موقع أرنتروبوس

كتاب العنفُ في المجتمعات المعاصرة

كتاب العنف في المجتمعات المعاصرة

الكتاب: العنفُ في المجتمعات المعاصرة: مُواجَهات إثنوغرافيّة

تحرير: بارفس قاسم-فاخاندي

 ترجمة : د. هناء خليف غني

الناشر: المركز الأكاديمي للأبحاث

سنة الطبع:  2017

 

مُقدّمة المُترجِمة

لا يكادُ يمرُّ يومٌ من دونِ أن تمطرَنا وسائلُ الإعلام المرئيَّة والمسموعة بوابلٍ من الأخبار عن حوادثِ العنفِ، التي لم تعُد تفرِّقُ بينَ المُجتمَعات والبلدان، حتّى أضحى عالمُنا المُعاصِرِ مُرادفاً للعنف بأشكاله كافةً، فأصبحنا نعيشُ على وقع أصواتِ الانفجاراتِ والقصفِ الجويّ وإطلاق النَّار العشوائيّ والتَّهجير القسريّ والخطف والاقتتال الداخليّ والموت غرقاً في قوارب الموت لا النَّجاة. وهذه الحوادثُ تدعونا للتَّأمل في مُسبِّبات العنفِ ودلالاتِه وتداعياتهِ النفسيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والسّياسيَّة. وللعنف أشكالٌ عدّةٌ؛ منها الجسديُّ والنّفسيُّ والاجتماعيُّ والسّياسيُّ، وقد اتَّسعت مدياتُ هذه الأشكال وتنوَّعَت بعدَ نجاح مُرتَكبي أعمالِ العنف في توظيف التَّطوُّرات التُّكنولوجيّة الهائلة خدمةً لأغراضِهم. وقد جهدَ الباحثونَ والمُفكرونَ من المدارس والتيَّارات الفكريَّة في تحليل ظاهرة العنفِ ومُحاوَلة فهمها رغبةً منهم في وضعِ حدٍّ لها، أو ربَّما مُساعدة العالم على التَّعامُل معها بواقعيَّة أكبر.

وعليه، فالحديثُ عن العنف حديثٌ طويلٌ مُتشعِّبٌ، ولا بدَّ أن يقودَنا إلى الغوص في أعماق الفروع المعرفيَّة الأخرى التي يقفُ الأنثروبولوجيّ في مُقدَّمتها كونه يتَّصلُ اتّصالاً مُباشَرا بالمواجَهات التي خاضَها الباحثون الإثنوغرافيّون في كتابِ )العنف في المجتمعات المعاصرة: مُواجهات إثنوغرافيَّة( الذي حرَّره بارفس قاسم فاخاندي والصَّادر عن دارِ نشر بيرغ في 2009 ، أي بعدَ أحداثِ الحادي عشرَ من سبتمبر والحرب على الإرهاب التي شكَّلت نقطة مفصليَّة، دخلَ العالمُ في أعقابها في مرحلةٍ جديدةٍ غيرِ مسبوقةٍ من الخوف والتوجُّس والاندفاع نحوَ ارتكابِ أعمال العنف.

في كتابِ )أنثروبولوجيا العنف والصراع( الذي حرَّره بتينا أي شميدت وأنغو دبليو شَودر وسبقَ أن ترجمتُه إلى العربيَّة في2013 عن  بيت الحكمة في بغداد، تناولَ المُسهِمون بالعرض والتحليل مجموعةً من أعمال العنف التي عصفَت بالمُجتمَعات والبلدان وبينُوا، بما لا يدعُ مجالاً للشكِّ، تداخُلَ هذه الأعمال والحوداث مع طيفٍ واسعٍ من الظّروف السياسيَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة والاقتصاديَّة الحاضنة لها. وكانَت غايةُ المُسهمين من عرض هذه التَّجارب العنيفة التي شهدَتها مناطقُ عدةٌ؛ منها فنزويلا ومنطقة الكاريبي وألبانيا والصُّومال ويوغسلافيا السَّابقة وإثيوبيا وسريلانكا وغابات الأمازون، هي وضعُ نظريةٍ شاملةٍ تكونُ قابلةً للتَّ طبيق وفقَ مُقارَبةٍ ثقافيَّة مُناسبة. والعنفُ الذي تحدَّثَ عنه المُسهِمونَ في هذا الكتاب لا يمثّلُ قطُّ، بحسب المُحرِّرَين شميدت وشَودر، حدثاً خاصَّاً أو استثنائيَّاً. بل يمثّلُ غالباً نوعاً مُعيناً من أنواع العلاقات مع طرفٍ أو مجموعةٍ أخرى. كما لا يمثّل فعلاً عبثيَّاً أو مُجرَّداً من المعنى بالنسبة لمن يرتكبه. وقد يبدو، أحياناً، بلا معنى، ولكنَّه قطعاً ينطوي على معانٍ عدَّةٍ لمن يقعُ ضحيةً له أو للمُشاهد. وفضلاً، عن ذلك، لا يمثّلُ العنفُ قطُّ فعلاً مُنعزِلاً. بل يرتبطُ، على نحوٍ مُباشَرٍ أو غير مُباشَر، بعلاقةٍ تنافُسيَّة من نوعٍ ما. وتأسيساً على ذلك، بالإمكان عدُّ العنفِ نتاجاً لسيرورةٍ تاريخيَّةٍ قد تمتدُّ جذورها عميقاً في التاريخ.

وبسبب هذه الخاصية تحديداً، تمر عملية تحليل المسارات العنيفة بعددٍ كبيرٍ من التقلُّبات والانعطافات. وفي حين تحدَّثَ الكُتَّابُ المُسهِمون في )أنثروبولوجيا العنف والصّراع( عن مظاهرِ العنف الذي تعرَّضَت له المُجتمَعات البشريَّة في عددٍ من مناطق العالم بوصفِهم باحثينَ أو مُلاحِظين بالمُشارَكة، يتحدَّث )العنف في المجتمعات المعاصرة: مُواجَهات إثنوغرافيّة( عن حوادثَ وأعمالِ عنفٍ خاصَّة في طبيعتِها بالنَّظر إلى تحوُّل الباحثين أنفسِهم إلى ضحايا فيها.  في هذه الحوادث، دخلَ الباحثون الإثنوغرافيُّون في مواجَهة مُباشَرةٍ وصرِيحةٍ مع العنف، فكانوا شهوداً لا على تأثيراتِها في حياتِهم فحسب، بل في حياةِ الأفرادِ والجماعاتِ التي تمارسُه. إنَ خلفَ كلِّ فعلٍ عنيفٍ قصةً مُتشعِّبة ومُعقَّدة في تفاصيلها وطبيعة شخوصِها، يُسهمُ سردُها في تعريفِ القارئ بتفاصيلِ الحياةِ اليوميَّة التي تجعلُ الأفرادَ يعيشونَ في ظلِّ حالةٍ من الخوف والهلع والتّوجُّس. والقصصُ التي يرويها الكُتَّابُ ليسَت قصصاً من نسجِ الخيال، بل هي تجاربٌ وشهاداتٌ حياتيَّة دفعَت بعضُهم إلى إعادة التفكير بالحقلِ الذي يعملُ أو يبحثُ فيه.

ومثلما يُبيّنُ الفصلُ العاشَرُ من الكتابِ المُعنون “دليل القراءات الإضافيَة”، ثمَّة عددٌ كبيرٌ من الدّراسات والكتب التي تناولَت العنفَ وحاولَت تسليطَ الضَّوء على مُسبِّباتِه وتأثيراته، غير أنَّ عدداً قليلاً منها اهتمَّ بتسليطِ الضَّوء على العنفِ الذي يقعُ الباحثُ نفسُه ضحيةً له. إنَّ هذا العنفَ هو جزءٌ لا يتجزَّأ من العنفِ الذي تتعرَّضُ له المجتمعاتُ التي يتناولهَا الباحثُ بالشَّرح والتحليل، ولذا فهو يستحقُّ مزيداً من الاهتمام لدورهِ في مساعدتِنا على فهمِ العنفِ على نحوٍ أعمقَ وأشملَ. ولهذا، فقد اخترتُ، وأرجو أن أكونَ قد وُفِّقتُ في اختياري، ترجمةَ هذا الكتاب الذي اتَّخَّذَ من المواجَهات والتَّجارب العنيفة التي خاضَها الباحثونَ الإثنوغرافيُّون مُنطلَقاً له لفهم طبيعةِ العنفِ الذي تعرَّضت له المجتمعاتُ البشريَّة وما زالت ، ومنها المجتمع العراقيّ، الذي ما برحَ العنفُ بأشكالِه الرّمزيَّة والجسديَّة والنفسيَّة يمزّقُ أوصالَه ولاسيَّما بعدَ أحداثِ عام 2003 التي أسهمَت في تعميق انقسامه وفقَ خطوطٍ سياسيَّة ومذهبيَّة وطائفيَّة جعلَت العراقيّين يدورون في حلقةٍ مُفرَغةٍ من العنف والتناحُر والاقتتال اليوميّ ويعيشونَ فيما أسماه كنعان مكية في كتابه الذي حملَ العنوانَ نفسَه  (جمهوريّة الخوف(.

وعلى الرَّغم من كثرةِ الدّراسات والكتابات التي تناولَت ظاهرةَ العنفِ في المُجتمَعات العربيَّة والإسلاميَّة، أرى من الأنسب والأفضل الاستعانة بتجاربِ الشُّعوب والمُجتمَعات الأخرى في هذا المجال فضلاً عن التعرُّف على آراء الباحثين ومواقفهم إزاءَها، وهذا تحديداً ما تُبيّنه الفصولُ الثالثُ والثامنُ والتاسعُ التي تناولَت تجاربَ الباحثينَ ومواجهاتِهم مع العنفِ في العراق ولبنان والمغرب على التوالي.

وختاماً، آملُ أن تُسهمَ ترجمتي لهذا الكتاب في

Exit mobile version