الكتاب: الأنثروبولوجيا التطبيقية
سياقات التطبيق ومجالاته المتعددة
تأليف: ساتش كيديا وجون فان ويلجن
ترجمة: د. هناء خليف غني
الجزء الرابع
قطاع التغذية: لاحظ كل من ديفيد أ هملغرين (David A. Himmelgreen) وديبورا ل كروكس (Deborah L. Crooks)، انه على الرغم من اختلاف الأنتماءات المعرفية للعاملين في حقل الأنثروبولوجيا التغذوية لجهة قدرتهم على توظيف المنظورات النظرية المتنوعة، وعملهم في مختلف النظم الأنثروبولوجية الفرعية، فإنهم متفقون على أمرٍ واحدٍ هو رغبتهم في فهم طبيعة الأوضاع التغذوية للشرائح السكانية ومحاولة تحسينها. وبالنظر الى التأثير العميق الذي تمارسه العوامل البايولوجية والاجتماعية-الثقافية في أختيار أصناف الطعام واستهلاكه في المجتمعات البشرية، فإن خبرات الأنثروبولوجيين في هذين المجالين تجعلهم يحظون بأهمية بالغة بالنسبة للمسؤولين في قطاع الصحة العامة الذين يرغبون في الحصول على قواعد بيانات بحثية عالية المصداقية ومختصة ثقافياً للمساعدة في رسم السياسات الخاصة بالمشكلات التغذوية. وتحدث كل من هملغرين وكروكس عن الأنثروبولوجيا التغذوية بوصفها حقلاً معرفياً فرعياً جديد نسبياً يعود تاريخ تأسيسه الرسمي الى سبعينيات القرن العشرين على الرغم من كثرة الدراسات والأبحاث القيمة حول ممارسات الطعام التي كتبها الأنثروبولوجيون الاجتماعيون البريطانيون قبل الحرب العالمية الثانية.
وطبقاً للكاتبين، تُعدَ مارغريت ميد أول عالمة تستخدم المناهج الأنثروبولوجية في كتابة الأبحاث التغذوية التطبيقية في أربعينيات القرن العشرين التي أُجريت برعاية (لجنة العادات الغذائية) التابعة لأكاديمية العلوم الوطنية التي جمعت معاً علماء التغذية، والاجتماع، والسلوك. وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية، تحولت الأنثروبولوجيا التغذوية في اشتغالاتها وعملها نحو البحث الرمزي والعلاماتي في الدراسات الثقافية، كما دللّ على ذلك هملغرين وكروكس في إحالتهما على ليفي شتراوس وفيرو-لوزي، وهاربر، ودوغلاس. وتناول الكاتبان كذلك الدراسات التغذوية التي تمخضت عن (حركة الوعي الاجتماعية) التي نشطّت في ستينيات القرن العشرين، فضلاً عن أعمال الأنثروبولوجيين البايولوجيين منذ ثمانينيات القرن العشرين. ويؤكد هملغرين وكروكس على أهمية التوسع والتطور الذي ما برح فرع الأنثروبولوجيا التغذوية يشهده في العديد من الميادين والمجالات الجديدة التي تشترك في توظيفها للمقاربات الكلية التي تركز على “الايديولوجيات الثقافية الملازمة للجوانب الاجتماعية المعتمدة في تنظيم الطعام وتوزيعه، والتي بدورها تؤثر في أنماط استهلاكه، وفي أوضاع الأفراد التغذوية”.
وعرض الكاتبان مراجعة لأفضل ثلاثة نماذج نظرية معروفة في الأنثروبولوجيا التغذوية؛ وهي النماذج الايكولوجية، والتكيّفية، ونموذج الاقتصاد السياسي، وأكدا ان التقنيات الكمية والنوعية المتنوعة، والتي تتراوح من أساليب القياس الأنثروبولوجي الى مسوحات قواعد البيانات الميدانية، ومن تدوين الملاحظات الأثنوغرافية الى التقويمات الصحية، تؤلف بمجملها حزمة الأدوات الأساسية المتاحة أمام الأنثروبولوجيين التغذويين الذين ينبغي لهم، وبالقدر نفسه، العناية بالتقنيات والمقاربات المعتمدة في الحقول المعرفية الأخرى أمثال التنمية، والزراعة، والجغرافية. وفي السياق ذاته، أشاد هملغرين وكروكس بظاهرة انخراط العديد من الأنثروبولوجيين التغذويين في كتابة البحوث والدراسات متمازجة المعارف؛ الأمر الذي يعكس تداخل مصالح الممارسين المعنيين بهذه الدراسات واشتغالاتهم في ميادين الثقافة، والاقتصادات الاجتماعية والتنموية، وسياسات إعداد البرامج، ووضع آليات التقويم. كما تحدث الكاتبان عن تنامي أهمية بعض المجالات البحثية الأخرى ذات الصلة بالتغذية، وأفاضا في الحديث عن ضرورة تحسين فرص بقاء الأطفال على قيد الحياة، وظاهرة سوء التغذية في الدول النامية، والإفتقار للأمن الغذائي، ومشكلات البدانة العالمية.
التوطين القسري:
يشهد العالم يومياً أنتقال ملايين البشر، طوعاً أو كرهاً، من محال سكناهم الأصلية للعيش في أماكن جديدة قد يفقدون فيها مقومات حياتهم التقليدية، وقدراتهم الاقتصادية. وهناك العديد من الأسباب التي تضطرهم الى ذلك، منها الحروب والكوارث الطبيعية، ومشاريع التنمية الكبرى. ودراسة انثوني اوليفر-سمث (Anthony Oliver-smith) معنية بدراسة الآثار الناجمة عن عمليات الترحيل القسري وإعادة التوطين الناجمة عن تنفيذ هذه المشاريع، والمعروفة أختصاراً بـ (DIDR). وبالطبع، وتماشياً مع المحور الرئيس في هذا المجلد، تتحدث دراسة اوليفر-سمث عن الدور الذي أضطلع به الأنثروبولوجيون التطبيقيون، وما زالوا، منذ أواسط القرن العشرين، في التخفيف من حدة التأثيرات السلبية الناجمة عن تنفيذ مشاريع التنمية في المناطق التي تقطنها المجتمعات المحلية المحرومة من كل من أسباب العيش وحقوقها الإنسانية. ويؤكد سمث على تصميم العاملين في هذا الفرع على بذل المزيد من الجهود، في المستقبل، “للتصدي للتحديات الناجمة عن تنفيذ مشاريع التنمية ((DIDR في مستوى المجتمع المحلي والمشروع التنموي ذاته، وفي مستوى الخطاب السياسي القومي والدولي الفاعل ضمن الأطر السياسية المعتمدة في المؤسسات متعددة الأطراف”.
وطبقاً لاوليفر-سمث، تهدف مشاريع التنمية عموماً الى زيادة رفاهية الشرائح السكانية المحلية وقدرات الدولة الاقتصادية عن طريق تحسين القدرات الإنتاجية، وبالتالي زيادة قدرة السكان على الإستهلاك في المناطق التي تُنفذ فيها المشاريع. غير ان إمكانية تنفيذ هذه المشاريع بأسلوبٍ أخلاقي وديمقراطي ما زال محل جدلٍ وخلافٍ. وبهذا الصدد، تحدث أوليفر-سمث بفخر عن تحدي الأنثروبولوجيين لأيديولوجيات التنمية الوطنية التي تعرض مجتمعات محلية بكاملها لمخاطرالترحيل على حين تعزز الجهات المتنفذة القائمة على هذه المشاريع مكاسبها ومواقعها الاقتصادية والسياسية. وعرض أوليفر-سمث لحالتين دراسيتين أثارت أولاهما جدلاً كبيراً بسبب تواضع النتائج التي أسفرت عنها على حين عُدَت الثانية مثالاً لبرنامج إعادة توطين عملي وديمقراطي أشترك في تنفيذه، بفاعلية ونجاح، عددُ من الأنثروبولوجيين وعلماء الاجتماع. ولاحظ اوليفر سمث انه على الرغم من إمتداد جذور دراسات الترحيل القسري والتوطين الناجم عن مشاريع التنمية الى عمليات التوطين القسري التي فُرضت سياسياً في الحرب العالمية الثانية، لم تنطلق الدراسات التجريبية والنظرية في هذا المجال انطلاقتها الحقيقية الا في ثمانينيات القرن العشرين بعد النتائج المروعة التي أسفر عنها تنفيذ العديد من مشاريع البنى التحتية الضخمة في انحاء العالم، وكذلك صدور دراسة ثير سكدر واليزابيث كولسون (1982) القيمة التي تستكشف نماذج الترحيل القسري والتوطين وتأثيراتها المحتملة. كما تناول الكاتب عدداً من الدراسات والنماذج الأخرى المتصلة بالترحيل القسري وإعادة التوطين أمثال نموذج (مخاطر الإفقار وإعادة التوطين) (IRR) الذي وضعه مايكل م. سيرنيا وحاول فيه خفض مخاطر التدهور البيئي والانهيار الاقتصادي من خلال العمل على ضمان تشكيل عوامل “الإلتزام السياسي، والضمانات القانونية المناسبة، والتوزيع العادل للموارد” جزءاً من عمليات الترحيل القسري والتوطين الناجمة عن مشاريع التنمية.
وبالإستناد الى أحد التحليلات الحديثة للأتجاهات الشائعة في أبحاث التنمية الحالية، تحدث اوليفر-سمث عن ثلاثة منظورات رئيسة بإمكان الممارسين المعاصرين الإستعانة بها؛ هي انثروبولوجيا الدعم/الدفاع، وتحليل أصحاب المصلحة، واثنوغرافيا الايكولوجيا السياسية. وأختتم دراسته بالتأكيد على الحاجة المستمرة لنقد نماذج التنمية التي تفترض ضرورة إعادة توطين المجتمعات والأفراد من دون مساءلة طبيعة البرامج والمشاريع التي تُسهم في قلب حياتهم وبيئاتهم المحلية رأساً على عقب. وطبقاً لاوليفر-سمث، تحظى المعارف المتخصصة والمهارات التحليلية التي يمتلكها الأنثروبولوجيون التطبيقيون بأهمية كبيرة في معالجة هذه المشكلات.
قطاع التجارة والأعمال والصناعة: مرةً أخرى، تؤكد ماريتا ل. بابا (Marietta L. Baba)، الأهمية الاستثنائية التي يحظى بها الأنثروبولوجيون لجهة قدرتهم على فهم الثقافات وتأويلها، ولاسيما الثقافات الفرعية المتجسدة في سلوك المستهلك، وآليات العمل السائدة في الشركات المساهمة الكبرى التي يغلب عليها طابع التنافس الشديد. وتتجلى أهمية مهارات الأنثروبولوجيين وخبراتهم وفائدتها في الأقتصادات العابرة للقارات التي تستلزم من العاملين في هذا القطاع التحلي بالكفاية عبر الثقافية وجملة من المهارات المتنوعة. أستهلت بابا دراستها بمناقشة موجزة للأسس التاريخية التي أستندت إليها الدراسات الأنثروبولوجية التطبيقية في قطاع الصناعة، مع ملاحظة تركيزها على (تجارب هوثورن) الشهيرة التي أُجريت في آواخر عشرينيات القرن العشرين وثلاثينياته، والتي أستعان القائمون عليها بخبرات عالم الأنثروبولوجيا دبليو ليود وارنر لفهم جماعات العمل بأسلوبٍ كلي وتقديمهم بوصفهم نظاماً أجتماعياً متكاملاً. كما تحدثت بابا عن أربعينيات القرن العشرين وخمسينياته بوصفهما العقدين الأهم في تاريخ الأنثروبولوجيا الصناعية تزامناً مع بروز عددٍ من الأنثروبولوجيين الصناعيين الذين نشروا العديد من الدراسات القيمة. ثم تناولت بابا مرحلة التدهور الحاد الذي ألم بالدراسات الأنثروبولوجية المعنية بهذا القطاع، والتي أفضت، في نهاية المطاف، الى توقفها كليةً في المرحلة الممتدة من ستينيات القرن العشرين الى ثمانينياته. وبالطبع، هناك جملة من الأسباب التي أسهمت في حدوث ذلك، أهمها، طبقاً لبابا، التطورات التي شهدها الحقل النظري، وتزايد الحاجة الى المختصين الأنثروبولوجيين، وتفاقم حدة التوترات السياسية، والإشكاليات الأخلاقية في المستويين المحلي والدولي.
وفي الوقت نفسه، أسهمت التطورات الهائلة التي شهدتها النظريات الأنثروبولوجية في تفعيل الأطر التي يوظفها الممارسون اليوم من مثل التنبه الى ضرورة توثيق “المعارف والمعلومات غير الرسمية عن طبيعة قوة العمل وبيئاته” في سبعينيات القرن العشرين؛ معارف أُستعملت في تسعينيات القرن العشرين للتأكيد على تمثيل المعلومات الخاصة بقوة العمل موجودات اقتصادية قيمة. وفضلاً عن ذلك، تحدثت بابا عن المناهج الوصفية والتقنيات الاثنوغرافية التي وظِفت لدراسة طبيعة العمل وآلياته في أوساط المجموعات المهنية والتشغيلية بغية تعزيز قدرة العامل على السيطرة على مفردات العمل والإنتاج، وتوفير المناخ المناسب لتطوير النظريات المنظماتية في العقود اللاحقة. ومع هيمنة الولايات المتحدة في مرحلة ما بعد الحرب العالمية على الأسواق العالمية، وتعرض هذه الهيمنة للتحديات من قبل التكتلات التجارية الكبرى في أنحاء العالم الأخرى، شهدت ثمانينيات القرن العشرين فصاعداً زيادة هائلة في عدد الأسواق الاستهلاكية التي أختص كل واحدٍ منها بعرض أنواع محددة من البضائع تلبي احتياجات الشرائح السكانية المختلفة التي تتميز كل واحدة منها بالأنماط الاستهلاكية الخاصة بها. وهذا طبقاً لبابا، أدى الى تزايد الحاجة الى أنواع جديدة من المعارف لا يمكن الحصول عليها بالوسائل التقليدية، والى مقومَين متدربين اثنوغرافياً، ووسائل متجددة يتمكن بوساطتها قطاع التجارة والأعمال من تحويل وجهة الأنماط الثقافية السائدة في الشركات المساهمة الكبرى من العناية بالمنتج حصراً الى العناية بإحتياجات الأسواق والمستهلكين. وعرضت بابا لحالتين دراسيتين بينَت فيهما الآلية التي يمكن بوساطتها الإفادة من خبرات الأنثروبولوجيين ومعرفتهم بالتشكيلات الثقافية والمنهج الاثنوغرافي في تطوير آليات العمل المعتمدة في هذا القطاع وتوطيد علاقته بعلم الأنثروبولوجي.
وأختتمت بابا دراستها بتسليط الضوء على أهم الجوانب المتضمنة في خبرات الأنثروبولوجيين التي بإمكان العاملين في قطاع التجارة والأعمال الإستعانة بها، ولاسيما قدرتهم على إستدماج نطاقٍ واسعٍ من الظواهر الاجتماعية والسلوكية لتفسير البُنى والتغيرات الثقافية، وتعقب جذور الأنماط الثقافية حتى في حالة عدم امتلاك الباحث معرفة متكاملة بها. وفي السياق ذاته، أكدت بابا ان قدرة الأنثروبولوجيين على دراسة الثقافات الاخرى وفهمها تحظى، في ذاتها، بأهمية بالغة. وفضلاً عن ذلك، أكدت بابا ان براعة الأنثروبولوجيين في إجراء الأبحاث الاثنوغرافية، وقدرتهم على تصوير التجارب والخبرات البشرية بأساليب دقيقة ومبتكرة، وإلتزامهم بحماية الأفراد موضوع الدراسة هو ما يجعلهم الأفضل والأكثر ملائمة لتوظيف المقاربات الإنسانوية في دراسة بيئات العمل السائدة في الشركات المساهمة الكبرى.
قطاع التربية والتعليم:
في دراستها المعنية بقطاع التربية والتعليم، تتناول نانسي ب غرينمان(Nancy P. Greenman)، التربية بوصفها أحد الميادين التطبيقية التي يمكن فيها توظيف المفاهيم والمنظورات الأنثروبولوجية لفهم الآليات التي يكتسب بوساطتها البشر المعارف الضرورية في ثقافاتهم المعنية. ولاحظت غرينمان ان الأنثروبولوجيين التربويين يدرسون الوسائل غير الرسمية التي يكتسب بوساطتها الأطفال والمراهقون المعارف خارج حدود المدرسة. وعليه، تُعنى انثروبولوجيا التربية، طبقاً لغرينمان، بدراسة “عملية اكتساب المعارف، والمهارات، والمواقف، والتبصرات، والخبرات، والتجارب، طويلة الأمد التي تتحقق عن طريق تفاعل الفرد وانخراطه في البيئات الشخصية، والاجتماعية، والثقافية، والطبيعية المحيطة به”.
في دراستها، قدمت غرينمان مراجعة تاريخية موجزة تعقبت فيها جذور الأنثروبولوجيا التربوية الى مطلع القرن التاسع عشر حينما حاول بعض علماء الاجتماع ربط الأنثروبولوجيا بالعلوم التربوية. وذكرت غرينمان بهذا الصدد تركيز عالمة الأنثروبولوجيا ماريا منتسوري (Maria Montessori) على دراسة تأثير الثقافة في أساليب التعلم والتعليم، والتأثير الذي يمارسه علم النفس التربوي، وآراء علماء اجتماع التربية المتأثرة بعلم تحسين النسل، وغيرهم ممن أسهموا في إدامة الممارسات العرقية المتحيزة عن طريق التوصية بجعل “التدريب الصناعي والمهني” محصوراً بالملونين في داخل البلاد وخارجها. وبرزت أهمية المقاربة الحساسة ثقافياً في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية التي توجت بعقد مؤتمر ستانفورد كارمل فالي عام 1954 الذي أُعلن فيه رسمياً عن تدشين هذا الفرع المعرفي.
وترى غرينمان ان تأسيس مجلس الأنثروبولوجيا والتربية (CAE) في 1968، والتحول اللاحق لنشرته الإخبارية الى مجلة أكاديمية مختصة قد أضفى الكثير من المصداقية على هذا الفرع المعرفي ومساراته المستقبلية. وفضلاً عن ذلك، لاحظت الكاتبة ان المقاربة المُسيسة في غالبية العمل الأكاديمي في ستينيات القرن العشرين وسبعينياته، ولاسيما في مجال أنثروبولوجيا التربية، قد تزامنت مع شروع الباحثين في تبني مواقف الدعم والدفاع وميلهم الى توظيف منظورات محددة يأملون عن طريقها تحقيق النتائج المرجوة. وتعالج الحالات الدراسية، التي عرضت لها غرينمان، التحولات في الممارسات التربوية التي كانت الغاية منها تحقيق قدرٍ أكبر من المساواة والعدالة الاجتماعية، وتمكين الطلاب والعائلات من التمتع بحقوقهم. كما أفاضت غرينمان في الحديث عن الحقول المعرفية الفرعية التابعة لأنثروبولوجيا التربية عن طريق إعداد قائمة باللجان التابعة لمجلس الأنثروبولوجيا والتربية (CAE) التي تعكس أعمالها مصالح الجهات المستفيدة وتوجهاتها. كما أوردت غرينمان شهادات مستفيضة من الباحثين الذين عملوا، وما زالوا يعملون، في تحسين الواقع التربوي والتعليمي وإحداث التغيرات اللازمة في قطاع التربية؛ شهادات تحدثوا فيها بالتفصيل عن أهداف هذه التغيرات، والتحديات التي تقف حجر عثرة أمام تحقيقها في مجالات مساعدة الأباء من ذوي الخلفيات الثقافية والاجتماعية المختلفة، ومحاولة تطوير الأنظمة والمجتمعات المدرسية والبرامج متعددة الثقافات. كما لاحظت غرينمان أن أهم ما يُعرف به أنثروبولوجيو التربية هو “عملهم مع المجتمعات المحلية المتنوعة ثقافياً”، وكذلك إمكانية توظيف المعلومات والمعارف الاثنوغرافية “لخلق بيئة تعليمية مناسبة وتطوير المنهجيات البيداغوجية المعنية بطرائق التدريس”. وتحدثت غرينمان كذلك عن الدور الذي تضطلع به اشتغالات المشارك، وتحليل الخطاب، ومناهج التقويم السريع والأبحاث العملية في تعزيز المنهجيات التقليدية المستعملة في الأنثروبولوجيا التربوية، والتي تقف على رأسها تصاميم الأبحاث الاثنوغرافية والنوعية. ولا بد في هذا السياق من الإشارة الى حديث جيوفري أي ملز، (Geoffrey E. Mills)، عن أبحاث الفعل والمبادرة بوصفها “الإستعلام البحثي المنتظم بأستعمال المناهج النوعية” لجمع المعلومات الخاصة بالطرائق التي تدير بموجبها المدارس شؤونها وعلاقاتها بالبيئات التعليمية وغير التعليمية المحيطة بها. وبالمثل، تحدثت غرينمان عن أهمية توظيف تقنيات تقويم النتائج أمثال (استراتيجية تقويم درجة التمكين)، التي وضعها ديفيد فترمان (David Fetterman)، والتي ينخرط فيها المشارك-المبحوث بفاعلية في عملية تقويم البرنامج. وأختتمت غرينمان حديثها بالإشارة الى دور أنثروبولوجيا التربية في توفير الأدوات والمقاربات اللازمة لفهم التغيرات المتسارعة التي ما فتئت تشهدها المجتمعات الغربية المعاصرة المعقدة والمتعددة الثقافات، وبالتالي استيعابها.
الشيخوخة:
أستهل روبرت سي هارمان (Robert C. Harman)، دراسته المعنية بالشيخوخة بالحديث عن الدور الذي لعبه التحسن الواضح في مستويات الرعاية الصحية وظروف المعيشة في القرن العشرين في زيادة متوسط عمر الانسان. وأهتم هارمان على وجه الخصوص بدراسة الدور الذي يضطلع به الأنثروبولوجيون في ضمان تمتع المسنين بنوعية حياة أفضل. وهذا بالطبع يستدعي منهم التعاون- وتنسيق عملهم- مع الأطباء، والمختصين الاجتماعيين، وعلماء النفس، وغيرهم ممن يسيطرون حالياً على قطاع التعامل مع (الشيخوخة ومشكلاتها). وعلى شاكلة غيره من الكتاب الذين أسهموا في المجلد الحالي، يؤكد هارمان أهمية الخبرات والمهارات التي يحوزها الأنثروبولوجيون في تطوير أساليب التعامل مع المسنين والتحلي بقدرة أكبر على إيجاد الحلول الناجعة لمشكلاتهم. وطبقاً للكاتب، فقد أسهمت هذه الخبرات في جعلهم مؤهلين أكثر من غيرهم للعمل في هذا القطاع.
وقد أعتمد الأنثروبولوجيون، منذ بواكير نشأة فرعهم المعرفي، على شريحة المسنين بوصفهم اخباريين ثقافيين، بالنظر الى تمثيلهم مستودعات تقليدية تُحفظ فيها معارف المجتمع وخبراته. وبرغم ذلك، لم تنل أبحاث الشيخوخة ما تستحقه من عناية حتى خمسينيات القرن العشرين التي شهدت استعمالاً مكثفاً لجملة من المناهج الكمية والنوعية، التي استُدمجت في ما بعد ضمن مقاربات مختصة سياقياً وحساسة ثقافياً هدفها بناء برامج يُفيد منها المسنون. وفي هذا السياق، لاحظ هارمان ميل الأنثروبولوجيين الى اعتماد المقاربة التجريبية في تقويمهم للعوامل البايولوجية ذات الصلة بالشيخوخة والجوانب الاجتماعية والثقافية المتعلقة بهذه المرحلة العمرية. وتحدث هارمان عن دراسات مارغريت كلارك (Margaret Clark) عن المسنين في آواخر ستينيات القرن العشرين في سان فرانسيسكو، ومقاربات كريستين فراي (Christine Fry) عبرالثقافية للشيخوخة التي نُشرت في مطلع ثمانينيات القرن العشرين بوصفها دراسات رائدة أسهمت في إثراء دراسات الشيخوخة وأبحاثها. كما تحدث هارمان عن المجالات الأخرى ذات الصلة بالشيخوخة ومشكلاتها التي قدم فيها الأنثروبولوجيون التطبيقيون، بفضل أبحاثهم ودراساتهم، إسهامات قيمة. وتشمل هذه المجالات الدعم والدفاع والتدخل بالنيابة عن نزلاء المشافي من المسنين الذي يحتاجون الى رعاية طبية خاصة، والإسهام في سنَ التشريعات الرامية الى تحسين الواقع المعيشي في المؤسسات المخصصة لإيواء المسنين، ومحاولة تطوير منظورات بديلة خاصة ببرامج الرعاية المنزلية، وتلبية احتياجات مانحي الرعاية، والتخفيف من العلاقات المتوترة بين المهاجرين/اللاجئين المسنين وأفراد عائلاتهم الامريكيً المولد والأصغر سناً، وتوفير الدعم القانوني وخدمات الوصاية لكبار السن الذين يعانون من صراعات ومشكلات عائلية. وبهذا الصدد، تحدث هارمان عن جهود عالمة الأنثروبولوجيا باتريشيا سلوراه (Patricia Slorah) التي لعبت دوراً مؤثراً في سنّ التشريعات الخاصة بضمان تمتع المسنين، الذين يشعرون بالقلق من احتمالات تعرض أحفادهم للخطر في ولاية فلوريدا، بحقوق الزيارة، وكانت من المؤسسين الأوائل لـ (حركة الدفاع عن حقوق الأجداد).
ويوظف الأنثروبولوجيون الذين يتعاملون مع المسنين حزمة من المناهج الكمية والنوعية التي تستلزم، طبقاً لهارمان، مقداراً أكبر من السرية، والاحترام، والرعاية المعتادة بما إن الإخباري المسن قد يعاني من معوقات جسدية أو ذهنية تقف حجر عثرة أمام إكمال عملية البحث. وبالنظر الى الدور الذي تلعبه السياسة العامة في مجال التعامل مع مشكلات الشيخوخة، قد يتطلب البحث التعامل مع وسائل الإعلام الجماهيرية. وينبغي للممارسين الأنثروبولوجيين ان يأخذوا بنظر الاعتبار التأثيرات التي قد تمارسها التغطية الإعلامية في مساعدة المسنين موضوع الدراسة أو ربما إلحاق الأذى بهم. ونظراً لشروع الباحثين في تنظيم قواعد البيانات المتباينة، ظاهرياً، في توجهاتها ومحاور أهتمامها، أكد هارمان على ضرورة دراسة الطرائق التي تعتمدها البنى الثقافية في مجتمع ما في التعامل مع مرحلة الشيخوخة؛ وهي طرائق تنطوي، حسبما يؤكد هارمان، على معانٍ عميقة للأفراد الذين يجدون أنفسهم في مواجهة نوع جديد من التجارب الحياتية في هذه المرحلة.
وأختتم هارمان دراسته بعرض ثلاث حالات دراسية تصف مدى التأثير والدور الذي يلعبه الأنثروبولوجيون في تحديد السياسات التي تؤثر في الواقع المعيشي للمسنين. ثم عاد هيرمان الى مناقشة فكرته الرئيسة القائلة ان الأنثروبولوجيين هم الأفضل تأهيلاً لخدمة العدد المتزايد من المسنين، مبيناً ان معرفة الأنثروبولوجيين بالممارسات الاثنوغرافية والمناهج النوعية، التي تستلزم إلتزاماً طويل الأمد وصلات وثيقة مع الإخباريين، تجعلهم مؤهلين لتمثيل مصالح المسنين وأحياناً التدخل بالنيابة عنهم. وفي واقع الأمر، تتمتع الخدمات التي يقدمها الأنثروبولوجيون لجهة علاقتهم بأفراد المجتمع المحلي، والعائلة، ومعرفتهم بالثقافات المتنوعة، وأنماط القرابة، وخبرتهم في التعامل مع بعض الشرائح السكانية الفرعية أمثال المهاجرين واللاجئين المسنين بأهمية بالغة في مجال منح المسنين فرصة التمتع بخدمات حياتية مناسبة ثقافياً، ولاسيما في ضوء التحول الأخير من نظام مؤسسات الرعاية المدعومة فيدرالياً الى أنظمة الرعاية المحلية والمنزلية التي تستدعي مشاركة أكبر من قبل أفراد العائلة.
هوامش المترجمة
(1) أ-كون الشيء، وبخاصة الطبيعة أو عملياتها، موجهاً نحو غاية. ب-الأعتقاد بأن كل شيء في الطبيعة مقصود به تحقيق غاية معينة.
(2) برنامج تشريعي وإداري هدفه الإنتعاش الاقتصادي والإصلاح الاجتماعي طُبق في أمريكا في اربعينيات القرن العشرين.
(3) يُعد مشروع فيكوس الذي نفذته جامعة كورنيل في البيرو من أشهر تجارب الأنثروبولوجيا التطبيقية، وفيه لعب فريق البحث الأنثروبولوجي بقيادة الن هولمبيرغ دور ‘السيد’ في ضيعة زراعية كبرى وراحوا ينفذون خطة إصلاحية كثيراً ما تعرضت للنقد لكونها تفرض الوصاية على الناس، وكانت تهدف في نهاية الأمر الى تمكين العناصر المنتجة من حيازة القوى في تلك الضيعة.
(4) يهدف هذا النوع من الأبحاث الى فهم العالم عن طريق محاولة تغييره بأسلوبٍ تعاوني ومتأمل، ويؤكد على مبادئ الإستعلام الجماعي والتجريب المتجذرين في الخبرة والتاريخ الاجتماعي.
(5) تقنية السوندو هي تقنية تقويم أو تثمين سريعة. تعني مفردة ‘السوندو’ في اللغة الأسبانية الإستكشاف والمعرفة. ولهذه التقنية قدرة كبيرة على توفير فكرة سريعة ومبدئية عن الجمهور الهدف.
(6) محاكمات نورمبيرغ: من أشهر المحاكمات التي شهدها التاريخ المعاصر، وتناولت المحاكمات في فترتها الأولى، مجرمي حرب القيادة النازية بعد سقوط الرايخ الثالث، وفي الفترة الثانية، تمّت محاكمة الأطباء الذين أجروا التجارب الطبية على البشر. تناولت المحاكمات بشكل عام مجرمي الحرب الذين ارتكبوا فظائع بحق الإنسانية في أوروبا، ومن بين الفظائع المرتكبة إنشاء معسكرات الاعتقال للمدنيين الأوروبيين والزج بالمدنيين في تلك المعتقلات التي اتسمت بأسوأ الظروف المعيشية. فلم يعبأ النازيون بسلامة المعتقلين ولا بتوفير أدنى سبل الراحة في تلك المعتقلات
(7) يُعنى هذا النوع من الأنثروبولوجيا بتطبيق المهارات والمعارف الأنثروبولوجية في معالجة المشكلات والاحتياجات في المدن والمجتمعات المحلية التي تقع داخل البلد.
Backyard anthropology can be understood as “work that involves the application of anthropological skills and knowledge to problems and needs in the towns and communities we call home.” Barbara Rose Johnston (2010)
????
التحميل رجاءا
هذا فصل من الكتاب
لا يتوفر الكتاب للتحميل