موقع أرنتروبوس

كتاب مجتمع مسلم – ارنست غيلنر

محمد م. الأرناؤوط


المؤلف:  أرنست غيلنر

المترجم:  أبو بكر أحمد باقادر

سنة النشر : 2005

عدد الصفحات :  443

يمكن القول أن صدور الترجمة العربية لكتاب آرنست غيلنر “مجتمع مسلم” يمثل حدثاً ثقافياً وعلمياً ولكنه لم يحظ بعد بما يستحقه من اهتمام.

فارنست غيلنر (1925-1995) يعتبر من كبار المفكرين والباحثين في القرن العشرين، وقد ترك وراءه مجموعة كتب ترجمت إلى عدة لغات مثل “أمم وقوميات” و”حركة التحليل النفسي” و”المحراث والسيف والكتاب” و”ما بعد الحداثة والعقل والدين” و”شروط الحرية” وغيرها. ولكن من كتبه الكثيرة يبقى كتابه “مجتمع مسلم” يتمتع بجاذبية خاصـة، ومن حسن الخط أنه قد صدر أخيراً في العربية بترجمة متخصص في علم الاجتماع (د.أبو بكر باقادر) ومراجعة متابع وناقد لأنثربولوجيا الإسلام (د.رضوان السيد).

وتجدر الإشارة إلى أن غيلنر يجمع ما بين تقاليد أوروبا الوسطى والغربية، إذ أنه ولد في باريس وترعرع في براغ إلى أن رحل إلى لندن في 1939 حيث درس الفلسفة ثم درّس لاحقاً الفلسفة وعلم الاجتماع في جامعة كامبردج إلى أن تقاعد وعاد إلى براغ حيث أسس مركزاً للدراسات القومية.

  ومما يعطي هذا الكتاب قيمة خاصة أن غيلنر أصبح يعتبر من أبرز علماء الأنثربولوجيا، بالإضافة إلى مساهماته في الفلسفة في مجال فقه اللغة وعلم الاجتماع السوفيتي السابق الذي دفعه للاهتمام بالبداوة في آسيا الوسطى ومقارنتها بالبداوات في الشرق الأوسط، وكذلك إسهاماته في مجال الحداثة وما بعد الحداثة وخاصة في مجال علاقتها بالدين.

وبالاستناد إلى ذلك فقد كان لاهتمام غيلنر بالمجتمعات المسلمة أن فتح المجال لتعاظم  الاهتمام بدراسة المجتمعات العربية والمسلمة من المنظور الأنثربولوجي، حيث يذكر معه في هذا المجال الأنثروبولوجي الأمريكي كليفورد غيرتز C.Geertz وطلابهما الكثر الذين برزوا في العقود الأخيرة. وقد أحسن الباحث المعروف أبو بكر باقادر، أستاذ علم الاجتماع في جامعة الملك عبد العزيز، في ترجمة كتاب غرتز الأشهر “الإسلام ملاحظاً”، وأكمل الآن جهده المعروف في هذا المجال بترجمة كتاب غيلنر.

والكتاب الذي بين أيدينا هو في جانب يمثل نموذجاً مهماً لعلم اجتماع الدين، الذي يأخذ الإسلام ودوره في المجتمع موضوعاً له, كما أنه من ناحية أخرى يمثل نموذجاً متميزا لأنثربولوجيا الإسلام. ويمكن ببساطة تمييز القسم الأول النظري في الكتاب الذي يقدم ما يمكن تسميته بنظرية غيلنر عن دور الإسلام في المجتمع بالمقارنة مع اليهودية والمسيحية، مع القسم الثاني الذي يقدم مراجعات لحالات معينة بالاستناد إلى بعض الدراسات المنشورة.

والفكرة الرئيسية أو النظرية التي يتمحور حولها الكتاب تدول حول أن الإسلام يشكل مسودة لنظام اجتماعي لأنه يعبر عن وجود مجموعة من القواعد الأزلية والمنزلة، المستقلة عن إرادة البشر التي تحدد النظام الصحيح للمجتمع، وهي القواعد الموجودة والمحفوظة والمتاحة للجميع وليست في يد طبقة أو هرمية دينية، مما ينفي الحاجة إلى “كنيسة” دون أن يلغي هذا وجود “الفقهاء” في المجتمع. وقد اعتمد غيلنر، كما يقول أحد تلاميذه في مقدمة الطبعة العربية، في منهجه على دراسة المجتمع الإسلامي من خلال الطريقة التي يتم فيها العيش مع الدين أكثر من دراسته من خلال النصوص.

ويؤكد ذلك غيلنر نفسه في مقدمة الفصل الثالث حين يبرز الفرق بين المستشرقين والأنثروبولوجين في دراستهم للإسلام في المجتمع. فالمستشرقون يرتاحون إلى دراسة النصوص بينما يرتاح الأنثربولوجيون إلى دراسة القرى، ونتيجة لذلك يميل المستشرقون إلى رؤية الإسلام من فوق بينما يرى الأنثروبولوجيون الإسلام من تحت. ويستشهد غيلنر هنا بحوار بين مستشرق كبير في السن قضى حياته في دراسة النصوص ليكتشف أخيراً التنوع في مجتمعات المسلمين بالاستناد إلى أن القرآن قد فسّر بشكل مختلف في أجزاء العالم الاسلامي، وهي الحقيقة التي كان قد اكتشفها مبكراً الباحث الانثروبولوجي الشاب من خلال دراسته الميدانية(ص 197).

والعبرة المهمة التي يستخلصها غيلنر من ذلك أن “تنوع الحضارة الإسلامية حقيقة مؤكدة” وهو “كان تصحيحاً مفيداً لوجهة النظر التبسيطية التي أخذت الإسلام في ظاهرة وافترضت أنه نظراً لأن الحياة المسلمة هي تطبيق لكتاب واحد وتعاليمه فإن الحضارة الإسلامية حضارة متجانسة”. ولكن مع هذا يصل غيلنر إلى نتيجة أخرى مهمة ألا وهي أنه “مع كل التنوع الذي لا يمكن إنكاره، فإن المدهش هو مدى تشابه المجتمعات المسلمة مع بعضها البعض”(ص197-198).

ومع هذا فإن كتاب غيلنر يطرح إشكالية محددة ألا وهي اعتماده الكبير على المغرب، الذي كان مجاله المفضل، وعلى ابن خلدون في مقدمته لتفسير مكانة الدين /الإسلام في المجتمع، وعلى مدى إمكانية تعميم هذا النموذج على العالم الإسلامي. وكان غيلنر قد درس مجتمع البدو في آسيا الوسطى وقارنه مع مجتمع بدو الشرق الأوسط، ولكن يبقى السؤال في إمكانية تعميم التحول من الإسلام النصوصي إلى الإسلام الهرطقي/الطرقي ومن ثم الإصلاح/الانقلاب على ذلك مع ابن باديس وغيره في بلاد المغرب على أقاليم أخرى في عالم الإسلام وصولاً إلى القول بتشابه المجتمعات المسلمة مع بعضها البعض.

وكما أن صدور كتاب غيلنر في 1981 أثار بعض الانتقادات الجادة من طرف الباحثين المسلمين مثل سامي زبيدة الذي رأى أن غيلنر لم يضف كثيراً على ما قدمه ابن خلدون وأن تعميم أطروحته على المجتمعات المسلمة يحتاج إلى إثبات، وطلال أسد الذي رأى أن غيلنر قد بسّط الإشكالية التي يدرسها وتجاهل حيوية تاريخ المسلمين وطبيعة تعاملهم مع النصوص الإسلامية الرئيسية، فقد أثار أيضاً بعض الانتقادات من طرف الباحثين المغاربة مثل عبد الله حمودي وغيره.
ولكن هذه الانتقادات وغيرها، التي لا تقلل بطبيعة الحال من اهمية هذا الكتاب المرجعي، هي التي دفعت د. باقادر إلى ترجمة هذا الكتاب إلى العربية.

 فباقادر نفسه باحث معروف في علم الاجتماع، وخريج جامعة وسكنسن ماديسون بالولايات المتحدة، وهو يرى أنه بترجمة هذا الكتاب يأمل في أمرين متلاحقين. أما الأول فهو التعرف على الدراسات الأنثربولوجية الغربية الدارسة للإسلام والمجتمعات المسلمة، التي تشكل مصدراً لصور الإسلام والمسلمين عند الغربيين من أكاديميين وإداريين وعسكريين، وصولاً إلى مزيد من النقد لها. أما الثاني فهو الأمل في تبلور تراكم معرفي مسلم قادر على اختراق الغرب “من خلال نقاشات علمية صارمة من شأنها أن تؤدي إلى بروز نظريات وأطروحات إسلامية أكثر قدرة على اختراق الفكر العالمي”(ص15).

وإلى أن يتحقق ذلك يبقى الأمر الأول مطروحاً ومفتوحاً: قراءة هذا الكتاب ومعرفة ما فيه كشرط لنقده وتجاوزه في المستقبل.

 ا

مقدمة المترجم أبو بكر باقادر

يوضح جيلنر في كتابه ” مجتمع مسلم” الذي نقدمه إلى القارئ العربي، وبشكل واضح، انه يسعى إلى تقديم نظرية أو نموذج تفسيري لدراسة المجتمعات الإسلامية أو العربية بشكل عام. ورغم أن هذا طموح كبير، إن لم نقل إدعاء فضفاضاَ، فإن فيما أكد عليه، باستمرار، في ثنايا متنه كان يعتقد بإمكانية ذلك، بل وتمكنه من إنجاز مسودة أولية مهمة في هذا الاتجاه. وبطبيعة الحال يرى جيلنر أن ما يقدمه إنما يمثل منظوراً ينطلق من مفاهيم أو نظريات ونماذج العلوم الاجتماعية عموماً، وعلى وجه الخصوص المنظور الأنثروبولوجي الاجتماعي على الطريقة البريطانية!
ولسنا في مجال تناول مسألة أنثروبولوجيا الإسلام من حيث الإمكانية أو الأهمية كموضوع علمي يمكن تقديمه بالدراسة والتحليل، فلقد تناول ذلك العديد من النقاد لعل أبرزهم طلال أسد في نقده لكتاب إرنست جيلنر الذي نقدمه هنا، وستكون لنا عودة إلى ذلك لاحقاً. إن ما يهمنا هنا – إن سلمنا بإمكانية وأهمية دراسة ” المجتمعات الإسلامية”، وهو يوردها “بالمفرد” على اعتبار أنها تشكل نموذجاً واحداً متشابهاً في كافة أنحاء العالم – هو كيف قدم جيلنر نموذجه النظري.
اعتمد جيلنر على مصادر عديدة في تقديمه لنموذجه، لكنه اعتمد بشكل محوري وأساسي، على مقدمة ابن خلدون وعلى نسخة منقحة من النظرية الانقسامية البريطانية حسبما قدمها ايفانز بريتشارد. ولم يكن اعتماده على ابن خلدون اعتباطياً، فلقد جاء بناء على تصور محدد لرؤية ابن خلدون، يقوم في لأساس انطلاقاً من أن آراء وتفسيرات ابن خلدون لمجتمعات شمال أفريقيا إنما يعتمد على البناء القبلي القائم على العصبية والغزو ومن ثم الانقسامية المستمرة.
واعتمد جيلنر كذلك على مجموعة متباينة من المفاهيم والأفكار من مصادر متعددة مختلفة تتراوح من هيوم وآراءه في الدين إلى توليفة توفيقية لمفاهيم ماركس وفيبر ودوركايم وسواهم ليكمل الصورة العامة التي يقدمها عن ” المجتمع المسلم “.
ويقدم جيلنر صورة خاصة محددة عن الإسلام، قد تبدو في الوهلة الأولى مطابقة تماماً مع التيار العام السائد بين المسلمين. فبالنسبة له يقدم الإسلام مسودة اجتماعية لنظام اجتماعي، تعاليم الإسلام فيه تفصيلية وتغطي كافة مناحي الحياة. وهذه المسودة ذات الطبيعة القانونية الأخلاقية، تتطلب من المسلمين الالتزام بها والإذعان لموجهاتها. وبذلك يتشكل المجتمع وتتم صورته على هذا الأساس. والإسلام في نظر جيلنر يتميز عن غيره من الأديان في قدرته وتفوقه على فرض تعاليمه ومعتقداته على أتباعه، وهو ذو شخصية مستقلة عن تصرفات أتباعه في نصوصه المقدسة التي لا يمكن لكائن من كان، تغييرها أو تحويرها أو العبث بها.
ورغم أن الكتاب الذي نقدمه يمكن أن يقسم لقسمين، الفصل الأول فيه يقدم التصور النظري لجيلنر، إلا أن الفصول الأخرى المشكلة للكتاب تقدم دراسات مختلفة تتناول جوانب من الأطروحة الأساسية، بحيث يمكن اعتبارها حالات إضافية لتوضيح أو توسيع ما قدمه في الفصل الأول ” النظري “. وبإمكاننا القول أن جيلنر قدم في كتابه هذا أطروحته الرئيسة التي قدم أجزاء مبتورة منها في كتبه الأخرى، فكما هو معروف تميز جيلنر بتعدد اهتماماته، فهو بالإضافة إلي انه من ابرز علماء الأنثروبولوجيا البريطانيين، فقد كان أيضاً معروف بمساهماته الفلسفية و بالذات في حواره ونقده للمدرسة الإنجليزية العاملة في مجال فلسفة اللغة. إضافة لذلك، فإن لجيلنر جهود معروفة في مجال دراسة علم الاجتماع السوفييتي (سابقاً)، وعلى وجه الخصوص اهتمامه بالبداوة في وسط آسيا ومقارنتها ببداوة الشرق الأوسط عموماً. وله اهتمام متميز بقضايا الحداثة وما بعد الحداثة، فهو من كبار وأبرز نقادها، خاصة في علاقتها بالدين، وربما كانت مداخلته وجدله مع اكبر احمد في إحدى كتبه الأخيرة عن : العقل والدين وما بعد الحداثة، إنما يسعى في الوقت نفسه أن يقدم فيها نقده اللاذع للنسبوية الغربية المطلقة، وكذلك الأصولية الوثوقية الإقصائية للآخرين، والتي يرى أن افضل ممثل لها الإسلام السياسي!
إن تعددية الاهتمامات وتنوع المنظورات والمنطلقات التي يعتمدها جيلنر- ربما تفسر لنا جوانب أساليب التناول التي تميزت بها كتاباته، والتي تتداخل فيها الأدبيات العلمية من أكثر من مصدر معرفي أو تخصص علمي، إضافة إلى تعدد وتداخل المفاهيم من حقول علمية عديدة مختلفة، من تاريخ وفلسفة وعلوم اجتماعية إلى أدب وأديان وغيره. بل ربما فسر طبيعة النص الجيلنري، الحائر بين التحليل العلمي وأحيانا الاعتماد على الملاحظات الميدانية وفي الوقت نفسه النبرة النبوئية الإسقاطية، التي تحيل إلى المستقبل أو ما يمكن أن يقع، اكثر من الالتزام الصارم بتحليل البيانات والمعلومات المتناولة فقط. بل أنها كذلك ربما فسرت النزعة الشخصانية وبروز قدر لا باس به من أنوية المؤلف، جيلنر، سواء في تناوله أعمال غيره بالتقييم الذاتي أو تكرار التأكيد على أهمية ومصداقية ما قدمه، رغم اعترافه بوجود نقاط ضعف أو هفوات فيما قدمه، لكن – وبتواضع شديد – إن ما قدمه هو الأفضل والأجدر إلى حينه!
والكتاب الذي نقدمه للقارئ العربي كتاب معروف في الأوساط العلمية وقد كان موضوعاً لدراسات وانتقادات عديدة. تناولت جوانب عديدة من ما قدمه جيلنر. فبعضها تناول أطروحة جيلنر الأساسية بالنقد والدراسة. وكما ذكرنا يعد منها ما قدمه طلال أسد في مقاله “البحث عن مفهوم لانثروبولجيا الإسلام” والذي يرى أن جيلنر بسط الإشكالية التي يدرسها بشكل مخل وتجاهل حيوية تاريخ المسلمين وطبيعة تعاملهم مع النصوص الإسلامية الأساسية، وهو يرى أن ما قدمه جيلنر عبارة عن نص مقدس يعمل في الهواء، إذ هو غيب المسلمين بوصفهم كائنات تتفاعل وتعيش تعاليم النص المقدس. ويقترح أسد في هذا المضمار، إعادة النظر في نوعية الخطاب الإسلامي برمته، الأمر الذي يتجاهله جيلنر في نظره، ويرى أسد أن من أهم مميزات هذا الخطاب أنه استطراد تفسيري تراكمي على النص المقدس (القرآن والسنة) إضافة إلى السوابق التاريخية والظروف والسياقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي يمر بها المجتمع، ومن تفاعل هذه الأمور تتولد عملية التفاعل والتعامل مع النصوص المقدسة.
كذلك يعيب أسد على جيلنر الأسلوب التلفيقي الذي تعامل به في دراسة المجتمعات الشمال أفريقية الذي يقدمه في كتابه، وعلى وجه الخصوص كيفية استخدام جيلنر مفهوم الدين ووظائفه عند ماركس ودوركايم وفيبر وجعلها كما لو كانت مفاهيم منفصلة يمكن استعارتها بعيدا عن المنظومة النظرية التي تنتمي لها. إضافة إلى أن جيلنر لم يشغل نفسه – حتى – من التأكد ميدانياً ما إذا كانت عملية التلفيق التي قدمها تصلح أو تفيد أو حتى تقدم معرفة إضافية “مفيدة ” لدراسة المجتمعات المدروسة!
ويكاد يوسع أسد من تناوله لغالبية مصادر جيلنر وكيف انه أسف في التقاط أو إبراز صور واستعارات تبدو في الوهلة الأولي ” ذكية “، ومعبرة عن الوضع المدروس، لكنها في الواقع منتزعة أو مجتزة من سياق اكبر أو صورة اكثر تعقيداً، مما جعلها لا تقدم صورة مركبة في أطروحته، وفي رأي أسد، هذا يجعلنا نتردد في قبول مجمل الأطروحة بسبب هذه الأجزاء المنتزعة من سياقاتها.
على أن سامي زبيدة ينتقد جيلنر انطلاقاً من زاوية مختلفة تماما، فهو يرى أن نموذج أو أطروحة جيلنر، إن صدق فإنما يصدق على المجتمعات البدوية في شمال أفريقيا التي درسها في الأصل ابن خلدون والتي لم يزد جيلنر على ما قدمه ابن خلدون الكثير! ومن ثم تعميم أطروحة جيلنر على المجتمعات الإسلامية أمر يحتاج لإثبات. وفي الواقع يقدم زبيده اعتراضاته الواحد تلو الآخر مؤكدً أن المجتمعات البدوية لا تشكل سوى جزء أو صنف من أصناف أخرى ظهرت في العالم الإسلامي والشرق الأوسط على وجه الخصوص. وفي هذا السياق يقدم كنموذج “المجتمع العثماني” وهو مجتمع تميز بنظام اجتماعي وسياسي حضري مركب متميز ببيروقراطية واسعة وحياة حضرية مركبة. صحيح إن مثل هذا المجتمع قدمت نماذج نظرية لدراسته من مثل مجتمعات الاستبداد الشرقي أو المجتمعات المائية أو أسلوب الإنتاج الأسيوي وخلافه، إضافة إلى إمكانية دراسة أمثال هذا المجتمع، رغم تعدد صوره ونماذجه، بوصفها مجتمعات إمبراطورية. بطبيعة الحال يمكننا إضافة مجتمعات الجزيرة العربية ذات البناء والتاريخ الاجتماعي المختلف، وكذلك مجتمعات جنوب وجنوب شرق آسيا وكذلك وسط آسيا، و الأقليات المسلمة في آسيا وأوروبا وأفريقيا، والتي تقدم نماذج مجتمعية ربما كان من الصعب أن نتصور أن نموذج جيلنر يمكن أن يقدم تحليلاً لبنيتها وأسلوب الحياة فيها. وفي رأينا يظهر أن آراء زبيده في هذا الخصوص صائبة. وان كانت كل ما تفعله هو أنها تجعل أطروحة جيلنر محصورة في دراسة مجتمعات شمال أفريقيا!
وهناك بعض الانتقادات ذات الطبيعية الجزئية مثل نقد عبد الله حمودي وغيره من الباحثين المغاربة الذين اعترضوا على صلاحية النموذج الانقسامي لدراسة مجتمعات شمال أفريقيا، مقدمين في نقدهم العديد من الأمثلة التاريخية والاجتماعية على عدم صلاحية أو مصداقية النموذج النظري لتفسير ما كان يجري فعلا في تلك المجتمعات. ومن الواضح أن هذا التيار النقدي إنما يهتم بالأدوات والمفاهيم وليس بمجمل الأطروحة، على أن أهميته إنما تكمن في التفاصيل التي قد يؤدي تراكمها إلى هدم الأطروحة من أساسها، بخصوص المجال المحدد، شمال أفريقيا، لقيام الأطروحة الأساسية لجيلنر.
بطبيعة الحال لا بد لنا من التعريج وبشكل سريع على الجدل الساخن الذي دار بين اداورد سعيد وجيلنر والقائم على التناول الإيديولوجي الشخصي بين طرفين والذي يوضح كيف أن كلاهما حاول أن يكون “الممثل” الرسمي لوجهة النظر التي يقدمها أو يتبناها، ولا حرج أن يلحق بالآخر الشتائم والغمز في النوايا أو الطعن في عمق المعرفة وعلمية التناول! فكما ذكرنا، جيلنر بسبب تعددية اهتماماته، وبسبب أسلوبه الذي لا يخلو من نبرة أنوية، وأسلوب كتاباته الذي يسعى ليس فقط إلى تناول الواقع و إنما إسقاط أحكام وتنبؤات على المستقبل وبنبرة وثوقية بها قدر كبير من الجرأة والاعتزاز بالنفس. وإذا ما أخذنا في الاعتبار المكانة العلمية والمنصب الأكاديمي الذي شغله جيلنر، أدركنا كم هو مهم أن نقدر صدى وقيمة ما يعرضه من أفكار وآراء سواء في كتبه أو مقالاته الصحفية أحياناً.
وجيلنر يعرض أفكاره بوصفها أفكاراً ” موضوعية ” نزيهة من أي تحيز أو تحامل على المجتمعات التي يدرسها، بل إن بعض علماء الأنثروبولوجيا المسلمين كانوا يعدونه من ابرز المناصرين للرأي المسلم أو على الأقل المدافعين عنه والمتفهمين لدوافعه! وما يجعل لمثل هذه الآراء أهميتها، أن جيلنر كان دائم الحضور في المحافل السياسية البريطانية والأوروبية المهمة، ولعل شغله كرسي الدراسات الأنثروبولوجية في جامعة كمبريدج ومن ثم إبراز اهتمامه بدراسة الإسلام، عامل مهم للغاية في تاريخ الدراسات الأنثروبولوجية عموما وفي تاريخ كامبريدج على وجه الخصوص!
لكل هذه الأسباب ولأهمية ما يقدمه هذا الكتاب، رغم ما ذكرنا من انتقادات واعتراضات. إلا انه يبقى واحداً من أبرز الكتب العلمية التي تناولت بالدراسة والتحليل المجتمعات المسلمة. وكما هو معروف اليوم، احتلت دراسة المجتمعات العربية والمسلمة من المنظور الأنثروبولوجي مكانة رفيعة بسبب مشاركة كل من ارنست جيلنر مؤلف كتابنا هذا والأنثروبولوجي الأمريكي المشهور كليفورد غيرتس الذي أسهم وطلابه بالعديد من الدراسات الأنثروبولوجية المهمة. لكل هذا فإننا نرى ترجمة وتقديم المؤلف الأساسي لجيلنر بعد أن قدمنا مؤلف جيرتس الأساسي : “الإسلام ملاحظاً” بالعربية.
أملي أن تؤدي ترجمة هذا السفر المهم إلى العربية إلى فتح نافذة مهمة على الدراسات الأنثروبولوجية الغربية الدارسة للإسلام والمجتمعات الإسلامية. ربما أدى هذا لتعرف إلى مزيد من نقد الدراسات المشكلة لصور الإسلام والمجتمعات المسلمة عند الغربيين عموما : أكاديميين وإداريين وعسكريين بل وقراء عاديين. إضافة إلى أن التعرف عليها ربما أدى إلى معرفة أسباب الصورة المعقدة والسلبية أحياناً عند الغربيين عن الإسلام، كذلك نرجو مواكبة لنشر هذا السفر أن تتضافر جهود الباحثين العرب نقدا وتجاوزاً للبحوث والاطروحات العلمية السائدة اليوم. ولن يتأتى هذا سوى عن طريق الدخول في نقاشات علمية صارمة من شانها أن تؤدي بإذن الله إلى بروز نظريات و أطروحات إسلامية اكثر قدرة على اختراق الفكر العالمي، ومن ثم تقديم الصورة التي نتطلع ان يكون عليها تصور المجتمعات المسلمة، ثقافة واجتماعا وعقيدة، بما يوازي إسهامات الحضارة الإسلامية ماضيا ومستقبلاً.
لا يفوتني في هذه المناسبة إلا أن اشكر من ساهموا بعناء جهدهم الاطلاع على مسودات هذه الترجمة والتعليق عليها مرات ومرات وعلى رأسهم الأستاذة طلحة حسين فدعق والأستاذ عواد علي وزميلي الدكتور رضوان السيد، لا يمكنني أن أنسى الجهود المخلصة التي قدمتها زوجتي الأستاذة نور باقادر العمودي على الصعيدين الأسرى والأكاديمي. وعلى أن اذكر أنني أتحمل أعباء أي أخطاء أو هفوات والكمال لله عز وجل.

Exit mobile version