيها طبعا من تشكيل وإعادة تشكيل للهويات وللثقافات الفرعية التي تعززها.. يمكن الرجوع بهذا الخصوص إلى كتابه:

– Howard. S. Becker, Outsiders : Etudes de sociologie de la déviance, Traduit de l’Américaine par Jean-Pierre Briand, Editions Métailié 2012.

 

– (13) بحث لم ينشر بعد.

Exit mobile version