موقع أرنتروبوس

كتاب “الهبة” لمارسيل موس

خليل السعدانيكلية الآداب والعلوم الإنسانية

الدار البيضاء/ ابن مسيك

لتحميل الكتاب إضغط على صورة الغلاف

Marcel Mauss, « Essai sur le don. Forme et raison de l’échange dans les sociétés archaïques », in Sociologie et anthropologie, Paris, PUF, 1950 Extrait de L’Année sociologique, seconde série, t. 1, 1923-4

شكلت الهبة إحدى القضايا الكبرى التي أنارت أعمال باحثين كبار في حقل الأنثروبولوجيا. وكان مارسيل موس ( (Marcel Mauss من بين الأوائل الذين اهتموا بمكانتها داخل المجتمعات الإنسانية في مقالة اعتبرها كلود ليفي- شتراوس (Claude Lévi-Strauss) أفضل أعماله. وتتمثل قيمة بحث موس في كونه يسعى إلى الإحاطة بهذه الظاهرة عبر مجالات ثقافية متباينة وخلال أزمنة متباعدة، خلافا للباحثين الأنثروبولوجيين الذين يرتبطون بالدراسة الميدانية، ليخلص إلى صياغة رؤية شمولية لا تقتصر على بعد واحد ومنعزل. فالهبة تمكن من الإحاطة بالظاهرة الاجتماعية الكلية التي ينبغي أن تصبح مبتغى كل الأبحاث السوسيولوجية.

يقول موس في مستهل مقالته : “تتم التبادلات والتعاقدات داخل الحضارة الإسكندنافية وعدد هام من الحضارات على شكل هدايا، نظريا بطريقة اختيارية، ولكنها في حقيقة الأمر إلزامية”. ثم يطرح تساؤلا رئيسا: “ما هي القاعدة، المبنية على الحق والمصلحة، التي تلزم برد الهدية المتسلمة لدى المجتمعات ذات النمط المتخلف أو البدائي؟ ما هي القوة الكامنة داخل الشيء الموهوب، والتي تجعل الموهوب له يرده؟ “بصيغة أخرى يريد موس أن يفهم الدوافع التي تجعل الناس في كثير من المجتمعات ملزمين ليس فقط بالوهب، ولكن كذلك بقبول الهبة والرد عليها. وتدخل هذه التساؤلات في سياق مشروع ضخم يحاول فهم آليات المعاملات الاقتصادية والتبادل داخل المجتمعات “البدائية” و”المتخلفة”1. ولا يخص هذا التبادل الأشياء المادية من عقارات ومنقولات فقط، بل يمتد إلى تبادل التقدير والاحترام والولائم والطقوس، والخدمات العسكرية والنساء والأطفال والشتائم والانتقامات. وينبغي على كل شخص أن يكون جوادا في منح الخير أو الشر2.

ويخلص موس إلى أن الهبة تمثل ترابطا لالتزامات ثلاثة: هي العطاء وقبول العطاء والرد عليه بإعادة الغرض نفسه أو ما يوازيه أو ما هو أثمن منه. وهذه الالتزامات المتحدة والمترابطة تدفع الهبات، أشياء كانت أم أشخاصا، إن عاجلا أو آجلا إلى العودة إلى نقطة بدايتها. كما يرى أن الأشياء الممنوحة ترتبط بالأشخاص المانحين، بل يمكن اعتبارها امتدادا لهم. وتنشأ نتيجة لذلك علاقة مزدوجة بين المانح والمتلقي: علاقة تكافل وتضامن لأن الأول يتقاسم ما يملكه مع الثاني، وعلاقة تفوق وتمايز لأن المتلقي يصبح مدينا للواهب حتى يمنح الأول من جانبه هبة في وقت لاحق. وقد تنشأ تراتبية بين الواهب والموهوب له حتى وإن كانت العلاقات متكافئة قبل ذلك. أما إذا كانت التراتبية قائمة، فيأتي الوهب كتعبير عنها وتكريس لها. وبصيغة أخرى تخلق الهبة في ذات الوقت تقاربا وتباعدا بين الواهب والموهوب له، فهي تجمع متضادين: السخاء والإكراه3.

وقد تساءل موس عن سبب ارتباط بعض المجتمعات باقتصاد الهبة. وكانت الإجابة ذات أبعاد ثلاثة: أولا دور العلاقات الشخصية في بلورة العلاقات الاجتماعية. ثانيا تأمين العلاقات الاجتماعية لمصلحة الأفراد والجماعات حتى يتكاثروا ويعيدوا إنتاج العلاقات ويظهروا بمظهر المترفع. ثالثا اعتبار أن ما يلزم بالوهب كون الوهب ملزما “Ce qui oblige à donner est précisément que donner oblige” فهذه الشروط الثلاثة تفسر أسباب الهبة. وإذا كان هذا المفكر الفرنسي قد نجح في تفسير الأسباب الداعية إلى تقديم الهبات، فإنه لم يكن مقنعا في توضيح دواعي إعادتها. وبعد تمحيص أوضح أن الأشياء الموهوبة تمتلك روحا تدفعها في النهاية للعودة إلى الواهب. يقول: “يتضمن هذا الصنف من القانون والاقتصاد مواضيع مختلفة، قوانين كانت أو أفكارا. وأهم هذه الآليات الروحية هي بالطبع تلك التي تلزم بإعادة الهدية الممنوحة. ويظهر السبب الأخلاقي والديني لهذا الإكراه بشكل جلي في بولينيزيا. لندرسها حتى يتبين لنا طبيعة القوة التي تدفع إلى رد الشيء المتسلم، وإلى تنفيذ العقود بشكل عام4.” ذلك أن الثقافة البولينيزية كانت تحتوي على مفهومين هما الهاو (hau) والمانا (mana)استقاهما موس من الحكيم تماتي رانايبيري (Tamati Ranaipiri) المنتمي إلى شعب الماوري (maori) . فالشيء الموهوب ليس جامدا، ودون حياة. فهو يحتفظ بشيء من المانح يؤثر من خلاله في الموهوب له. لذلك يسعى الهاو دوما إلى العودة إلى مكان ولادته في الغابة والعشيرة ولدى مالكه الأصلي على وجه الخصوص. ويعزز موس ادعاءه باستحضار أنموذج البوتلاتش، ذلك أن الهبات في هذا الصنف من التبادل تتحرك بشكل دائري لتعود إلى نقطة بدايتها5.

البوتلاتش

وحتى يجعل من الهبة صنفا سوسيولوجيا عاما، اعتمد موس على أعمال فرانز بواس،(Franz Boaz) أب الأنثروبولوجية الأمريكية ورائد المدرسة الانتشارية، حول هنود شمال غرب أمريكا، وأبحاث برونسلاف مالينوفسكي (Bronislav Manilowski) والمتعلقة بمجتمعات غينيا الجديدة بالمحيط الهادي. وقد وقف بواس عند ظاهرة البوتلاتش (potlatch) لدى هنود ما يعرف بكولومبيا البريطانية غرب كندا الحالي في نهاية القرن التاسع عشر، ونجح في أن يجعل منها مفهوما محوريا داخل الأنثروبولوجيا. كانت القبائل الغنية بالمنطقة قد اعتادت على التعايش مع السكان ذوي الأصول الأوربية، فكانت تبيعهم الفرو. وكانت تعتمد في معيشتها خلال فصل الصيف على القنص والصيد والتجارة والالتقاط، فيما تلجأ في الخريف إلى ممارسة البوتلاتش أثناء احتفالات ممتدة عبر فترات طويلة وطقوس خاصة. وترتبط هذه الظاهرة ارتباطا وثيقا بالسياسة والسلطة، لأنها تعتبر مجال نزاع بين زعماء القبائل. فعلى الزعيم أن يظهر كرمه وسخاءه عبر إغداق الأكل وأشياء ثمينة أخرى، خاصة النحاسيات والأغطية الجميلة النفيسة. إن الوضع يشبه لعبة يكون الرابح فيها هو من يخسر، أي من يعطي ويمنح من غير تردد. فنحن إذن أمام أداءات كاملة ذات طبيعة لاأدرية (agnostique) وليس أمام هبات وهبات مضادة متكافئة. وتبلغ الظاهرة ذروتها عند قبائل الكواكيوتيل (Kwakiutl) حيث يلجأ الزعيم إلى إتلاف كل ممتلكاته الثمينة، فيحرق منازله ويرمي بالآلاف الأغطية في المياه أمام عموم الحاضرين ليؤكد رفعته وتفوقه على بقية خصومه. ما يعني أن الشخص يعطي لكي يحطم ويدمر منافسه، ويجعله في وضعية يصعب أو يستحيل عليه فيها أن يرد بشكل مماثل، أو بحجم يفوق ما أخذ. فالبوتلاتش لا يعدو أن يكون منافسة حادة تؤول في نهاية المطاف إلى التدمير التفاخري للثروات. وفي هذا السياق تتعاقد العشيرة فيما بينها وتمنح كل ما تكسب لزعيمها6: “لا يتعلق الأمر في بعض الحالات بالوهب والرد، بل بالتدمير وذلك بعدم إرادة حتى في إظهار الرغبة في الحصول على الرد من الموهوب له. ويتم إحراق صناديق من زيت سمك الشمعة (poisson chandelle) وزيت الحوت، ويتم إحراق المنازل وآلاف الأغطية، ويتم تحطيم أغلى النحاسيات، وترمى في الماء قصد سحق وإذلال المنافس. ولا ترقى، بهذه الطريقة، مكانة المرء نفسه فحسب في السلم الاجتماعي، بل مكانة أسرته أيضا7.”

ولا ينحصر الربح المكتسب من البوتلاتش في ما هو رمزي. ذلك أن الوضع السياسي للأفراد داخل القبائل والمكانة المكتسبة ترتبط بالصراعات من أجل الملكية عن طريق ما يتم إنجازه أثناء الحروب والقنص، وما يتم تحصيله عن طريق الإرث والتحالف والزيجات التي لا تكتسب إلا أثناء البوتلاتش الممنوح والمأخوذ. ذلك أنه يتم كسب وضياع كل هذه الامتيازات أثناء هذه الطقوس كما في الحروب وأثناء اللعب والتسابق والصراعات: “يتم الحصول على المنزلة السياسية للأفراد داخل الأخويات والعشائر، وكذا المراتب على اختلاف أنواعها عن طريق صراع الملكية كما بالحرب، أو عن طريق الحظ أو التحالف والزواج. ويتم تمثل كل شيء كما لو كان صراعا من أجل الثروة. فلا يتم تحقيق زواج الأطفال والحصول على مقعد في الأخويات إلا خلال البوتلاتش المتبادل والمعاد8.” ويتضمن البوتلاتش عنصرين هامين: مفهوم القرض والكرامة. ذلك أنه على من يأخذ الهبة ألا يعيد من جهته هبة مضادة في حينه، بل عليه أن يتريث، وإلا أصبح الأمر متعلقا بمقايضة، وهذه لا تدخل في إطار المبادلات النبيلة. فالرد السريع يحيل على عدم القدرة على تحمل الدين وربط علاقات اجتماعية وطيدة عن طريق إظهار الكرم. وتصل نسبة الفائدة في الهبة المعادة حسب بواس إلى ما بين 30 و 100 %، وعدم الوفاء يعاقب عليه بالعبودية. كما أن كرامة الشخص وقيمته الاعتبارية داخل المجتمع ترتبط بمدى قدرته على تحمل الدين، وتحويل المدين إلى دائن9. ومجمل القول إن غاية البوتلاتش هي القدرة على الوهب أكثر من المنافسين لاكتساب مكانة رفيعة: “لكن الدافع لهذه الهبات وهذا الاستهلاك المحتد وهذا الضياع والتدمير المجنون للثروات، ليس على أي مسألة لامبالاة. إذ يتم وضع هرمية بين الزعماء والأتباع، وبين الأتباع والموالين. فالوهب يعني إبراز الرفعة والسمو، إنه السيادة، بينما قبول الهبة دون إعادتها أو إعادة ما هو أغلى منها فيعني الخضوع والتحول إلى زبون وخادم والتصاغر والاندحار، أي الخدمة10.”

وفي نهاية القرن التاسع عشر تم منع ممارسة البوتلاتش من طرف السلطات الكندية، لكن بواس دافع عن هذه الظاهرة أمام منتقديها، وأوضح أن الأمر لا يختلف عن القرض البنكي، أي أن الزعيم وهو يحرق ممتلكاته يقوم بنوع من الاستثمار الذي سيعود عليه بالربح لاحقا. وبذلك وضع أسس النسبية الثقافية. ذلك أنه علينا أن نفهم منطق البوتلاتش كما يفهمه الهنود أنفسهم لا كما نفهمه نحن. إن الحديث عن نسبية الثقافات والدفاع عن ظاهرة البوتلاتش شكل ركيزة لضرب الفلسفة التطورية التي تنبني عليها المركزية الغربية، وكذا الأنثروبولوجية التطورية التي كان ينادي بها مكتب الإثنولوجيا الأمريكية (Bureau of American Ethnology) ، والذي كان يديره جون ويسلي باول (John Wesley Powel)11.

الكـــــــــــــــولا

شكل نظام الكولا (kula) الأنموذج الثاني الذي بنى عليه موس نظريته. وينتشر هذا الصنف من الهبة الدائرية لدى قاطني جزر تروبريان (Trobriand) شمال شرق غينيا الجديدة بالمحيط الهادي. وقد اعتمد موس في هذه الدراسة على أبحاث مالينوفسكي خاصة مؤلف Argonauts of Western Pacific الصادر سنة 1922، وأشاد بها لأنها وضعت أسس البحث الميداني. فمعلوم أن الأنثربولوجيين كانوا يكتفون بالاعتماد في السابق على المعطيات المستقاة من كتابات الرحالة ورجال الدين. لذلك اعتبر موس مؤلفه أحد أفضل كتب علم الاجتماع الوصفي. وتختلف الكولا عن البوتلاتش بسبب طابعها السلمي، لكن تتشابه معه في كونها ترتكز على مفهومي القرض والشرف، وتخص الزعماء، وتخدم سمعة الواهبين، وتتخذ أشكالا احتفالية. يقول موس: “الكولا هو نوع من البوتلاتش الكبير. وهو يحرك تجارة ضخمة بين القبائل، ويمتد على طول جزر تروبريان، وعلى جزء من جزر أنتروكاستو(Îles d’Entrecasteaux) وجزر أمفليت (Îles Amphlett). ويهم داخل هذه الأراضي وبشكل غير مباشر كل القبائل، وبشكل مباشر بعض القبائل الكبرى. ولا يعطي السيد مالينوفسكي ترجمة للكلمة التي تعني دون شك دائرة وتتسم تجارة الكولا بطبعها النبيل. ويبدو أنها مخصصة في نفس الوقت للزعماء، سواء تعلق الأمر بزعماء الأساطيل والزوارق12” لكن طرأت على هذا النظام تغييرات عدة عقب اتصال أهالي تروبريان بالأوربيين. وكان نظام الكولا يتعايش مع أصناف أخرى من التبادل، كتبادل الهبات والهبات المضادة المرتبطة بالزواج والدفن، ما يعني أنه كان يمثل استثناء. وتشكل المشاركة في الكولا قمة اهتمامات الساكنة، لأنه بفضلها يتم ربط علاقات صداقة واكتساب سمعة وصيت عال13.

كيف تتم عملية الكولا؟ تنطلق مجموعة من الرجال تحت إمرة زعيم الرحلة من الجزيرة (أ) نحو الجزيرة (ب)، حاملين في قواربهم أشياء ليست ذات قيمة مكونة من مصنوعات زجاجية ومشحونات مجانية، تمثل أشبه ما يكون بطعم. وعقب الوصول يلتقي كل فرد مع شريكه القديم في التبادل أو يبحث عن شركاء جدد عبر تقديم هدايا بسيطة. وعند قبولها يقدم الشخص المنتمي للجزيرة (ب) هبة ثمينة. وهكذا يتم ربط علاقة جديدة. ثم يتجه بعد ذلك رجال الجزيرة (أ) نحو الجزيرة (ج) وبعد ذلك (د)…. ويعودون محملين في النهاية بهبات نفيسة. وبعد بضعة أشهر أو سنة سيقوم سكان الجزيرة (ب) بنفس الرحلة، ويتبعهم سكان بقية الجزر14. ويشير مالينوفسكي أن أي زعيم من تروبريان يتمكن بهذه الطريقة من ربط حوالي 200 علاقة صداقة. وتعتبر الفايغوا (vaygu’a) أي الأساور وعقود الصدف أهم عنصر في عملية التبادل والهبات. وتنتقل الأساور (موالي mwali) من الغرب إلى الشرق، والعقود (سولافا soulava ) من الشرق إلى الغرب. ولا يمكن مبادلة سوار بسوار ولا عقد بعقد، بل يعطى السوار عوضا عن العقد. ويوضح موس أن الفايغوا تمتلك جنسا، فالعقود مذكرة والأساور مؤنثة، لذا يميل كل منها نحو الآخر بشكل يشبه التزاوج. ويرى موس أن للفايغوا، على غرار النحاسيات في البوتلاتش، اسما وشخصية وتاريخا. كما أن لها مشاعر تدفعها إلى العودة إلى موطنها الأصلي15. ولا ترتبط قيمة الهبات بحجمها فقط وبطبيعة المواد التي صنعت منها، ولكن كذلك بقوة ووجاهة مالكيها القدامى. لذلك نجد هناك فرقا بين القيمة الرمزية والقيمة النفعية للشيء. وكانت مجتمعات الكولا تسعى إلى إنتاج علاقات قرابة بغية الوصول إلى السلطة. ولم تكن الصراعات تخص الرجال وحدهم، بل النساء أيضا16.

الانتقادات الموجهة لمقالة موس

أوضح كلود ليفي- شترواس أن قيمة أعمال مارسيل موس تتمثل في كونه فتح بابا جديدا في وجه العلوم الإنسانية، ومكنها من التعالي على الملاحظة التجريبية (observation empirique) من أجل الوصول إلى حقائق أكثر عمقا، وترك المعطيات المحسوسة وضبط نظام ونسق العلاقات. ولكن في الوقت الذي كان فيه على وشك الكشف عن العناصر الأساسية المكونة للحقيقة الاجتماعية زاغ عن الطريق. ذلك أن موس ارتكب خطأ من خلال محاولته تفسير السبب الداعي إلى إعادة الهبة اعتمادا على البعد الديني، وذلك بالقول إن الهاو يمتلك روحا يدفع من يحصل عليه إلى إعادته. فلو كان موس أكثر تأنيا لفهم أن التبادل هو العنصر الأساس للظواهر التي كان يدرسها. فمنح الهبة وقبولها والرد عليها يمثل حقيقة واحدة هي التبادل. وحسب ليفي- شترواس فإن كل ما هو اجتماعي هو عبارة عن تبادل أو مجموعة من التبادلات : تبادل النساء (القرابة) والأشياء (الاقتصاد) والكلمات (الثقافة)، والتي ينبغي البحث عن أصولها في البنيات اللاواعية للروح17.

وأوضح كثير من الأنثروبولوجيين أن موس لم يستوعب الدلالة الحقيقية لمفهوم الهاو في نص الحكيم تماتي رانايبيري. فيرى ريمون فورث (Raymond Firth) أنه لا يوجد في النص ما يوحي أن الهاو يسعى إلى العودة إلى الواهب. ويشك الباحث بريتز يوهانسن (Prytz Johansen) في أن رانايبيري فكر في بعد روحي حين درس هاو الهبات. فالهاو لا يعدو أن يكون هبة مضادة. أما مارشال سالينز (Marshall Sahlins) فيرى أن قبائل الماوري سعت إلى تفسير مفهوم ديني عبر مفهوم اقتصادي، فيما قام موس بالعكس. وحاولت آنيت فاينير(Annette Weiner) أن تعطي إجابات عن أسئلة مرتبطة بالكولا ظلت مطروحة دون جواب من طرف مالينوفسكي وموس. فهناك أشياء يمكن في ذات الوقت الحفاظ عليها رغم منحها. لكن هناك أخرى لا يمكن التصرف فيها وهي غير قابلة للوهب كالأشياء المقدسة. لذلك لا يمكن ضبط ومقاربة البعد الاجتماعي عن طريق الهبات والهبات المضادة، لأن هناك أشياء ينبغي الاحتفاظ بها. وأضافت أن النساء تنعم داخل بعض المجتمعات بسلطات كبرى فيما يخص إضفاء المشروعية وإعادة توزيع السلطة السياسية والدينية بين مكونات المجتمع. فبعض الأشياء الثمينة المتداولة في إطار الهبات داخل المجتمعات البولينيزية يتم صنعها من طرف النساء، لذلك تمتلك هذه الأخيرة حقا عليها18.

ولم يسلم موس ذو التوجه الاشتراكي من السقوط في حبائل المركزية الأوربية وبعض المفارقات وقام بلي عنق النصوص. ففي مقاربته لظاهرة البوتلاتش نراه يستعمل مصطلحات مستقاة من التاريخ الأوربي، كالإقطاع والأمراء والتابعين والفرسان والطبقات الاجتماعية. كما أن البوتلاتش الذي أراد أن يجعل منه مفهوما هاما داخل الأنثروبولوجيا، أصبح جنونيا وعدوانيا بشكل غير طبيعي في بداية القرن العشرين، نتيجة احتكاك مجتمعات هنود شمال غرب أمريكا بالأوربيين. ما يعني أن البوتلاتش الذي درسه بواس مشوه، وأنه أغفل السياق التاريخي للظاهرة19.

الظاهرة الاجتماعية الكلية

بعيدا عن موضوع الهبة، تستمد أبحاث مارسيل موس قيمتها من بلورته لمفهوم الظاهرة الاجتماعية الكلية، وهو مفهوم استمده من أعمال إيميل دوركايم (Emile Durkheim) ، لكن كان موس هو من وضحه وبينه من خلال دراسته لأنموذجي البوتلاتش والكولا. ويشير ليفي- شترواس إلى أن المفهوم يمثل خيطا ناظما يربط كل أعمال موس، ذلك أن همه الأساس كان هو تمثل ما هو اجتماعي كحقيقة. وهذه الحقيقة لا تصبح كذلك إلا إذا تم دمجها في منظومة. فليست الظاهرة الكلية مجرد تجميع لمظاهر مختلفة للحياة الاجتماعية ومؤسساتها، ولكن التمكن من تجسيدها في تجربة فردية. وفي ختام بحثه حول الهبة أوضح موس أن: “الظواهر التي درسناها هي كلها، هذا إن سمح لي باستعمال العبارة، ظواهر اجتماعية كلية، ونحبذ بشكل أقل عامة: أي أنها تحرك في بعض الحالات مجموع المجتمع ومؤسساته… فكل هذه الظواهر هي في نفس الوقت قانونية واقتصادية وحتى جمالية ومورفولوجية، إلخ… إنها أكثر من مجرد مواضيع، أكثر من مجرد عناصر لمؤسسات، أكثر من مجرد مؤسسات معقدة، أكثر من مجرد نسق لمؤسسات مقسمة على سبيل المثال إلى دين وقانون واقتصاد إلخ. إنها “كليات”، أنساق اجتماعية كاملة حاولنا أن نصف كيف تعمل20.”

ويرى موس أن هذه المقاربة للظاهرة الاجتماعية في كليتها تفيد على مستويين: فمن جهة يمكن أن تصبح هذه الظواهر عامة على خلاف المؤسسات التي تتميز بطابعها العرضي والطارئ والمحلي. كما أنها من جهة ثانية تتميز بطابعها الواقعي والمحسوس، وتتمثل وتدرك الأفراد والمجموعات داخل أوساطهم. كما أننا نرى الفعل الاجتماعي كما هو في الواقع. وقد دعا موس في هذا السياق إلى الاستفادة من المؤرخين الذين يدرسون قضايا ملموسة ومحسوسة، ويأخذون على علماء الاجتماع إفراطهم في التنظير وفي الفصل بين العناصر المكونة للمجتمع. لذا يجب أن تصبح الغاية من الدراسة هي ملاحظة المجموعة وكيفية تصرفها بشكل كامل21. ويرى ليفي- شتراوس أن الظاهرة الاجتماعية الكلية، كما وضعها موس، تقود إلى ضرورة تمثل الحقيقة الاجتماعية من خلال إدماجها في نسق (système). من جهة ثانية لا يمكن تمثل الظاهرة الكلية إلا من خلال تجربة فردية. ما يعني أنه ينبغي على هذه الظاهرة أن تطابق البعد السوسيولوجي التزامني والبعد التاريخي التعاقبي والبعد الفيزيولوجي- النفسي. وتقتضي أخيرا الظاهرة الاجتماعية الكلية ترابط البعدين الفردي والاجتماعي22.

وكما استفاد موس من التاريخ الذي يسعى إلى دراسة ما هو ملموس، فقد أفادت أبحاثه جمهور المؤرخين في مسعاهم لتجديد مقارباتهم ومناهجهم. لقد كانت كتابة التاريخ الشامل (histoire globale) أحد غايات مدرسة الحوليات. وقد تعددت الاقتراحات في هذا السياق، ومن ضمنها الارتباط بالظاهرة الاجتماعية الكلية عبر مقاربة ظاهرة اجتماعية خاصة تحيلنا في النهاية على مجموع المنظومة وتكشف عن بنياتها العميقة.

الهوامش:

1. M. Mauss, “Essai sur le don, forme et raison de l’échange dans les sociétés archaïques”, in Sociologie et Anthropologie, PUF, Quadrige, 1989, 3e édition, p. 147-8.

2. M. Mauss, “Essai sur le don…, p. 151.

3. Maurice Godelier, L’énigme du don, Paris, Fayard, 1996, p. 20-4.

4. Ibid., p. 25 ; M. Mauss, “Essai sur le don…, p. 153.

5. M. Mauss, “Essai sur le don…, p. 158-60.

6. Jacques T. Godbout en collaboration avec Alain Caillé, L’esprit du don, Paris, Edition de la Découverte, 1992, p. 19-20, 23, 25-6, 147-8 ; M. Godelier, L’énigme du don…, p. 80.

7. M. Mauss, “Essai sur le don…, p. 201-2.

8. Ibid., p. 200-1 ; M. Godelier, L’énigme du don…, p. 80.

9. M. Mauss, “Essai sur le don…, p. 200, 212 ; J. T. Godbout en collaboration avec A. Caillé, L’esprit du don…, p. 150.

10. M. Mauss, “Essai sur le don…, p. 269-70.

11. J. Marie Mauzé, “L’invention du potlatch”, in Le Nouveau Monde. Mondes Nouveaux. L’expérience américaine, sous la direction de Serge Gruzinski et Nathan Wachtel, Paris, Editions de recherche sur les Civilisations, Editions de l’EHESS, 1996, p. 699-702 ; Philip Drucker, “The potlatch”, in Tribal and Peasant Economies. Readings in Economic Anthropology, edited by George Dalton, New York, the Natural History Press, 1997, p. 481 ; Franz Boas, The Mind of Primitive Man, New York, Macmillan, 1911.

12. M. Mauss, “Essai sur le don…, p. 175-6.

13. Ibid., pp. 175.

14. J. T. Godbout en collaboration avec A. Caillé, L’esprit du don…, p. 152

Exit mobile version