لتحميل الكتاب أنقر فوق صورة الغلاف أو أنقر هتا
عنوان الكتاب: الصحراء العربية… ثقافتها وشعرها عبر العصور – فراءة أنثروبولوجية
المؤلف: الدكتور سعد بن عبد الله الصويان
عرض:محمد تركي الربيعو
يرى القلة من الباحثين في مجال البداوة العربية والتراث الشفوي أن هذا الحقل رغم بعض المحاولات الجادة بقي يفتقر في ساحتنا إلى دراسات مستقلة أو مقارنة لأنماط البداوة المنتشرة في بلدان الجوار الجغرافي مثل البداوة الأفريقية أو الفارسية أو التركية، وأن بعض الدراسات التي أنجزت في هذا الحقل تكاد تخلو أحيانا من أي حوار جاد مع النظريات الأنثروبولوجية (الأناسية) العديدة التي يزخر بها هذا المجال العلمي خاصة في جوانب الإنتاج والبناء الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، حيث لا نعثر في ساحتنا العربية إلا على عدد قليل للغاية من الكتب التي تتناول موضوع الأنثروبولوجيا كموضوع مستقل، وبقيت هذه المادة محصورة لدى قلة من النخبة العربية وخاصة المغربية بحكم أسباب عديدة لا تتعلق باللغة فقط.
حيث ترى هذه الفئة القليلة أن الثقافة الجاهلية كانت ثقافة شفهية مما يمكن من فهمها بشكل أفضل من خلال الاطلاع وفهم أفضل للثقافات القديمة التي لم تترك لنا أثرا مكتوبا أكيدا أو حضارة ذات دلالة مادية.
ولعل أشهر دراسة نجد فيها استفادة واضحة من أدوات الحقل الأنثروبولوجي هي دراسة المرحوم محمد عابد الجابري حول “العقل السياسي العربي” والتي جاءت في لحظة كانت الأيديولوجية الماركسية تعشعش في عقول عدد كبير من الباحثين العرب والذين قسموا المجتمعات سواء القديمة منها أو الحديثة إلى بنيتين فوقية وتحتية، بينما كانت الأنثروبولوجيا تقدم فتحا جديدا حول مفهوم القرابة وتداخل الديني والسياسي والاقتصادي، وإلى رفع الحصار في وعينا عن مفاهيم وتصورات كان العلم الاجتماعي الأوروبي يقمعها فينا قمعا بحسب تعبير الجابري.
وكان لأهمية التداخل الاجتماعي والاقتصادي والسياسي أن اقترح الجابري قراءة للمرحلة الإسلامية المبكرة بمزج عدة محددات أهمها:
عنصر القبيلة والذي يقابله في حقل الأنثروبولوجيا مصطلح القرابة، وعنصر الغنيمة والذي تقابله في الجانب الأنثروبولوجي الدراسات الحديثة وخاصة حول اقتصاد البداوة والذي باتت تراه اقتصاد وفرة وليس اقتصاد قلة، وبوصف الجوع والفقر مفهومين نسبيين، وباعتبار الغزو في أحيان عديدة ذا طابع سياسي ومعطى من معطيات السوسيولوجيا البدائية مارسها العديد من الشعوب الأخرى مع التنبه أن الجابري مارس انتقائية في هذا الجانب ولم يغر كثيرا في أدوات هذا الحقل، مقارنة بمحاولات المرحوم حسن قبيسي -على الرغم من الخلفية العلمية نفسها- الذي قام بترجمة أعمال عديدة عن الأناسة وأصدر كتبا في قراءة المورث الثقافي العربي من منظور أناسي.
ضمن هذا السياق يبرز في السنوات الأخيرة الدكتور سعد الصويان والمختص في الأنثروبولوجيا ليؤسس لأول عمل عربي موسوعي عن البداوة ولكن من منظور أنثروبولوجي –وهنا تكمن الأهمية- سواء من ناحية الموضوع الذي يلقى إهمالا واضحا بدعوى الحداثة وعدم الجدوى من هذه الدراسات، أو من خلال الأدوات والنتائج الجديدة والتي على الرغم من جديتها تبقى غير صحيحة كاملة أو نهائية كما يعبر عن ذلك المؤلف في مقدم الكتاب.
وقد فسر البعض كلام الصويان بوصفه يعبر عن تهرب من نتائج هذه الدراسة وردود الفعل حولها، بينما نعتقد بأن قلق الكاتب الأساسي نابع في هذه اللحظة من سيارة اللكزس (العولمة) التي أخذت تجرف في طريقها كل بقايا الثقافات الأخرى دون أن يكون هناك أي جهد عربي علمي لحفظ هذا الموروث من الاندثار، وهو قلق مشابه لما عبر عنه الأنثروبولوجي الشهير كلود ليفي شتراوس في رحلته إلى المدارات الحزينة (البرازيل) حيث كان يقول “بضع مئات من السنين، وفي هذا المكان بالذات سيأتي مسافر آخرلا يقل عني يأسا يتأسى على اختفاء ما رأيته وما فاتني، لأن كل ما المحه يجرحني وألوم نفسي على الدوام لأني لا أطيل النظر”.
وبرأي الكاتب أننا غالبا ما نتبنى -دونما أن نشعر- وجهة النظر الحضرية وتحيزاتها ضد القبيلة والتي تسعى لتحل محل سلطة الدولة لتبدأ بأعمال السلب والنهب وفرض الإتاوات.
كما أن هذه النظرة البسيطة برأينا هي ما دعت البعض للحديث عن “الإسلام البدوي” والذي يعاني من فقر من ناحية الطقوس والميثولوجيا، وهنا قد نختلف حتى مع الكاتب الذي يتفق مع هذه الأفكار بعض الشيء على الرغم من موافقتنا على ندرة الطقوس في حياة أبناء القبيلة، فلسنوات قليلة كنا لا نجد بين أبناء القبائل العربية في الجزيرة السورية مثلا إلا القليل ممن يؤدون واجب الصلاة وكثيرا ما كان ينظر لمن يقوم بهذا الفرض بنظرة دونية.
كما أن معظم رجال الدين في محيطنا الاجتماعي كانوا من أرومة غير عربية، لكن ذلك لا يعني بتاتا أننا لا نعثر في الجانب الأخر على قاع مغرق في القدم لفكر أسطوري، وعن عالم يلعب الدين والسحر فيه دورا كبيرا وتدور في محيطه العديد من سوالف “الجنيات” و”السعلوات”.
لغز الهبة (الكرم)
نتيجة الاختصاص في العمليات الإنتاجية يصبح إنتاج الغذاء في المجتمعات الحضرية وقفا على عدد قليل من أفراد المجتمع بينما يتفرغ الباقون لمهام أخرى يجنون من ورائها الدخل للحصول على الغذاء.
ويؤدي تقسيم العمل هذا إلى فصل الوظيفة الإنتاجية لتصبح مستقلة عن الوظائف الاجتماعية الأخرى ويصبح هدفها إنتاج الفائض وتخزينه مما يجعل تكديس الثروة أمرا ممكنا.
بينما يشكل الترحال نمطا أساسيا من حياة البدوي، وتشكل المغامرة مركبا هاما من مركبات شخصيته، لذلك يزدري البدوي حياة الحضري الذي في نظره لا يضرب بالسيف ولا يقري الضيف، ويفخر عليه بأنه حر أبي يذهب حيثما يشاء وشجاع يعيش في ظلال رمحه ويحصل على رزقه بسيفه، بينما الحضري مربوط إلى بيته الطيني يكدح ويكد طوال النهار مثل المستعبد المستكين. نذكر القارئ هنا بما كان يقوله ماركس والذي يعتبر بمعنى من المعاني أنثروبولوجي حول العمل كعبودية وكذلك نشير هنا إلى لفظ المدينة لدى ابن منظور، فالمدين كما يرد في لسان العرب هو العبد والمدينة هي الأمة المملوكة والتي أذلها العمل.
والبدوي يحن للغزو ليل نهار،لا لأجل الغنيمة وإنما لما في عملية الكسب ذاتها من الإثارة، وحالما تقع الغنيمة في يديه ويضمن الحصول عليها فإنها تفقد جاذبيتها بالنسبة له ويهبها للآخرين ليبدأ التخطيط لمغامرة أخرى، ولذلك غالبا ما يتراءى وكأن البدو ينظرون إلى الغزو كضرب من الرياضة.
ومن جانب آخر حياة البداوة تحد من إمكانية التكديس والتخزين والتوفير، مما ينمي نزعة المشاركة التي تتمثل في النخوة والشهامة “الفزعة” فيصبح الهدف من الإنتاج هو مجرد الاكتفاء الذاتي والإشباع المباشر لحاجات أفراد الوحدة الإنتاجية أي العائلة، وهذا ما يسمى بالإنتاج الطبيعي أو العائلي.
والاستثمار في هذه المجتمعات لا تحكمه اعتبارات مادية وإنما اعتبارات اجتماعية وقيم ثقافية تعمل على توسيع دائرة العلاقات الاجتماعية وتدعيمها. أي أنه لا توجد أهداف اقتصادية من وراء الإنتاج وإنما أهداف اجتماعية يتم تحقيقها عن طريق ممارسة نشاطات اقتصادية ذات طابع اجتماعي، كإنفاقها بكرم على شكل هبات وإقامة الولائم والتباهي في البذل، مثلهم في ذلك مثل ممارسة البوتلاش بين هنود أميركا الشمالية.
وبالتالي فإن الكرم هو الاستثمار الوحيد الذي يمكن التعويل عليه في مجتمع لا يعرف التكديس والتخزين، بمعنى أن الإنسان يتوقع من الجميع أن يبادلوه كرما بكرم وهذا ما يسمونه بالمفهوم الأنثروبولوجي “اقتصاد المهاداة”.
ومن أهم طقوس الضيافة في الصحراء إعداد القهوة وتقديمها، ويتضح لنا مدى تغلغل الطقوسية والرمز في إعداد القهوة العربية وتقديمها بمجرد مقارنتها بالقهوة التركية أو الأميركية. فالهاون الذي لا يفتر صوته والنار التي لا تنطفئ علامتان من علامات الكرم البارزة، لكن اللافت للانتباه أن الموقع المتميز الذي يحتله موضوع القهوة في بناء القصيدة النبطية يختلف إلى حدا ما بين تناول شعراء الحضر عن شعراء البدو في طريقة تناولهم القهوة موضوعا شعريا.
فشعراء الحضر يتناولون القهوة من زاوية فنية بحتة تقتصر على الكيفيات والخطوات التي يتم بها إعدادها، دون أن يستخلصوا من القهوة معنى إنسانيا ورمزا اجتماعيا. أما الشعر البدوي فإنه وجد في القهوة لغة شعرية جديدة استطاع توظيفها لترسيخ بعض القيم الأساسية التي تتطلبها حياة الصحراء، حيث يقدم الشاعر الفنجان الأول من الدلة إلى من يستحق المركز الأول من الشجعان والكرماء الذين يجمعهم مجلس شيوخ القبيلة، لكنهم يصرفون الفنجان عن الجبان الذي لا يرافقهم في الغزوات.
البدوي الأخير والفطرة السياسية
لقد انتهى الصراع بين الدولة والقبيلة في عصرنا الحاضر وحسم لصالح الدولة، لكن القبيلة برأي الكاتب لم تفقد دورها تماما حيث تحولت إلى ما يشبه مؤسسة من مؤسسات المجتمع المدني الأكثر فاعلية داخل الدولة الحديثة.
فحياة الصحراء بمواردها الشحيحية وأوضاعها المتقلبة ونزاعاتها التي لا تنقطع منحت القبائل المرونة والحركية اللازمة لإدارة الأزمات والمناورات والمفاوضات والمساومات مع التحلي بالصبر والإصرار، وذلك من أجل الحد من الخسائر وتعظيم المكاسب ولضمان البقاء والاستمرارية.
لذلك هم يجيدون اللعبة السياسية أكثر من الحضر الذين يميلون نحو السكونية والتشبث بالمسلمات والثوابت مما يحد من مرونتهم وحركيتهم في التعاطي مع الأزمات والمستجدات.
ولا يخلو النظام القبلي من ممارسات ديمقراطية، ربما لهذا السبب كانت التجمعات القبلية في منطقة الخليج دوما هي الأقدر على استيعاب العملية الديمقراطية وعملية الترشيح والحملات الانتخابية. فأصحاب المناصب العامة عندهم مثل الشيخ والعقيد، يتم اختيارهم طواعية ومن منهم يثبت عدم كفاءته أو ينزع نحو الاستبدادية ينفض عنه أفراد القبيلة ويلتفون حول أحد غيره.
ويستمد شيخ القبيلة سلطته على أفرادها بحكم القرابة، لكن لقب الشيخ لا يوحي بسلطة استبدادية وإنما بزعامة تقليدية دون أن توجد وسائل ضغط أو ضبط رسمية لممارسة هذا النوع من السلطة وفرضها على الغير، والشيخ لا يمارس القهر على أبناء قبيلته لأنه محتاج إليهم غالبا للعصبية التي بها المدافعة، فلذلك نجده مضطرا إلى إحسان ملكتهم وترك مراغمتهم، لئلا يختل عليه شأن عصبيته فيكون فيه هلاكه وهلاكهم.
وقد لاحظ بعض الرحالة ضعف سلطة الشيخ أحيانا الذي لا يستطيع الإقدام على أي خطوة لا يقرها الرأي العام عند الغالبية من أبناء القبيلة، بصرف النظر عن ما يراه هو شخصيا.
وبالتالي ضمن هذه البيئة المسيسة تظهر الإشكالية التي تواجه بلدان الجزيرة العربية في مسيرتها التحديثية هي: كيف يتم تحويل الولاءات التقليدية وتجيير هذه الولاءات للوطن؟ وكيف نستبدل مفهوم القبيلة بمفهوم الدولة؟
وبرأي الصويان فإنه ينبغي ألا نضع ابن القبيلة أمام الخيار الصعب بالإصرار على أن هويته الوطنية وولاءه للدولة يحتمان عليه التخلي عن هويته القبلية، بل يمكن أن تتحول القبيلة إلى ما يشبه مؤسسة من مؤسسات المجتمع المدني أو نقابة من النقابات، ومن ناحية أخرى فإن على الدولة أن تثبت لابن القبيلة أنها خيار ناجع يمكن أن يحل محل القبيلة وبشكل أكثر فاعلية وكفاءة فيما يحتاج من خدمات وما يحقق مصالحه وأهدافه
لقراءة الكتاب:
http://www.saadsowayan.com/html/book5-ar.html