المؤلف: لحسين غباش
عرض: وفيق غريزي
يهدف هذا الكتاب الى إلقاء الضوء على تاريخ الشعوب لا التاريخ الرسمي، وعلى نحو خاص الثقافة الوطنية التقليدية، وليس الثقافة الرسمية وليدة الحقبة الكولونيالية. يتأمل خصوصياتها وثوابتها التي ولدت الحركات الإصلاحية والحراك الديموقراطي، منذ عشرينات القرن العشرين، هذا الحراك الذي ما برح فاعلاً على الساحتين الكويتية والبحرينية. كما يأخذ المؤلف على عاتقه تبيان كيفية التعامل الكولونيالي البريطاني مع هذه الظواهر التاريخية، وايحاءات تشكل المجتمعات الحديثة، وبالتالي كيف عملت على إجهاضها في المهد، الواحدة تلو الأخرى؟ وكيف فرّغت المجتمعات الخليجية من روافعها وقوى نهوضها، لتتحول الى محميات بريطانية، مفرغة من هويتها الوطنية والثقافية. مبدأ المشاركة الديموقراطية يطرح المؤلف ثلاث فرضيات مؤسسة يسوقها في هذا الكتاب: أولاً: إن مبدأ المشاركة العرفي التقليدي، هو مبدأ مؤسس للثقافة السياسية الوطنية. وثانياً: إن كل الثقافات الإنسانية تحمل قيم مشاركة ومساواة. وهي جوهرياً قيم ديموقراطية. هذا يعني أن كل المجتمعات مسوقة، بالضرورة، الى انتاج ديموقراطيتها الخاصة بها. «لا جدال في ذلك، ولنا في التجربة الكويتية أولاً، وفي المحاولات الجادة في البحرين ثانياً، ما يكفي من الدليل لإثبات فرضياتنا». وأنه لولا تمكن الكولونيالي من فرض سيطرته على المنطقة، وتفكيكه للنسيج الاجتماعي، وبالتالي ضرب ثوابت الثقافة الوطنية، لتمكنت هذه المجتمعات الصغيرة من أن تبني نظمها الوطنية الديموقراطية الأصيلة. فالقاعدة هي أن كل أصيل، أكان عرفاً أو تقاليد، مسوق، بقوة الواقع، بحكم حركة التطور، بأن ينمو ويتشكل لو تمت المحافظة عليه. وثالثاً: إن طبيعة الثقافة التقليدية، المرتكزة على مبدأي التفويض والمشاركة، لا يمكن أن تنتج نظماً استبدادية، ناهيك عن ثقافة استبدادية. ويرى المؤلف كيف كان للثقافة الوطنية تأثير مباشر في حركة التاريخ الوطني، وفي انتاج التاريح الوطني. إذ إن الإرباك في الثقافة الوطنية كما يقول المؤلف: «نتيجة لدخول العامل الكولونيالي الى الفضاء الخليجي، أدى الى انقطاع السيرورة التاريخية، كما أخذ منعطفاً تاريخياً جديداً، هو التاريخ الرسمي». وفي خلاله ظهرت نظم الاستبداد والتسلط. بهذا المعنى، فإن ثقافة الاستبداد ليست نبتة طبيعية، بل نبتة زُرعت قسراً في الثقافة الوطنية في منطقة الخليج العربي. ويؤكد المؤلف أنه يتوجب علينا التعرف الى طبيعة الديموقراطية وماهيتها. التعريف الحقيقي للديموقراطية يسمح لنا بتقصي القيم، والتقاليد، والممارسات الديموقراطية في الثقافة الوطنية التقليدية لشعوب المنطقة. ويتساءل المؤلف: ما هي فكرة الديموقراطية، ما جوهرها؟ هل هناك ديموقراطية أم ديموقراطيات؟. هل الديموقراطية نظام سياسي أم قيمة ثقافية متأصلة؟ هل الديموقراطية منهج أم عقيدة؟ أهي غاية أم وسيلة، أم نمط حياة؟ ما علاقة الديموقراطية بتقاليد الشعوب وأعرافها؟ هل تُبنى خارج ثقافات الشعوب أم يجب أن تنبع منها؟ ويعتقد المؤلف بأن البرلمانات المنتخبة، نظم فصل السلطات، الحريات العامة، المساواة أمام القانون، هي من خصائص الأنظمة الديموقراطية، لكنها لا تعرفها، إنها تظهر الديموقراطية تعمل في الحياة السياسية. ويقول: «إن الديموقراطية، التي تبدو سهلة الاستدلال، أقله في الشكل، تظل متعالية على التبسيط السياسي، وتبدو للوهلة الأولى، عصية على التعريف». وبحسب أرسطو، فإن طبيعة شيء ما هي فكرته أو شكله. ويبقى أن الشكل شكل، والجوهر جوهر، لذلك، التعرف الى الشيء يستوجب التعرف الى فكرته، الشكل الخارجي المعروف للديموقراطية، هو حكم الشعب، عبر ممثليه، أو ما يُسمى بحكم الأغلبية، وهو تعبير تعوزه الدقة، ولا يستقيم نظرياً، لأنه من غير الطبيعي، كما يقول جان جاك روسو «أن تحكم الأغلبية الأقلية». أما أسبينوزا فيقدم لنا جملته الشهيرة «الديموقراطية هي قريبة الى المنطق والى الطبيعة البشرية». تنطوي هذه العبارة على ايحاءات عميقة على فكرة الديموقراطية، وهي أكثر الطروحات دعوة الى التأمل. البنية الثقافية التقليدية في الخليج من أجل الإمساك بالجذور الثقافية للديموقراطية في المجتمعات الخليجية، يتوجب علينا الرجوع الى منبت الثقافة السياسية. «البيئة الاجتماعية والثقافة التقليدية، هما أرضية الثقافة السياسية الوطنية. هما الفضاء الخليجي المشترك، الذي كان سائداً قبل وصول الكولونيالي البريطاني عام1820. ويحاول المؤلف هنا الكشف عن مصادر الثقافة السياسية التقليدية. وجدير بالذكر أن مصطلح الثقافة التقليدية غالباً ما يُعطى مدلولاً سلبياً، في حين أن صفة التقليدية، هنا، ليست إلا للدلالة على أصالة الثقافة ودورها الايجابي في التاريخ. «فهي البيئة التي نمت وأثمرت فيها منظومة القيم، ومنظومة الأعراف، السياسية والأخلاقية والحقوقية، بل والفكر الإصلاحي الديموقراطي ذاته، وعلى نحو خاص في عمان والكويت». يتوجب علينا أن نتلمس خصائص الثقافة التقليدية، مراكز القوة والضعف فيها. فيحاول المؤلف الإمساك بالنبض الإصلاحي الداخلي في المجتمعات الخليجية. علينا الاستدلال على طبيعة السلطة وعلاقة الحاكم بالمحكوم. معرفة مصدر شرعية السلطة، وموقع الفرد من الجماعة، فضلاً عن مسألة انتقال السلطة من حاكم الى آخر. بين القبيلة والعشيرة إن طبيعة الثقافة هي التي تحدد طبيعة السلطة، ثمة مسألتان تشكلان مرتكزي الثقافة السياسية. طبيعة السلطة، مصدر شرعيتها التقليدية، شروط استمرارها، ومكانة الفرد وعلاقته بها، يقوم البناء الاجتماعي على قاعدتي القبيلة والعشيرة والى حد ما الأسرة. المفتاح الرئيسي يقول المؤلف: «لفهم الثقافة التقليدية بصورة أدق، هو في معرفة الفوارق الجوهرية بين نظام القبيلة، المولدة للشرعية، ونظام العشيرة، أو النظام الأسري المحدود. ولكليهما ثقافته الخاصة». الفارق الجوهري بين القبيلة والعشيرة، هو فارق بنيوي، وعلى نحو ما ثقافي. فطبيعة السلطة في العشيرة، على نقيض النظام السياسي في القبيلة، وراثية. لا تحكمها بيعة أو إجماع. وغالباً ما يقع الكتاب والمؤرخون الأجانب والعرب في هذا الالتباس الشائع. من النماذج التي يمكن تقديمها لسوء الفهم السائد هو مسألة القبيلة والعشيرة، نجده في كتاب «صراع القبيلة والديموقراطية، حالة الكويت» للدكتور خلدون النقيب. تعرف القبيلة في الأنثروبولوجيا السياسية بمؤسسة سياسية. لكونها مخزن القيم والتقاليد والأعراف. هي إذن مخزن الإرث الثقافي التاريخي للإنسان، وكون القرارات لا تتخذ في حضنها إلا بالتشاور، بالإجماع، بالالتزام الأخلاقي والمعنوي». لكل نظام ثقافته ورؤيته للإنسان والوطن، إن عملية منح الثقافة والالتزام بقواعدها في ثقافة القبيلة التقليدية، الثقافة الوطنية، أنتجت الثقافة السياسية، أي ثقافة المشاركة المشيدة على قاعدة الإجماع والتعاقد. وقد أرست بدورها الأسس لثقافة المواطنة، ويجد كلا الطرفين المتعاقدين كرامتهما ومكانتهما الطبيعية في المجتمع. والفرد، هنا، كائن عضوي، منتمٍ، هو ذات اجتماعية واعية لذاتها ومكانتها. والشعور بالذات، هو شعور بالوجود، بالديمومة. الحركات الإصلاحية الوطنية منذ مطلع عشرينات القرن العشرين، وبخط موازٍ للتاريخ الكولونيالي، بدأت تتشكل ملامح وجه التاريخ الوطني. فقد ولد، من رحم الثقافة التقليدية أول مجلس في الكويت عام 1921. كان حدثاً مؤسساً، مشحوناً بالدلالات والرمزية. ويقول المؤلف في هذا الصدد: «أتى المجلس كثمرة مقايضة تاريخية، تمت بين الشيخ أحمد الجابر، الذي طلب مبايعة أهل البلاد، أي تفويضهم له، وبين أعيان البلاد، الذين أرادوا، بدورهم، ممارسة حقهم الطبيعي، في أن يكون لهم رأي فيمن يحكمهم وكيف يحكمهم. لبى الحاكم طلبهم بمنحهم مجلساً يشاركه في الحكم، وبالمقابل منحوه هم الشرعية ليحكمهم». جسد هذا الفعل المؤسس المضمون الديموقراطي التقليدي للثقافة الوطنية التقليدية. وسيرسي المجلس ثوابت ومبادئ الثقافة السياسية الوطنية. أهمها أن الأمة هي مصدر الشرعية، وأن للمواطنين الحق في اختيار من يحكمهم، وللمواطن الحق، عبر مجلسه، في المشاركة في الحكم. وستتحول هذه الثوابت الثقافية لاحقاً الى مواد قانونية يحفظها دستور وطني حرص على التعبير عن كل مكونات الثقافة الوطنية. ويشير المؤلف الى أنه بعد 17 عاماً أتت الموجة الثانية. كانت مرحلة مفصلية كبيرة وانتخب الوطنيون مجلسهم عام 1938. كان حدثاً كبيراً بكل المقاييس. سيعيد المجلس من جديد، التأكيد على الثوابت الوطنية ويعززها. وسيدخل الى البلاد، ضمن جملة المسائل، الثقافة الدستورية بمفهومها الحديث. «كما ستنتج عن هذه المرحلة مفاهيم جديدة للدولة، والمواطنة، والحقوق العامة والخاصة. وفي النهاية سيحدد مسار البلاد وقدرها الديموقراطي». كما الكويت كان للبحرين نضالها الوطني، وقدرها التاريخي، لم تفلح مثل الكويت. لم تتحقق أحلام البحرينيين. كان مسارها الديموقراطي متعثراً، لأن ثقل الاستعمار أشد وطأة عليها، مع ذلك قدمت تجارب إصلاحية ستطبع التاريخ المعاصر للمنطقة بأسرها. ولدت أول فكرة لمجلس عام 1923، ولكنها أجهضت في المهد، ولأن الفكر الحقيقي لا يموت، خصوصاً إذا ارتبط بوجدان الشعوب، عادت «المطالبة بالمجلس عام 1938. وقمعت المحاولة. وبعدها أتت هيئة الاتحاد الوطني عام 1956. ومع أنها لم تستمر إلا أشهراً معدودة، كانت مكثفة بالحوادث، بالفعل السياسي، بالدلالات، بالصراع الحقيقي، بالتآمر الانكليزي، بالتحدي الوطني، كانت ملحمة صغيرة بحجم البلاد وأهلها». هي الأخرى ضربت. لكن بعد أن جذرت الصراع، وأعطته بعداً تاريخياً. وبعد أن جعلت من مطلب الحرية وحقوق المواطنة مسألة لا مناص منها. كما أثبتت الهيئة، أن الوعي القومي العام هو إحياء للوعي الوطني ومكمل له. وفعلاً انتخبت البحرين مجلسها الوطني الأول عام 1973. بيد أن بريطانيا كانت دائماً بالمرصاد، فضربت كل الحركات الوطنية والديموقراطية، التي ترمز الى التقدم والرقي الحضاري ومثار تفاخر في المتروبول، مرفوضة في المستعمرات، لا بل إن المطالبة بها تمثل جرماً يُعاقب عليه بالسجن والنفي. ونذكر في هذا المجال أن الديموقراطيات الغربية، مع كونها أحد مكاسب الصراع في وجه الإقطاع والرأسمالية في الغرب، هي التي استعمرت العالم العربي والأفريقي والآسيوي. فهي أيضاً غازية ومحتلة ومستعمرة ولا تزال حتى يومنا هذا، فهي ليست كما يقول روجيه غارودي، حركة ثقافية فحسب، وإنما ميلاد الرأسمالية والاستعمار المتلازمين، وهي أبعد من أن تكون ذروة المذهب الإنساني، حيث صدمت حضارات أرقى من حضارة الغرب في علاقتها بالإنسان والطبيعة. بدء تاريخ الخليج بدأ تاريخ الخليج العربي المعاصر، السياسي كما الثقافي، في النصف الثاني من القرن الماضي، ويمكن تقسيمه، يقول المؤلف: «الى مرحلتين متباينتين متداخلتين، لكن غير متمايزتين تماماً. فالتاريخ السياسي، كما الاجتماعي والثقافي. لا ينقطع تماماً. إذ غالباً ما تسير المرحلتان جنباً الى جنب، أو كما يحدث أحياناً، في حالات العنف والثورات، تتقدم واحدة على الأخرى». بيد أنه إذا تقدم الجانب السياسي، وهو غالباً الأسرع في التحول، لا يعني أن الاجتماعي أو بالتأكيد الثقافي، قد تقدما أيضاً. ذلك لأن لكل جانب سيرورته وصيرورته وايقاع تطوره. في المرحلة الأولى، كان الخليج، معروفاً بالمحميات البريطانية، مغيّب عن الهوية الوطنية، مبعثر اجتماعياً، موغلاً في ثقافة العشيرة والرعية. وفي المرحلة الثانية يقول المؤلف: بدا المسرح مختلفاً تماماً. كان مشهد يقظة الانتماء الحقيقية التي عبرت عنها الشعوب بأشكال مختلفة، لخصت في مجملها لحظة الوحي بالذات الثقافية والوطنية». وضمن هذا التحول الثقافي التدريجي بدأت تتوالد جملة من المفاهيم السياسية الحديثة، مثل مفهوم الوطن والدولة والشرعية والسيادة وغيرها، لتعزز بدورها ثقافة التحرر الوطني والقومي. يقدم لنا هذا الكتاب قراءة انثروبولوجية سياسية للتاريخ السياسي للكويت والبحرين خاصة، ولمنطقة الخليج عامة، كما يقدم قراءة معمقة للثقافة الوطنية التقليدية ودورها في صوغ الرؤية وتشريع المطالب الإصلاحية.