موقع أرنتروبوس

كتاب لماذا ينفرد الإنسان بالثقافة : مايكل كاريذرس

لماذا ينفرد الإنسان بالثقافة

تأليف: مايكل كاريذرس

ترجمة: شوقي جلال.

سلسلة عالم المعرفة بالكويت، 1998م

لماذا ينفرد الانسان بالثقافة

لتحميل الكتاب :

http://www.al-mostafa.info/data/arabic/depot2/gap.php?file=009265.pdf

يتألف الكتاب من تسعة فصول، مع مقدمه للمترجم، وتصدير للمؤلف، وفي نهاية المؤلف يقع ثبت الهوامش والمراجع، ويعقبه كشاف المصطلحات والأعلام. يبدأ الكاتب بوضع السؤال الأهم في تاريخ البشر، ونقله من (من أنا؟ إلى (من نحن؟) ما الذي يجب ينبغي أن أعمله بوجه عام؟ (إلى كيف نتربط مع بعضنا البعض؟) وليس (ما الذي ينبغي عمله؟) بل (ما الذي حدث؟).

ظل الباحث فترة من الزمن معنياً بدراسة طائفة معروف باسم اليانيينjaihs، وهي أقلية دينية في الهند، وقد أجرى دراسة ميدانية عنهم. والعقيدة اليانية عمرها أكثر من 2400 سنة. وانصب اهتمامه على الطرائق والوسائل التي جعلت تلك العقيدة تحافظ على بعض عناصرها وتسقط بعضها الآخر.

يذهب الباحث إلى أن ثمة جوهراً “مشتركاً” بين تعلم كيف يعمل مجتمع ما، وبين معرفة كيف يغير طريقة عمله. والواقع المحوري في هذا كله هو أن الناس اجتماعيون، أي أنهم موجودون ويعملون في علاقة مع بعضهم البعض. وأن التعليم والعيش المشترك، والعمل على تأسس حياة اجتماعية مشتركة، كل هذا إنما يتم من خلال وعن طريق وفي مواجهة أناس آخرين. إن التعليم والعيش المشترك وتغيير العالم الاجتماعي إنما يجري بين الناس وليس في داخلهم. واستخدم منهج النزعة التبادلية، أي أن الناس متشابكون بعمق مع بعضهم بعضاً، بحيث لا يمكن لنا أن نفهمهم على نحو صحيح، إلا إذا فهمنا كل ما هو في علاقة متداخلة بين الأشخاص. وعلى ذلك يبدو لنا أصغر وأبسط نظام بشري- مثل الأسرة- حسب المنظور التبادلي شيئاً “معقداً” وتكون مهمة الأنثروبولوجي فهم وتحليل واستيعاب هذه الترابطات التبادلية وتفسيرها على أسس علمية صحيحة.

ثم ينتقل الباحث ليدرس اختلاف وجهات النظر بين الأنثروبولوجيا الاجتماعية البريطانية، خاصة مدرسة رادكليف- براون ومقارنتها مع الانثروبوجيا الثقافية الأمريكية. ويدلل على هذا الفارق بدراسة روث بنيديكت (أنماط الثقافة) PATTERNS OF CULTURE وحكت بنيديكت عن حكاية عن بعض الهنود الحمر في كاليفورنيا ولخصت لنا رؤيتها للتنوع الثقافي. فهي قد أضاقت- برأي المؤلف- تعليقات وتفسيرات خاصة، كانت قد استهدفتها وفق خطة تدريجية مبنية لتصل إلى نتيجة: أن كل أسلوب من أساليب الحياة، متكامل مع الحياة وملتحم بها تماما “مثل الكأس له كيانه الواحد الصحيح”. وأكدت أن الثقافة تنصف بالوحدة الشاملة المتكاملة التي لا سبيل إلى ترميمها ورقتها، فالثقافة شأنها شأن الفرد، نمط من الفكر والعمل المتسق مع بعضه بعضا بدرجة أو بأخرى. ويتعين علينا أن نتخيل قوسا “أعظم اصطفت عليه المهام المحتملة، الناجمة سواء عن دورة العمر البشرية أو عن البيئة أو الأنشطة المختلفة للإنسان، التي تتضمن كل جوانب نشاطه. وهكذا فإن القوس الأعظم يتألف من تجارب كثيرة معيشة واستكشاف وانتقاءات كثيرة”. بيد أن كاتبنا يرى أن البشر ما هم إلا حيوانات لها ثقافات، وحيوانات عاقلة ومبدعة وقابلة للتعلم، وهم سلبيون إزاء ثقل وطأة التراث، ومتطابقون معه. ونرى أن البشر أيضا قوة فاعلة، أنهم كذلك حيوانات ذات تاريخ. أنهم حيوانات اجتماعية في الأساس وقادرة على الابتكار، ويحيون في العلاقات بين بعضهم وبعضهم الآخر، وبفضل هذه العلاقات، ولهم استجاباتهم وردود أفعالهم إزاء بعضهم البعض، بغية صنع علاقات جديدة وأشكال جديدة للحياة. وقد وصل إلى هذه النتائج من خلال دراساته الأنثروبولوجية لبعض الشعوب البدائية في الهند لدى قطاعات واسعة في أوساط اليانيين والبوذيين.

وبدهيّ أن النظرة سَتَدَّعِي دراسة بداية التاريخ عند الإنسان، وأصول النشأة الأولى، ويذهب الكاتب إلى الأساس الأول الغامض للطبيعة البشرية ليس مختلفاً جذريا عن الأساس الأول للحيوانات الاجتماعية، وكما يؤكد داروين فان الإنسان بدافع من غطرسته يظن نفسه عملاً فَذًّا فريداً والواقع أنه أكثر تواضعا، وأحسب أنه من الأوفق لنا أن نراه امتدادا لسواه. وهذا الرأي يناقض تماماً الموقف بشان خصخصة الإنسان الاستثنائية، والذي يضرب بجذوره عميقاً في فكر الحضارة الغربة المسيحية. ولكن نظرة داروين تتسق مع ما تذهب إليه التقاليد الأخلاقية العظمى الأخرى مثل البوذية والعقيدة اليانية اللتين تريان أن جميع الكائنات المتمتعة بالحواس، بشرية وحيوانية، موجود على قدم المساواة أخلاقيا، وان اختلفت قدرات كل منها. وبقدر ما تكون قصص تطور الإنسان مدفوعة ليس بما نلقاه مصادفة من عظام وأحجار وسلوك فعلي، بل بما نتلقاه من أفكار، فإنه سيكون من الأفضل أن تلقى مجموعة مختلفة من الأفكار. والشيء اليقيني على نحو ما ندرك الآن أن النتائج الأخلاقية، وكذلك العملية لتصورنا لأنفسنا رفاقاً “للحيوانات الأخرى وللعالم الطبيعي يمكن أن تكون نتائج مفيدة للغاية”.

ولكن كيف يجيب الباحث عن سؤال: كيف أصبح للناس تاريخ وروح اجتماعية؟ ولأجل الإجابة عن هذا السؤال يستعرض بعض أبعاد الروح الاجتماعية وعناصرها مثل الذاتية المشتركة، قراءة الأفكار، الكياسة التربية والمعايير الجمالية، الإبداع والتكرار مع التواصل المطرد، الكلام والحكايات، في مجموعة من المجتمعات المتباينة ليخلص إلى تجميع أجزاء الأنثروبولوجية على أن هذه القدرات التي حلل إليها الروح الاجتماعية البشرية ليست بالضرورة قدرات يتعذر ردها إلى ما هو أبسط منها، كما أنها لا تشتمل على جميع القدرات المميزة للبشر. إن الأدوات الفعلية التي يستخدمها علما النفس و علماء الانثرولوجيا المعرفية اللذين يدرسون سلوك الحيوان والنشوء التكويني ألتطوري لأخلاق الإنسان الاجتماعية، هذه الدراسة يمكنها أن تكشف عن الفوارق بين أنواع الرئيسيات، وهو ما من شأنه أن يفيد فائدة كبرى ويكون أكثر دقة وشمولاً. “ومن وجهة النظر الأنثروبولوجية فإن هذه القدرات تعمل فعلاً” متضافرة مع بعضها بعضا، وأنها تعطي نتيجة موحدة هي القدرة على إبداع أشكال للحياة الاجتماعية والحفاظ عليها وتغييرها، إلا أنه لا يتعرض للمسائل البيولوجية والنفسية، فهو يحول استكشاف دلالات الروح الاجتماعية، بأن يدرس الفكر الروي وكيف صاغ النشاط، معتمداً “على مثال فعلي لفهم الناس لحركة تحول كبرى في الحياة الاجتماعية وطبيعة علم الأنثروبولوجي”. إذا على الرغم من أن علم الأنثروبولوجيا ليس سوى فكرة محددة، لا تتجاوز هامشاً تفسيراً “للروح الاجتماعية”، إلا أنه يعتمد بصورة قاطعة على جانب من جوانب الروح الاجتماعية، أي القدرة على تخيل قصص الآخرين، أولئك الذين لم يكن لدى المرء في بداية الأمر أي رابطة معهم يمكن تخيلها. ويناقش الباحث مسألة القدرات الذهنية على أنها قدرات شديدة التباين. فهو ينظر إليها ضمن هذه السياق بوصفها دوائر متداخلة معا في ذات المجال الذي يسميه الروح الاجتماعية، وذلك على عكس ما نظر إليها علماء النفس على أنها قدرات متمايزة ومنفصلة ومؤلفة من وحدات مستقلة وهكذا، نحن لسنا بحاجة إلى تصور الفكر الروائي بوصفه معصوما “من الخطأ”، أو أنه ينتج روايات تتصف بالصواب القدسي أو الموضوعية المجردة.

إن ما استهدفه الباحث بشأن الفهم الروائي هو أنه يهيئ للبشر إمكانية التفاعل مع المعقد. إنهم فقط بحاجة إلى الاتفاق وإلى أن يفهم أحدهم الآخر، بالقدر الذي يتيح لهم العمل بصورة تنطوي على قدر من المصداقية. ومن ثم الحفاظ على دفق الحركة الاجتماعية. وطبيعي أن سوء الفهم هو الذي يجعل في الغالب الأمور تتحرك بنشاط وقوة. ولقد كان التحدي هو الوصول إلى نظرة عن البشر يبدون فيها شيئا يتجاوز البشر الآليين (الروبوت)، إذ يعملون وفقاً لبرنامج تحدده الثقافة، ويبدون أيضا “شيئاً” دون الكائنات ذات القوة الشاملة والعلم المحيط، ومن ثم يستطيعون بفضل قوتهم وعلمهم أن يصنعوا الشبكة الاجتماعية حسب مشيئتهم. وإنما لا بد أن تكون ثمة مساحة للطابع السببي للأشياء، بحيث تأخذ الأحداث مسارا “لم يقصده شخص بذاته” ووصولاً إلى هذا استخدام الباحث الخيال وقدم تفسيراً من نسج “خيالي قائماً على الخبرة بدلاً من أن يقدم “اثنوجرافيا” والسبب أن التفسير الذي قدمه سمح له بأن يصل إلى زوايا الوعي التي ما كان له أن يصل إليها دون ذلك. ثم يقدم لنا الباحث الحكاية الطريفة حول الثور القديس ومضمونها أن عملا “بطليّاً” وقع منذ مائة عام على يد رجل تزعم القصة أنه طاقات روحية فَذٍّة “لأنه تحمل أن يداس من قبل ثور عظيم ولم يحرك ساكنا” حتى انصرف الثور. هذه الرواية اليانية التي سمعها المؤلف من أفواه أصحاب العقيدة في الهند يرجعها إلى آلاف السنين، منذ النشأة الأولى، ثم يقوم بتقديم التحليلات والتفسيرات الأنثروبولوجية من حيث مكانة الراوي، وهدف القصة، وطرق الحوار، والنبرة الصوتية التي تنطوي عليها، والتوجيه الذي ترمي إليه. ويصف الحركة والأداء عند المؤمن الياني من وراء أدبهم وفلكلورهم العقديّ، أنها قد تحرك الياني “ليصبح ناسكا”، أو ليأخذ عهداً داخل المعبد. والفرق يأتي في نهاية القصة بما أضفته على الأحداث من معان وأسباب حدوثها ثم ما حدث بعد ذلك، وهذا لأن كل ما يحتاج إليه المرء هو أن يعرف ماذا حدث؟ ولماذا حدث؟ وماذا حدث بعد ذلك؟ ولذلك فإن الوعي الروائي له جانب إيجابي وفاعل، وكذا جانب سلبي خامل. إن الناس لا يسعهم فقط إدراك الانفعالات والمواقف من خلالها بل بوسعهم أيضا “أن يجدوا فيها حافزا” للحركة. فالقصص، بعبارة أخرى تحقق عنصر الإرادة والنزوع والخلق مثلما تستوعب المعرفة والعاطفة.

وبعد ذلك يستخدم المؤلف نص “أجانا”، وهو كتاب ديني لأصحاب العقيدة اليانية ظهر – فيما يبدو- قبل بوذا، وينطوي على أسباب تقسيم المجتمع إلى طبقات وفئات، فقد استعان به ليصور التحول والابتكار في حياة البشر، وليوضح كيف يستخدم الناس القصص لابتكار أشكال اجتماعية جديدة. ولكن نص “أجانا” جرى تداوله لغرض مناقض ألا وهو الدفاع بالحجة، من أجل شرح أنماط الثقافة والمجتمع فإن نص “أجانا” هو الأسطورة الجادة غاية الجد للمؤسسة الملكية البوذية. وإن معناه، حسب هذه النظرة في سريلانكا المعاصرة إنما يتجاوز موضوعيّاً “أحداث التاريخ”، كما يتجاوز فوارقها المعترف بها، إذ يظل مثلما كان في الهند القديمة إنه حسب قصة تحكي الأصل المقدس لنشأة الملكية وموافقة بوذا على النظام الملكي، فالأمور من هذا المنظور لم تتغير، إن قراءة متأنية وعن كثب لنص “أجانا” سوف تبين لنا أن النص يقف دليلا ليس على وجود نمط ثقافي ساكن أبدي بشكل ما يردد ذات الأصداء على مر العصور، بل هو دليل على الطابع العام للحياة الاجتماعية، وهو طابع تعددي يتعذر عليه الثبات والتوقف. ويُعيد الباحث جمع خيوطه من جديد، ذاهباً إلى تفسير قابلية البشر للتغير أصعب مما كنا نظن. فنحن لسنا مجرد حيوانات تصوغها مجتمعاتها وثقافاتها في قوالب على نحو سلبي كل في إطاره، بل إننا أيضا نصنع مجتمعاتنا بفعالية ونشاط، ونعيد صياغتها بما نصوغه من أساليب جديده للحياة.

ويستلزم هذا قدرات ذات فعالية وتأثير تثير الإعجاب، ولهذا دفع بتصور مؤداه أننا طورنا تلك القدرات وهي القدرات التي لخصها في عبارة الروح الاجتماعية، وتشتمل هذه القدرات على الذكاء الاجتماعي والوعي المكثف بالذات وبالآخر وبالابتكارية والفكر الروائي. وهذه جميعها تمثل الطبيعة البشرية المشتركة التي تشكل أساسا لقابلية التغير الاجتماعي والثقافي. وفَصَّل في هذه القدرات ودلالاتها. أعطى أولوية وأسبقية للفكر الروائي لأنه لم يحظ بدراسة كافية من حيث هو، يوجز الروح الاجتماعية البشرية على النحو الذي يتيح الناس إمكانية العمل وهم على وعي بفيض الأحداث الغارقين فيها.

وأوضح كيف أن عالمنا الاجتماعي ومعارفنا بالعالم الاجتماعي في تفاعل شامل.وأبرز كذلك الطبيعة التحويلية للخبرة البشرية، أو ما لدينا من خصوبة إبداعية فريدة تميز الأشكال الاجتماعية وكيف أنها وثيقة الصلة بهذه الخاصية التفاعلية. وهكذا عالج الباحث ولو بطريقة تخطيطية عادة مساحة كبيرة من دائرة المسائل التي تؤلف في مجموعها، مشكلة علم الأنثروبولوجيا والبشرية من حيث هي وحدة في تنوع.

وهنا يبرز السؤال: ما هي طبيعة المعارف التي ينتجها الأنثروبولوجيون من خلال اللقاءات؟ لقد أشر الدارس على سبيل المثال إلى أن الرهبان البوذيين لهم ونتاجهم الجمعي ممثلا في آدابهم المقدسة، التي أتيحت واعتمدت داخل مؤسسة اجتماعية مميزة وفقا لمعايير خاصة. فهل الأنثروبولوجيا علم أم فن؟ ويقترح الباحث أن نفرض شروطاً على المعارف الجديدة تتجاوب مع المنهج العلمي على قدر الإمكان، إذ يتعين بالضرورة أن تتلاءم نظريتنا العلمية مع نظرة أكثر تجريدا عن المجتمعات البشرية، كما يلزم أن تكون قابلة للتصحيح أو يمكن إثبات زيفها. ويخلط بعض الباحثين الأنثروبولوجيين بين المعارف وبين المهارة الأدبية التي لا تهدف إلى الإبهام، بل إلى التوضيح ومع هذا فإن المعارف الأنثروبولوجية التي جرى إبداعها على هذا النحو، إذا لم تكتب لتحفظ روحها الباعثة للحياة في المعارف الشخصية بين الأنثروبولوجيين فإنها لن تكون أبدا “علما” ومعرفة بل تخيلاً “ووهماً “ونمطاً” من الفن.

إن البحث الأنثروبولوجي يمكن أن ينجز تحولاً، وأن يعمق من الفهم المتبادل بين الناس. وهذا أحد الاستخدامات الواضحة للجهود المضنية في مجال العمل الميداني والكتابة، ولكن كيف لنا أن نقيِّم هذا كله؟

ويجيب من خلال إشاعة التعلم، واكتساب الآخرين عادات وأعرافاً جديدة. ويمكن للأنثروبولوجيا أن يكون نافعاً “ومفيداً” في اكتشاف خصائص وعلوم المجتمعات، خاصة في الأنثروبولوجيا التطبيقية لتقديم المساعدات والخدمات والارتقاء الاجتماعي. وهناك فوائد أخرى مثل إعلام الناس كيف ينجزون حياة ناجحة وسعيدة. ومن الواضح أن الكتاب عبارة من دراسة منهجية جادة ورائدة في مجال الأنثروبولوجيا والثقافة الاجتماعية. ويلتزم المؤلف مايكل كاريذرس منهج بحث علميا “جديداً” هو المنهج التفكيكي، إحدى ثمار نزعة ما بعد الحداثة. ويمثل الكتاب إجابة تتسم بالعمق والأصالة عن سؤال محوري: لماذا أنتج أو ابتكر البشر هذه الصور الكثيرة المتنوعة والمتباينة من أساليب الحياة أي الثقافة؟ ويجيب الكتاب أيضاً عن ثلاثة أسئلة أساسية: ما هي الوحدة الإنسانية وراء هذا التنوع الثقافي؟وما هي الجذور التي نشأ عنها هذا التنوع؟ وكيف لنا أن نفهم هذا كله؟ ويؤكد المؤلف أن سبل البشر في التفاعل مع بعضهم بعضا هي العنصر الأهم والحاسم في تاريخ البشرية.

ويأتي هذا العامل في نظره قبل عامل التقدم التقني في تاريخ المجتمعات، إن قدرة البشر على التفاعل اجتماعيا سواء على المستوى الفردي أو الجمعي، هي الدافع والمحرك الأول لاطراد عملية الابتكار الاجتماعي. ويتميز الذكاء الاجتماعي بقدرة بارعة على التخيل، وبطبيعة مرنة للغاية، وهذه هي الصفات التي أهلته لابتكار الشبكة الواسعة والمعقدة من الثقافات المختلفة والمجتمعات القائمة التي أنتجت كل منها تاريخها المميز.

ويعتمد المؤلف على دراسات ميدانية واستنتاجات نظرية، ركيزتها تأمل ونظرة ثاقبة في ثقافات قديمة وحديثة، ويستشهد بها مصداقاً لرؤيته بعد عرضها وتحليها ويؤكد بمنهجية البحثي وبالنتائج التي توصل إليها، أنه التزم منهجا علميا شديدا، ومنظورا صائبا في دراسته للثقافة الاجتماعية وللمجتمع في التاريخ. ويخلص إلى نتيجة هي أن من اللازم لكي نفهم أنفسنا أن نتأمل ونبحث علميّاً “المجتمعات في علاقاتها ونظام تفاعلها، قبل أن نبحث دور التكنولوجيا. ويعد المؤلف مايكل كاريذر” عالماً مجلا في مجال اختصاصه، وهو الأنثروبولوجيا وله دراسات عديدة، نظرية وميدانية في الأنثروبولوجيا، طبق مناهج البحث العلمي الحديثة. تهتم أبحاثه بمجالات عدة، منها سيريلانكا، الهند، العقيدة البوذية، العقيدة اليانية، تطور ذكاء الإنسان. ورغم الدقة العلمية التي عالج بها كتابه، واعتماده على الكثير من الشواهد والأبحاث النظرية والعلمية والذاتية، إلا أن منهجه وهو المنهج التفكيكي لم تثبت صلاحيته العلمية بشكل دقيق، ذلك أنه ينطوي على بعض العناصر النظرية والتأملية والذاتية في المجتمعات والقبائل والعقائد المدروسة. فهو يحلل الروايات والقصص والحكايات والقيم على أسس جديدة، تجانب في بعضها الصواب والصحة لتغليب منهجه التفكيكي ما بعد الحداثي. وبدا المنهج في الكتاب وكأنه يسير الهوينى وكأنما أصابه العرج، فمرة يتكئ على علم النفس، ومرة ثانية يتمسك بعلم الاجتماع، وثالثة يرتمي على كشوف الإنثوجرافيا، ورابعة يتوسل بعلم البيولوجيا، طالباً العون من داروين وسواه. ولكن ذلك لم يقلل من الأثر العلمي الواضح، وخاصة شواهد الكاتب الذاتية، وتحليلاته العميقة عن العقائد والأديان الهندية القديمة، أما المترجم الأستاذ “شوقي جلال” فقد قدم ترجمة صادقة وأمينة وسلسة، رغم صعوبة الموضوع والمنهج ووعورة بعض الألفاظ والتراكيب، قادته لنحت معجم أنثروبولوجي في نهاية الكتاب، ويسد هذا الكتاب حاجة ملحة وضرورية للمكتبة الأنثروبولوجية والاجتماعية والنفسية العربية.

لماذا ينفرد الانسان بالثقافة
Exit mobile version