الكتاب: المخيال العربي الإسلامي
المؤلف: مالك شبل
الناشر: باريس: المنشورات الجامعية الفرنسية بباريس، 1993، (388 صفحة).
مؤلف هذا الكتاب باحث في علم الأنثروبولوجيا المتأثر بمنهج التحليل النفسي ورؤيته في فهم سلوك الإنسان وتفسيره فرداً وجماعةً. يتكون الكتاب من خمسة فصول، هي:
1. المخيال الاجتماعي والسياسي.
2. المخيال الديني.
3. مخيال العالم والخلق.
4. المخيال الجمالي (الفني).
5. مخيال الجنس والحب.
وكما نرى، فإن كلمة المخيال يأتي ذكرها في عناوين فصول الكتاب الخمسة. وفي ذلك إشارة إلى أن المؤلف يركز كل اهتمامه على دراسة مفهوم المخيال العربي الإسلامي مظاهره وتجلياته. ومن الجدير بالملاحظة أن مصطلح المخيال L’Imaginatire) ) لا نكاد نجد له استعمالاً في العلوم الاجتماعية والإنسانية الأنجلوسكسونية، في حين استعمل بنحو واسع في الثقافة الفرنسية للعلوم الاجتماعية والإنسانية. وليس في هذا الأمر غرابة. إذ إن مفردة المخيال L’Imaginatire)) قد ولدت على أيدي عالم التحليل النفسي الفرنسي جاك لاكان (Jacques Lacan) في منتصف هذا القرن، وقد استعملت الأنثروبولوجيا الفرنسية مفهوم المخيال الجماعي فعرفته على النحو الآتي: “المخيال الجماعي هو مجموعة من التمثلات (Representations) الأسطورية للمجتمع”.
لا يمدنا المؤلف في الصفحات الأولى من كتابه بتعريف جاهز وواضح لمفهوم المخيال العربية الإسلامي، وإنما نجده يتحدث عن مفهوم المخيال باعتباره رؤية جامعية يكتسبها شعب من الشعوب أثناء تفاعله مع محيطه القريب والبعيد، من جهة، ومن تفاعل العناصر المكونة لهذا المحيط مع بعضها البعض، من جهة أخرى. فالمخيال هو الإطار الجماعي الذي يوجه ويحدد طبيعة مسيرة المجتمعات وحضاراتها، كما يحدد ما يُسمّى في العلوم الاجتماعية بالشخصية القاعدية (Basic Personality) مسار الفرد وسلوكه. ومن هذا المنطق فالمخيال العربي الإسلامي نتيجةٌٌ لتراكم تجارب عديدة عرفتها شعوب العالم العربي الإسلامي. ويعترف المؤلف بأن مجيء الدعوة الإسلامية في القرن السابع الميلادي قد حدد معالم المخيال العربي الإسلامي، حيث يقول: “يمكن لقول بصفة عامة إن المخيال العربي القديم –الذي أصبح مخيالاً عربياً إسلامياً منذ ظهور الإسلام- تطلب عدة قرون لإرساء أرضية قيم مشتركة ضرورية لكل شكل من أشكال التطور المستقبلي” (ص 21-22).
ويؤكد المؤلف للقارئ أن الغوص في عالم المخيال العربي الإسلامي ليس بالأمر الهين، فلا نعرف عن بنيته إلاّ بعض الأجزاء القليلة المتناثرة هنا وهناك (ص 25). ويرى الكاتب أن سبره لأغوار المخيال العربي الإسلامي هو محاولة متواضعة لفتح باب الاجتهاد في هذا الميدان الذي تتمحور حوله فصول الكتاب الخمسة (ص 26).
في ثلاث وسبعين صفحة (ص 27-99) يتعرض الفصل الأول (المخيال الاجتماعي والسياسي) من الكتاب لملامح اجتماعية وسياسية تندرج تحت تكوين المخيال العربي الإسلامي. فبالنسبة للجانب الاجتماعي لهذا المخيال يناقش الكاتب عدة موضوعات وقضايا أثرت في تشكيل المخيال العربي الإسلامي. يبدأ لمؤلف هذا الفصل بالحديث عن الوقت/الزمن. فيرى أن القرآن قد نادى بوجوب أن تكون السّنَة الإسلامية سنة قمرية (ص 30)، ويستشهد الكاتب على ذلك بالنص القرآني هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً)نفسه: وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ (يونس:5). ويضيف صاحب الكتاب أن القرآن يعطي في سورة التوبة(يَعْلَمُونَ إِنَّ عِدَّةَ)رؤية إسلامية واضحة عن الوقت وكيفية حسابه (ص 31): الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا (التوبة:36).(أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ
أما قضيتا النسب والحسب فيؤكد المؤلف أنهما تتمتعان بمكانة كبيرة في تشكيل المخيال العربي الإسلامي على الرغم من أن الإسلام قد دعا إلى التحرر منهما والالتزام بقيم المساواة الكاملة والمطلقة بين بني البشر. وكما هو معروف فالإسلام لم يقض على كل التقاليد والأعراف الثقافية في المجتمعات التي دخلت في الإسلام. فتأثير القبيلة وعلاقات الحسب والنسب لا تزال موجودة بدرجات مختلفة في معظم المجتمعات العربية الإسلامية وذلك على الرغم من تناقض ذلك مع كل من القيم الثقافية الإسلامية وروح قيم الحداثة والمدنية التي وصلت إلى هذه المجتمعات في هذا القرن على الخصوص. وهكذا يعتقد المؤلف أن “كل رؤية أنثروبولوجية للمخيال العربي يجب عليها أن تكون واعية بمدى تأثير مسألة النسب في ملامح الحياة الجماعية في المجتمعات العربي الإسلامية” (ص 40).
ويتطرق الكاتب في هذا الفصل إلى ظاهرة انتشار “الحمّام” في الحضارة العربية الإسلامية فيُرْجع ظهورَها إلى القرن السابع الميلادي، ويرى أن الحديث النبوي المشهور “النظافة من الإيمان” لا بُدّ أن له تأثيراً في ظهرو ظاهرة الحمّام وانشارها فـي المجتمعات العربية الإسلامية. والحمّام –في رأي المؤلف- يرمز إلى شعائر النظافة عند المسلم (ص 55)، وتعدُّه التقاليد الشعبية “الطبيب البكوش” (الأبكم) الذي يعالج عدة أمراض بواسطة الجو الحار الموجود فيه وعملية التعريق التي تنجم عن ذلك. إن أهمية الحمّام عند المسلم تبيّن مكانة الماء في الرؤية العربية الإسلامية، فالماء في التصور الإسلامي هو أحد مظاهر النعمة الإلهية. إن الآيات القرآنية التي تتحدث عن (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَي)الماء كوله تعالى: (الأنبياء: 30)، دليل على أن الماء هو أحد العناصر المكونة للرؤية الكونية والدينية لدى المسلم (ص 56).
ثم يتعرض الكاتب إلى الفروسية والصيد كنشاطين ترفيهيين عرفهما المخيال العربي منذ القدم وزكاهما المخيال الإسلامي فيما بعد. فمما لا شك فيها أن الاعتناء بالخيل ذو جذور بدوية، وبغزوهم للشعوب استطاع العرب تطوير فن الفروسية فأصبحت الفروسية في القرن السابع الميلادي فناً قائماً بذاته (ص 65).
ومن ثمّ جاء الفخر والتمجيد للحصان عند الإنسان العربي. ويَعدّ المؤلف الصيدَ، مثله مثل الشعر والموسيقى والرماية، جزءاً من التربية الأساسية لقدماء العرب، ويرى بعضهم أن الصيد فن كامل يعالج المشكلات العضوية والنفسية عند الإنسان. وفضلاً عن ذلك فالصيد يسهم في تربية الأفراد ويسهل من إرساء الروح الجماعية، ويقوي من عرى التواصل بين الإنسان والطبيعة، ويربي النفوس الحساسة والخائفة، ويمد الضعفاء بالقوة، فيخلق بذلك أحسن الظروف التي تنسجم مع روح الإسلام (ص 67).
ويشير الكاتب إلى أنه يمكن تلخيص المخيال العلمي العربي الإسلامي في القول المأثور: “اطلبوا العلم ولو في الصين”، فالعلاقة جد وثيقة بين الدين والعلم في الإسلام (ص 73). ويذكر المؤلف تقدم العرب المسلمين في ميادين علمية مختلفة كـ”علم الحيوان” (Zoology) الذي تميز فيها لجاحظ بكتابة سبعة مجلدات. أما لبيروني فقد جاء بابتكارات رائدة في العلو الطبيعية، وتفوق الدينوري في علم النبات وابن الهيثم في علم البصريات. وفي علم الجغرافيا اشتهر الإدريسي وابن بطوطة وابن جبير. ويعد ابن خلدون –كما هو معروف- مؤسس علم الاجتماع (علم العمران البشري) بتأليف كتابه الشهير: المقدمة. ولا ننسى تطور علم الطب (الحكمة) على أيدي المسلمين مثل الرازي وابن إسحاق وابن سينا وابن الجزار وابن النفيس (ص 81). ويعتقد صاحب الكتاب أن هناك ثلاثة عوامل ساعدة على تبلور ذلك الرصيد المعرفي/ العلمي في أحضان المخيال العربي الإسلامي:
1- الصرامة المعرفية/ العلمية التي عرف بها علماء الحضارة العربية الإسلامية.
2- خيال هؤلاء ورواج تحليلاتهم وقدرتهم على ولوج عوالم غريبة استطاعوا استيعابها وإنقاذها من اندثار محقق.
3- وللغة العربية أثر كبير في إثراء الرصيد المعرفي بوصفها قوة موحدة للعلوم والمعارف لعدة قرون في ظل الإسلام.
فبدون تلاقي هذه العوامل الثلاثة تُستبعد –في رأي المؤلف- المحافظة على الرصيد المعرفي/ العلمي الهش ولا ينتظر تطويره كما حدث ذلك في الحضارة العربية الإسلامية (ص 82).
ثم يناقش الكاتب فيما بقي من هذا الفصل المخيال السياسي، أي قضية الحكم والسياسة في الحضارة العربية الإسلامية. فظاهرة الدولة الإسلامية عرفت –في رأيه- ثلاث مراحل: اقترنت المرحلة الأولى بحركة الهجرة من مكة إلى المدينة حيث تبلورت سلطة الحكم النبوي. أما المرحلة الثانية من قيام الدولة الإسلامية فكانت في السنة الخامسة الهجرية بعد حصار المدينة (معركة الخندق) من قبل قريش عندما استطاعت سلطة الحكم النبوي أن تكسب الصفات الرئيسية وتولي أبي بكر الحكم بعده المرحلة الثالثةrللدولة. وتمثل وفاة النبي لقيام الدولة الإسلامية. إذ برهن أبو بكر –وهو الخليفة الأول للدولة الإسلامية الشابة- على أنه قادر على مواجهة المعارضين لهذه الدولة بالقوة (ص 84).
لقد أبدل عمر بكلمة الخليفة لقب أمير المؤمنين، وتتمثل مهمة هذا الأخير في كونه مرشداً دينياً وقائداً عسكرياً في حالة السلم والحرب. ويرى المؤلف أن الحكم في المجتمعات العربية الإسلامية غلبت عليه صفة الطغيان بمعناه المزدوج والمتمثل في اغتصاب الحاكم لسلطة الملكية والسلطة الإلهية في الوقت نفسه. وهي أخلاق حكم ساعدت على نشرها في العالم العربي الإسلامي كتابات عبد الله بن المقفع وترجماته عن الفارسية وما تحفل به المكتبة العربية الإسلامية من كتابات الآداب السلطانية التي وقع تأليفها بعد ذلك. وقد أبرز المفكر المغربي محمد عابد الجابري بالتفصيل ظاهرة تفشي الحكم السلطاني في المجتمعات العربية الإسلامية في كتابه: العقل السياسي العربي.
يتعرض الفصل الثاني من الكتاب إلى المخيال الديني في الحضارة العربية الإسلامية. وينقسم هذا المخيال إلى نوعين: المخيال الجاهلي الذي ساد الجزيرة العربية قبل مجيء الدعوة الإسلامية، والمخيال الإسلامي الذي جاءت به البعثة المحمدية إلى مكة والمدينة ومنهما تغلغل في الجزيرة العربية ثم انتشر بعد ذلك بسرعة إلى خارج حدود هذه الأخيرة. وكما هو معروف، فالعصر الجاهلي يوصف بعدة أوصاف سلبية كالوثنية والاحتكام إلى القوة والمال وفساد الأخلاق وكثرة الرذائل. أما حديث المؤلف عن المخيال الإسلامي فقد تطرق فيها إلى الأمور الرئيسة الآتية: القرآن وإعجازه وبلاغته، وأسماء الله الحسنى، ، والحج، وموضوع الحلال والحرام، والمسجد باعتباره فضاءًrوشخصية الرسول مقدساً في الإسلام، والمنـزع الصوفيين والتصور التوحيدي في الإسلام، والإيمان بالآخرة في الرؤية الإسلامية، والجنة والنار، والنساء الحور، وفكرة الفناء، وظاهرة الأولياء (Le maraboutisme). ومن ثمّ يمكن القول –في رأي المؤلف- بأن المخيال الديني في الأرض العربية هو عبارة عن قوس طرفاه عبادة الأصنام، من جهة، والتصوف من جهة أخرى (ص 173).
ويرى شبل أن المخيال الديني الإسلامي لا ينبغي تعريفه بمحتواه، بل من الأفضل تعريفه بمشروعه الذي يتمثل في فكرة التوحيد التي لا تنفك آيات القرآن عن التذكير بها. وبعبارة أخرى، فالمخيال الديني في المجتمع العربي المسلم يهدف في المقام الأول إلى مراقبة معالم الوحدانية وتعزيزها. ويعتقد المؤلف أن المخيال الديني في الإسلام يلتقي بصورة طبيعية وعفوية بالمخيال الاجتماعي الذي هو أحد أكبر ملامحه البارزة (ص 176).
أما الفصل الثالث فيعطيه المؤلف عنوان مخيال العلم والخلق عند العرب المسلمين. فالحديث يتمحور هنا عن الجغرافيا وعالم المخلوقات والعجائب في هذا الكون. فمحمد بن موسى الخوارزمي (800-850) هو أول عالم جغرافي مسلم شهير. ويعدّ علي بن الحسين المسعودي (923-956م) أول عالم جغرافيا إلى جانب شهرته مؤرخاً كبيراً، حيث عُرِف بكتابه الشهير: مروج الذهب. أما شمس الدين بن أحمد المقدسي المولود عام 946م في القدس فهو أيضاً أحد كبار علماء الجغرافيا (ص 183). فكتابه أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم يدرس جغرافية الشعوب والحياة الاجتماعية والاقتصادية ويهمل الجغرافيا الطبيعية. ويرى شبرنجر أنه ربما كان أعظم جغرافي عرفته البشرية قاطبةً. أما البيروني (973-1051م) فهو معروف بدراساته الجغرافية الأنثروبولوجية في بلاد الهند التي نجدها في كتابه الشهير: تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة.
إن الحديث عن المخيال الجغرافي في الحضارة العربية الإسلامية يبقى منقوصاً بدون ذكر الجغرافي الإدريسي الذي يولد في المغرب (1100- 1165م) إذ إنه في نظر الكثيرين أكبر الجغرافيين العرب وأشهرهم على الإطلاق. وقد كانت له مكانة مرموقة في البلاط الصقلي ومن ثمّ ذاعت شهرته في أوروبا. وبكتابه نـزهة المشتاق في اختراق الآفاق ذاع صيته في البلاد الإسلامية (ص 185).
ويتطرق المؤلف في الفصل الرابع إلى مخيال عالم الجمال عند العرب المسلمين. ويذكر أن أولاج جرابار (Oleg Grabar) الذي درس الفن العربي يعترف بأنه من الصعب “إيجاد المفاهيم والمصطلحات المناسبة التي تسمح لنا بتفسير فنون الإسلام وتقويمها والتعبير بدقة كافية عن الشعور الذي يمكن أن يكون لنا بالنسبة لوحدتها الجمالية” (ص 248).
يُعدّ فن الفصاحة والبلاغة أهم فنون اللغة العربية. ويمثل القرآن الكريم قمة البيان الفصيح في لغة الضاد. ومن ثَمّ جاءت معارضة بعض الفقهاء المحافظين لترجمة كتاب الله المنـزل. ويتفق هذا الموقف مع المبدأ الرومان القائل بأن كل ترجمة هي في جزء منها خيانة، فلا يمكن إذاً بأي حال من الأحوال أن تقع خيانة كلام الله تعالى وتشويهه (ص 249). وكما هو معروف فإن فصاحة القرآن وبلاغته هما من سمات الإعجاز فيها. ومن جهة أخرى فالشعر العربي يزخر هو أيضاً بفن الفصاحة والبلاغة. ويرى المؤلف أن موقف القرآن من الشعر هو موقف متسامح. فالشعر ليس منبوذاً في حد ذاته، إنما هو يعرض للمدح أو القدح حسب أخلاقيات الموضوعات التي يكتب فيها الشعراء قصائدهم (ص 257).
أما فن المعمار (فن البناء) الإسلامي فنجده موزعاً في ثلاثة أصناف:
1- الفن المعماري المدني: القصور، والحمامات، والأسواق، وقنوات المياه والقناطر…الخ.
2- الفن المعماري الديني: المساجد، والأضرحة، والمدارس الدينية… الخ.
3- الفن المعماري العسكري: الرباطات، والقلاع، والجسور، والأسوار والحصون…الخ.
ويرى الكاتب أن الفن المعماري في الإسلام هو رمز إلى ما هو إلهي، أي أن الفن المعماري لا يكون إسلامي الطابع إلاّ إذا التزم بإبراز المفهوم الوحداني والثابت والمتمثل في تعظيم الذات الإلهية (ص 261).
ولا يمكن الحديث عن فنون الجمال في المخيال العربي الإسلامي دون إبراز مكانة جمال الخط العربي، فالخط هو العلم الرئيسي للخطاط، كما يمثل القرآن المجال الذي تتفتق فيها فنون الخط العربي (ص 186). وكما نعرف، فهناك ستة أنماط للخط العربي عرفها المشرق والمغرب العربيان. وقد أضيفت أنماط أخرى عندما وصل الخط العربي إلى البلدان الآسيوية مثل إيران والهند وماليزيا. وما من شك في أن جمال الخط العربي يتصدر الفنون الإسلامية المرئية.
أما بالنسبة للموسيقى والغناء في المخيال العربي الإسلامي فالأمر يختلف عما نجده في موقف التقليد بين المسلمين إزاء فن الرسم. فالموسيقى تلقى دائماً ترحيباً خاصاً يرتبط في بعض الحالات بالمقدس. وهذا يتماشى –في رأي الكثيرين- مع موقف القرآن نفسه. فليس هناك في القرآن ما يدل على منعه للموسيقى في حد ذاتها. ولم تبدأ مناقشة شرعية الغناء والعزف على الآلات الموسيقية ومهنة الموسيقي إلا في نهاية القرن الأول للهجرة (ص 293). وهناك اختلافات بين المذاهب الفقيهة الإسلامية بخصوص فنون الطرب. وعلى الرغم من عدد المحرمات التي نادت بها بعض هذه المذاهب، فإن الموسيقى قد انتشرت بكل أصنافها في العالم العربي الإسلامي، من الغناء الشعبي (الفلكلور) في المناطق النائية إلى الغناء الحضري مروراً بالأغاني الوطنية (التي جاء بها العثمانيون من الغرب) وأغاني الحروب والقصائد الشعرية التي تُغنّى أو تُنشد. إن حب العرب المسلمين للموسيقى والغناء يلخصه قول المسعودي في مروج الذهب: “وباستثناء الفرس والإغريق فليس هناك من شعب ذي حنين للطرب أكثر من العرب” (ص 294).
يحلل الفصل الخامس والأخير من هذا الكتاب مسألة الجنس والحب في مخيال المجتمعات العربية الإسلامية. فالإسلام ليس له موقف سلبي إزاء الجنس طالما تتم مارسته في إطار العلاقات الزوجية المشروعة. إن القرآن الكريم صريح في نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى)هذا المضمار: (البقرة: 223). ويتطرق المؤلف في هذا الفصل إلى عدة موضوعات لها(شِئْتُمْ علاقة بعالم الجنس في المخيال العربي الإسلامي مثل الختان، والخصوبة، والإجهاض، والرجولية، والأعضاء الجنسية، وتحديد العورة. كما يتحدث عن العزوبة، وعن الحب والعشق، وعن السلوكات الجنسية المنحرفة. ففي رأي المؤلف يتصف الحب العربي بين الجنسين ببعض الصفات التي تأتي في طليعتها روابط العلاقات الحميمة بني المحبين. ومن ثمّ فالحب العربي ليس حباً حراً طليقاً، بل هو حب ينمو وينضج في إطار العلاقات الزوجية. ويتساءل المؤلف: هل هناك من حب صادق يقبل –بدون إحراج- مبدأ الاشتراك والتقسيم؟ (ص 368. أما بالنسبة rللعزوبة فالإسلام يقف ضدها، إذ الخصوبة هبة إلهية. وقد روي أن الرسول عدّ العازبين إخوان الشياطين. ولم يعرف أبداً أن الإسلام قد دعا إلى اتباع سلوك الورع بمعنى التخلي عن الحياة الزوجية وما فيها من ممارسة جنسية كما حاول ذلك بعض الزهاد والمتصوفة (ص 347).
لا يخلو مفهوم الذكورة في المخيال العربي الإسلامي من أبعاد جنسية، لكنه يعني في الوقت نفسه طريقة عيش نبيلة وعرفاً اجتماعياً للتضامن مع الآخرين. وبهذا المعنى تصبح الذكورة مساوية للمروءة. ويرى الكاتب أن العرب مارسوا الختان منذ عهود غابرة، فجاء الإسلام ليزكي عملية الختان عند الذكور. إن الكثير من منافع الختان الصحية أصبحت اليوم معروفة في الطب الحديث.
ويُنهي المؤلف كتابه بخلاصة عامة يعرض فيها تأملاته عن الحضارة العربية الإسلامية. فيبدأ بتعريف مفهوم المخيال من جديد، فيرى أن المخيال هو حصيلة اجتماعية يقبلها الإنسان في المجتمع بكل حرية كما يرضى بفن المعمار أو فن الشعر (ص 369). إن المخيال نتيجة مباشرة للتوترات والتدخلات التي يتفاعل بها الإنسان مع محيطه المادي والنفسي على حد سواء. وبعبارة أخرى فالمخيال هو قبل كل شيء تجربة الحياة معنىً ومفهوماً.
يمثل مجيء الإسلام للجزيرة العربية في القرن السابع الميلادي صدمة وضع جديد بالنسبة للعربي البدوي على الخصوص. فالتناقض بين عالم الإنسان العربي قبل الإسلام وبعده تناقض كبير، فالعربي ينظر إلى نفسه عبر عائلته وقبيلته وعشيرته، بينما يعطي المسلم مئات الملايين ولاءه الكامل باعتبارهم إخواناً له في الدين في هذا العالم (ص375). فولاءات الفرد في العهد الإسلامي لم تعد أفقية كما كان الأمر مع العصبية القبلية، بل أصبحت ولاءات عمودية: بين الإنسان والله تعالى. وهذا ما يجعل الكاتب يتحدث عن الشخصية المزدوجة عند العربي المسلم الذي أبقى الإسلام على الكثير من تقاليده وأعرافه التي لا تتنافى مع الشرع. لكن المؤلف يعتقد أن ظاهرة العنف عند الإنسان العربي المسلم هي حصيلة الاصطدام بين التقاليد العربية والعقلانية الإسلامية (ص 378).
يؤكد المؤلف في الصفحات الثلاث الأخيرة من كتابه أن العوالم الثلاثة التي تكوّن المخيال العربي الإسلامي هي الدين، والسياسة، ومركب العلاقات الاجتماعية. فهذه الأقطاب الثلاثة للمخيال العربي الإسلامي مسرح للعنف الفردي والجماعي الذي لا يدركه القادم الجديد للمجتمعات العربية الإسلامية )ص 382). فإصلاح الإنسان المسلم العربي ونهضته يعتمدان –في رأي صاحب الكتاب- على استثمار طاقة العنف المرتبطة بالثلاثي (الدين، والسياسة، ومركب العلاقات الاجتماعية) في الرفع من شأن تقدمه الإنساني.
ومع الأسف، فإن المؤلف أوجز الكلام على عقدة الثلاثي هذه وتحليلها إلى عناصر الثلاثة وفحص طبيعة كل منها والنظر إلى حركية تفاعلها مع بعضها البعض، فلو فصّل لكان يمكن أن يثرى ويعمق أكثر مقولة الكاتب ويعزز فتح باب الاجتهاد في دراسة المخيال العربي الإسلامي الذي وعد به في الصفحات الأولى من الكتاب. إن التحليل الجدّي والعميق للدين والسياسة ومركب العلاقات الاجتماعية، يتطلب معرفة واسعة ومتجذرة في العلوم الاجتماعية والإنسانية على الخصوص. ومناقشة الكاتب لمختلف القضايا المتعلقة بالمخيال العربي الإسلامي في الفصول الخمسة لكتابه تشير بقوة إلى أنه ذو رصيد معرفي يؤهله للتعمق فيها. وهو ما نرجو له تحقيقه عن قريب في مؤلف جديد مستقل بذاته.
عن موقع إسلامية المعرفة