رؤية غربية إيجابية لقافلة الشرق الأوسط
راكان المجالي
من أهم الكتب التي تعالج سوء فهم الغرب للشرق وتحديداً الشرق الأوسط كتاب “كارلتون كون” وعنوانه “القافلة – قصة الشرق الأوسط”.
وقد امضى الدكتور كون وهو عالم انثرولوجي مشهور 9سنوات في المنطقة بعد تخرجه عام 1928في جامعة هارفارد واستغرق تأليف هذا الكتاب اكثر من 20عاما.. وقد ترجم هذا الكتاب إلى العربية في نهاية الخمسينيات الأستاذ برهان الدجاني وراجعه الأستاذ إحسان عباس.
أما لماذا سمي الكتاب “القافلة” فلأن القافلة برأيه مؤسسة عظيمة التعقيد دقيقة التنظيم وهي بذلك تشبه مدينة الشرق الأوسط، ولأن أعظم القوافل التي عرفها التاريخ هي تلك التي توافرت على نقل الأتقياء إلى الأماكن المقدسة، والشرق الأوسط مكان تقدسه شعوب كثيرة.
أما الشرق الأوسط في نظره وبعد أن يحدده جغرافيا، فإنه يقول إن “الشرق الأوسط” من الناحية الثقافية منطقة ثقافية قائمة بذاتها، ذات مركز ومحيط والمدنية التي تميز هذه المنطقة، في اشكال اقليمية متعددة، ليست أنها وحدة واحدة فحسب متوسطة بين مدنيتي الشرق والغرب، بل إنها من نواح عديدة أم لهاتين المدنيتين، ولم تكن مجرد وسيط، بل كانت ايضا مدنية مبدعة خلاقه. فعنها أخذنا معظم النباتات والحيوان الذي نأكل انتاجه اليومي، سواء مارسنا العبادات أو لم نمارسها ولا يحق لأحد أن يطلب المزيد قطعة من الارض تبدو قاحلة إذا ما قيست بمروج العالم الغربي وغاباته الخضراء.
ومن دون تدخل مني أورد الرؤية التي يقدمها الأستاذ في جامعة هارفارد “كارلتون كون” حول “قصة الشرق الأوسط” والسطور التالية هي جزء من اطروحة من 500صفحة بالقطع الكبير تؤكد أن هنالك فهماً إنسانياً وفكرياً غربياً لشرق أوسط مختلف ومغاير للصورة السلبية التي ترسمها عصابة اليمين المحافظ في امريكا والتي صاغت نظرية الشرق الجديد بروح عدائية وكذلك المتأثرون بالفكر الصهيوني في الغرب وهذه هي شهادة الأستاذ كون:
لقد جاءت النصرانية من الشرق، ومنه أيضاً جاءت أمها الديانة اليهودية، ومن الشرق جاء القمح الذي نأكله خبزا، والحيوانات الاليفة التي نأكل لبنها ولحمها. وعنه اخذنا معرفتنا بالأفران التي ينفخ في نارها فتذيب خامات المعادن، والعجلة المركبة على قضيب متحرك وهي التي نستعملها لتحريك مصانعنا وعجلاتنا الآلية. ومنه اخذنا الكلمة المكتوبة.
فإذا كان الشرق الأوسط قد أعطانا هذه الأشياء كلها، فربما تبقت لديه حكمة لم نعرفها، أو لعلنا عرفناها قبل زمن طويل ثم نسيناها بعد ذلك. فكم يسهل نسيان المبادئ الاساسية للتصرفات الإنسانية في عصر تتقدم به التقنية بسرعة لم يعرف لها مثيل من قبل، بينما تجهد الوسائل الاجتماعية محاولة اللحاق بها. في مثل هذه الايام لا يأبه الناس بأحكام الشيوخ، لانهم جاهلون بأحدث التقنيات. فاذا اردنا استعادة معرفتنا بالحقائق الاساسية عن علاقات الإنسان بالإنسان، وجب أن نتجه إلى مجتمع اثبت انه مجتمع تمت تكيفاته الداخلية وتمحيص التجربة منذ عهد بعيد، قبل أن يدخل بدوره في نطاق الزوبعة الصناعية، ويبدأ في ضلال يفوق ضلالنا يأسا.
وأول ما نتعلمه هو الدرس الآتي: ستذهب النوايا الطيبة هباء في أي مجتمع، وستضيع المقاصد الرفيعة عبثا، وستهدر جميع الجهود التي يبذلها اعقل البشر، إذا كان النظام الذي يعيشون فيه مغلوطا ولا يستطيعون تغييره. اما إذا كان النظام صحيحا، وحافظ الشعب عليه ومنع تغييره فقد ينشأ في مجتمعه أفراد انانيون، منفرون، جاهلون، معادون للمجتمع إلى الحد الذي يريدونه، ويستمر الآخرون مع ذلك في السير معا جنبا إلى جنب من دون مشكلات.
ما الذي يجعل نظاما ما صحيحا أو مغلوطاً؟ إن الصواب والخطأ كلمتان ذاتيتان، وإذا ترجمناهما إلى مصطلح عملي فإنهما يعنيان الانظمة التي ركبت بحيث تحافظ على توازنها، وتلك التي يختل توازنها بسهولة بسبب خطأ في اجهزتها الاجتماعية. والاجهزة الاجتماعية التي تحافظ على توازن المجتمعات التي تمتلكها – بحيث يستطيع أفراد هذه المجتمعات أن يستمتعوا بأقصى حد ممكن من السعادة – تتكون من ازدواج من وسائل الموازنة، ومن وسائل الضبط التلقائي التي توقف الخلل قبل تطوره. فإذا اختل نظام فرد من الأفراد بحيث اصبحت افعاله تهدد الآخرين، طبق في حقه القصاص التقليدي فورا، وحصر نطاق الخلل. انظر إلى اجتماع القبائل عندما ثارت المشكلات بين أولاد عبدالمؤمن وبني تدموت.
ومجتمع الشرق الأوسط القديم الذي حاولت وصفه كان مجتمعا محافظا على توازنه بواسطة أعداد كبيرة من هذه الضوابط التلقائية. ومن ابرز الضوابط تقسيم العمل القائم على خمسة مستويات، تقسيما أعطى كل فرد فرصة للتخصص في عمل ما، ولتوجيه نشاطه – عرف أو لم يعرف – نحو أفضل استغلال ممكن للارض بواسطة اكبر عدد من الناس، في مستوى تقني سابق للعصر الصناعي. وجميع اشخاص الشرق الأوسط من بلاد الريف إلى بلاد البطهانيين وهما طرفاه الحضاريان، معبؤون على أعظم جانب ممكن من الكفاءة في واجباتهم المترابطة، حتى كأن منظماً إلهياً اختارهم، وخصص لهم أعمالهم بموجب خطة مرسومة، ووضعهم في امكنتهم الصحيحة.
كيف حصل ذلك؟ يقول اتباع المدرسة الآلية إنه حصل بالتجربة والخطأ. ويعتقد هؤلاء بأنه لم يخطط هذا الأمر عقل إنساني، بل نشأ وظهر على هذا الشكل. ويقول المتدينون إنه شاهد آخر على قدرة الله، واهتمامه بشؤون البشر. ولو نظرنا إلى العالم لوجدنا مجتمعات كثيرة، بينها البسيط والمعقد، تعمل بموجب أساليب معقدة في التكيف، مثلما يطير الزقزاق الذهبي مهاجرا كل سنة بأسباب لم يتنبأ بها حتى اليوم إنسان.
ونرى مجتمعات أخرى خطها البشر بأدق تفاصيلها، من دون أن يتكيف الناس فيها أو يشعروا بالسعادة، لأنها تفتقر إلى أجهزة الضبط والموازنة. فالطاغية فيها لا يقتل حتى يستريح منه الشعب، والحر فيها لا يصدق جاره ولو أقسم له اغلظ الإيمان، ولا يجرؤ إنسان في داخلها على الاعتراف بأن معارف خبراء بلاده قد لا تكون كاملة شاملة، أو أن حاكمه غير معصوم عن الخطأ.
وقد وضع بشر آخرون طرائق في الحياة نجحت وما زالت ناجحة. ولكن النظام الذي وضعوه لم يزد على الخطوط العريضة والمبادئ العامة، كقولهم أحبب لجارك كما تحب نفسك، ولا تعمل على إغواء زوجة جارك. هذه المبادئ التي أعطتنا إياها أديان الشرق الأوسط الثلاثة العظيمة، لم توضع على اساس انها من خلق عقول الأفراد الذين اعلنتها ألسنتهم، بل كرسائل جاءت من الله بواسطة بشر من خلقه. ولقد أعلن القائلون بهذه المبادئ في إيمان صحيح خالص، بأن هذه الحكمة تجاوز حدودهم البشرية، فنالت وزناً أعظم بكثير من الوزن الذي كان يعطى لها، لو أن قائليها تبجحوا وزعموا أنها من صنع البشر وحدهم من دون عون آلي.