– عنوان الكتاب: القبيلة والمجتمع في ريف المغرب
– المؤلف: ديفيد هارت
– عدد الصفحات: 222
– الطبعة: الأولى 2000
– الناشر: فرانك كاس-لندن
يقدم هذا الكتاب صورة حية وقريبة للمجمتع والقبيلة في المغرب من زاوية تأريخ اجتماعي, وتحديداً في المناطق التي يقطنها البربر, أي في مناطق أطلس الوسط والأعلى والشمال وبعض أجزاء الجنوب المحاذية للصحراء الغربية. والمؤلف, ديفيد هارت, أنثربولوجي ومؤرخ اجتماعي مختص في المغرب وباكستان, وقضى إحدى عشرة سنة في أرجاء مختلفة من المغرب في سنوات الخمسينات والستينات بغية إجراء أبحاثه. ويبدو أنه تحول من أسر الأنثروبولوجيا وإطلاقاتها الصارمة, إلى رحابة التأريخ الاجتماعي الذي يقطع مع إطلاقات الرؤية الإثنية حيث فهم وتأريخ حياة المجتمعات والمجموعات البشرية يقوم وفق ملاحقة أعراقها وسلالاتها وسماتها الأنثروبولوجية.
قيمة الكتاب
وانهماك هارت بالريف المغربي العربي منه والبربري قاده إلى إنتاج كتاب مرجعي من ناحية تاريخية حيث التفصيل المثير في توزيعات القبائل وأسمائها وبنياتها الداخلية وعلاقاتها مع المركز وطبيعة مواقفها من الاستعمارين الفرنسي والأسباني. غير أن ذلك لا يمنع من إبداء ملاحظة أساسية أولية على شكل سؤال ابتدائي يلح علينا مع مطالعة الفصول الأولى من الكتاب ألا وهو ما هي القيمة الراهنة لهذه الأبحاث ونتائجها بعد مرور أكثر من ثلاثين سنة على كتابة معظمها (سيما وهي متقطعة ومكتوبة في فترات زمنية متباعدة وبعضها يعود إلى الستينات), خاصة وهي تعالج تاريخاً اجتماعياً راهناً سريع التحول والتبدل ويتصف بدينامية متحركة بسبب التحولات العميقة في الدولة المغربية الحديثة, أو بسبب تمدين الريف والهجرات الموسعة إلى المدن الكبرى, وكذا هجرة أعداد كبيرة من شباب الريف إلى أوروبا للعمل هناك. أي أننا أمام انقلاب شبه جذري في بنية القبيلة والمجمتع المغربي عما كان عليه في الستينات, ومن هنا فإن علامة سؤال كبيرة ترتسم حول مغزى وقيمة هذا الكتاب من زاوية علاقته بواقع المغرب الآن, هذا مع حفظ الاعتبار لقيمته التاريخية كرصد وتحليل لحقبة محددة من تاريخ المغرب.
وعلى كل الأحوال فإن المؤلف نفسه يقر بوهن علاقة الكتاب بواقع المغرب الراهن (ص 21), فيما يظل مطلوباً في مثل هذه المقاربات هو إما تحديث الدراسات القديمة التي قام بها المؤلف, أو تعديل النتائج, في ضوء التغيرات الجديدة في المجتمع المغربي, أو الاشتغال على أبحاث جديدة تكون صلتها بالواقع المغربي المعاصر أكثر حيوية وعضوية.
تأريخ علمي
الملاحظة الابتدائية الثانية متعلقة بمغزى تأخير مناقشة تعريف ومفهوم الريف والريفيين إلى منتصف الكتاب في فصل منفصل (الصفحات 105-109). طبعاً يوحي ترتيب الفصول بأننا أمام قسمين للكتاب كل منهما يدور حول موضوعات متقاربة تحاول أن تشكل وحدة موضوعية فيما بينها. ولهذا السبب يبدو أن المؤلف أخر الفصل الخاص بالتعريف إلى بداية القسم الثاني. لكن هذا التأخير على ما فيه من وجاهة بادية ترك القارىء يتعثر بالمصطلحات “الريفية” في الفصول الأولى للكتاب وحتى الوصول إلى التعريف. ومع ذلك فإن هاتين الملاحظتين لا تقللان من المكانة المرجعية للكتاب كتأريخ علمي ودقيق للحالة القبلية المغربية خاصة في النصف الأول من القرن العشرين.
القبيلة ليست عائقا
يؤسس المؤلف في الفصل الأول من الكتاب لجذور وشكل القبيلة المغربية وعلاقتها بالسياق التاريخي للدولة, وهو يعارض كثيرا من المختصين في تواريخ الدول النامية لناحية القول بأن القبلية تعتبر سبباً من أسباب التخلف وعدم الانخراط في تنمية ناجحة في هذه الدول. ففي المغرب يجادل هارت بأن القبلية لم تشكل عائقاً في وجه التحديث والتنمية, حتى وإن أثبت هذا الأمر في حالات أخرى. والذي يراه هارت في الحالة المغربية تحديداً أن سوسيولوجيا المجتمع التي تجملها نظرة فرنسية قديمة تظل تحمل ديناميات حركية تتيح لمفاعيل التحديث أن تأخذ مداها.
والنظرة الفرنسية المذكورة, وإن كان هارت يقتبسها هنا فإنه لا يقر الهدف الاستعماري من ورائها, تقول بأن المغرب يمكن رؤيته وفق ثلاثة محاور ثنائية القطب: الأول هو محور العرب-البربر, والثاني محور المدينة-الريف, والثالث محور المخزن-الصبا (وهذا الأخير يشير إلى ثنائية المؤسسة المغربية الحاكمة عبر قرون والمعروفة اصطلاحاً بـ”المخزن”, و”الصبا” التي هي الأراضي والجماعات البعيدة عن المدن التي حكمت المغرب, وتحديداً تلك المسكونة من قبل البربر والتي لم يكن للسلطان من سيطرة فعلية عليها سوى الاعتراف بزعامته الروحية).
وبشكل عام فقد كانت المدن المغربية تتصف بأنها موطن العرب, بينما البادية والجبال هي موطن البربر. حتى القبائل البدوية العربية ظلت قريبة من المدن ومتأثرة بها. ويحلل هارت البنية الداخلية للقبيلة البربرية وتنظيم العلاقات الداخلية والانتظام في “سوق” الأسبوع حيث يتم التبادل التجاري والشراء في يوم محدد من الأسبوع, يمثل لقاء اجتماعياً موسعاً حيث يأتي أفراد من قبائل أخرى بغرض التجارة أو مجرد العلاقات العامة. وتدار شؤون القبيلة من قبل “مجلس القبيلة” المنتخب انتخاباً من الأفراد وهو أمر ملفت حقاً بسبب عمقه التاريخي وطبيعته “الديموقراطية”. وإذا كانت القبيلة مقسمة من عدة قبائل صغرى (بطون) فإن رئاسة القبيلة تكون دورية سنوية بحيث لا يحق لقبيلة ما أن تحكم لمدة سنتين متتاليتين. والأهم من ذلك أن هارت يشير إلى أن التشابهات بين العرب والبربر عميقة وأكثر مما يتوقع كثير من الناس, رغم الاختلاف اللغوي وبعض التقاليد الخاصة بكل مجموعة. ولعب الإسلام ولايزال يلعب الدور الموحد الأساسي الذي يشكل مرجعية عامة قربت من المجموعتين وصهرت كثيراً من الفروقات وفق رؤية مشتركة للأمور والحياة والمجمتع.
القبيلة والمقاومة
يناقش المؤلف انتفاضات الريف البربري سواء ضد الاستعمار الفرنسي والإسباني أو في حقبة ما بعد الاستقلال ضد الحكم في المغرب, وخاصة في النصف الثاني من خمسينات القرن العشرين. ويركز على دور بن عبد الكريم في إطلاق المقاومة ضد الاستعمارين في سنوات 1916-1920. ورغم محاولات الفرنسيين طوال عهود الحماية الفرنسية خلق علاقات عدائية بين البربر والعرب على قاعدة فرق تسد إلا أن الفشل كان حليف تلك السياسة, وبقي البربر في صف المقاومة إلى جانب العرب. لكن في مرحلة ما بعد الاستقلال قامت هبات في مناطق البربر ضد الرباط. وعلى وجه التحديد يعتبر هارت أن انتقاضات 1957, و1958-1959, و1960 تتصف بصفات مميزة كونها عبرت عن نقمة البربر على الشكل السياسي والاقتصادي الذي تطور في شكل غير منصف لهم (ص 84 وما بعدها). لكن هذه الانتفاضات وسواها من الحركات الشعبية أو انقلابية ضد حكم الملك محمد الخامس ثم الملك الحسن الثاني لم تشكل بأي حال من الأحوال خطراً حقيقيا على العرش.
وبتأكيد هذه النتيجة فإن هارت يخالف أكاديميين ومؤرخين آخرين في تاريخ المغرب في القرن العشرين, خاصة آرنست غلنر الذي رأى أن تلك الانتفاضات مثلت تحديا حقيقيا لسلطة الملك وشرعيته. هارت يقارن بين هذه الانتفاضات ومحاولات الانقلابات العسكرية في أوائل السبعينات والتحركات الشعبية من القرن الماضي وخاصة حركة الانتفاضة الطلابية عام 1965, وانقلابات سنوات 1970,
1972, 1973, ثم انتفاضات الخبز في سنوات 1981 و1984, وأهم تلك المحاولات كانت بالطبع محاولة الانقلاب التي قادها أوفقير وزير الداخلية سنة 1973
و يرى هارت في هذه المحاولات خطراً جدياً واجهه النظام. لكن منذ انقضاء العهد بآخر تلك الانتفاضات وحتى الآن فإن الدلائل تشير إلى صحة مقولة هارت من أن الريف لا يشكل أي تهديد لسلطة النظام القائم أو تحدياً له.