الكتاب: الأنثروبولوجيا التطبيقية
سياقات التطبيق ومجالاته المتعددة
تأليف: ساتش كيديا وجون فان ويلجن
ترجمة: د. هناء خليف غني
الجزء الثالث
الإشكاليات الأخلاقية في العمل التطبيقي:
لا تُعد الأخلاق-بمعنى الإقرار بالواجب والإلتزام الأخلاقيين في موقفٍ أو مجالٍ معينٍ- مهمة في حقل الأنثروبولوجيا التطبيقية فحسب، بل أنها تشغل موقعاً محورياً فيها. إذ أن سمعة هذا الحقل المعرفي ذاته تستند إستناداً مباشراً الى الإلتزام بسياسة أخلاقية صارمة (تشامبرز1989). وثمة تحديات عدة تقف بوجه الإلتزامات الأخلاقية في الأنثروبولوجيا التطبيقية منها ضرورة تمكن الممارس التطبيقي من التوصل الى توازن دقيق يضمن له تحقيق مصالح الجهات/الزبائن الذين كلفوه بالعمل ومصالح المجتمعات المحلية موضوع الدراسة. وفضلاً عن الإشكاليات الأخلاقية المتضمنة في بعض المواقف والحالات، ثمة إشكالية أخرى تتعلق هذه المرة بتصورات المنخرطين في النشاط التطبيقي وأهدافهم التي قد تكون متباينة للغاية.
ان استناد الأنشطة الأنثروبولوجية التطبيقية إلى العمل والتعاون المتواصلين مع مجتمعات محلية متنوعة أو منظمات أو حكومات أو مختصين في حقول معرفية اخرى يعني تعدد الجهات المنخرطة في النشاط التطبيقي وتنوعها. ولهذا، ينبغي للأنثروبولوجيين التطبيقيين أن يأخذوا بنظر الأعتبار الأخلاقيات السائدة في أوساط هذه الجهات-وهذا بالطبع يشملهم- وتحديد ما ينبغي لهم فعله وكذلك قوله في حالة أختلافهم مع الأخرين او تباين آرائهم. وبقدر تنوع الفروع المعرفية الثانوية المنضوية تحت راية علم الأنثروبولوجيا التطبيقية، تتنوع الإشكاليات الأخلاقية المتضمنة في أنشطة هذا العلم وممارساته. ففي أنثروبولوجيا التجارة والأعمال، على سبيل المثال، ينبغي للباحثين التطبيقيين ان يأخذوا بنظر الأعتبار التأثيرات المختلفة، السلبية منها والأيجابية، لنتائج دراساتهم المُقدمة الى مدراء الشركات التجارية والمؤسسات الصناعية، التي أدت في بعض الأحيان الى تفاقم أوضاع العمل، وتقلص فرص التوظيف، وربما تسريح بعض العمال (بابا، 1998).
وقد أستغرق تطوير أدلة السلوك الأخلاقي الإرشادية الشائعة حالياً في حقل الأنثروبولوجيا التطبيقية زمناً طويلاً. والسبب في ذلك يعود أساساً الى إساءة معاملة الشرائح السكانية قيد الدراسة أو تجاهلها كليةً؛ أو الضرر غير المقصود الذي يقع بعد تنفيذ البحث الأنثروبولوجي التطبيقي. وفي العقد الثاني من القرن العشرين، وتحديداً في 1919، أضحت الممارسات الأخلاقية أحد الجوانب المقلقة في الأنثروبولوجيا التطبيقية. ففي أعقاب الحرب العالمية الأولى بعامٍ، أثار فرانز بواس عاصفة من النقاش بعد نشره رسالته المعنونة (علماء الأنثروبولوجي والتجسس) في مجلة النيشن (The Nation) التي أنتقد فيها بعض أنشطة الأنثروبولوجيا التطبيقية، وعلى وجه الخصوص ما قام به أربعة من علماء الأنثروبولوجي الذين أنخرطوا في عمليات تجسس مموهة تحت غطاء القيام بأبحاث انثروبولوجية (ويفر 1973). وبعد ذلك بعقدين، شهدت الأوساط الأنثروبولوجية انتهاك أخلاقي أخر غير مقصود في أعقاب الدراسة الميدانية التي قام بها كورا دو بوا (Cora Du Bois) في أوساط شعب اللور (Alor)الذين يقيمون في ما يُعرف الآن باندونيسيا. ولم يكن أفراد هذا الشعب قد سمعوا قط بأمريكا قبل مجيء بوا إليهم الذي أضطر الى المغادرة جراء إندلاع الحرب العالمية الثانية. وفي أثناء الإحتلال الياباني للمنطقة، تحدث بعض اللوريين عن تأييدهم أنتصار أمريكا في الحرب. ولقطع الطريق على الآخرين الذين قد يبدون تعاطفاً مع جيوش الحلفاء، أقدم اليابانيون على إعدام بعض اللوريين بحجة تأييدهم للحلفاء (فان ويلجن 2002).
وفي حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، مُنعت السلطات العسكرية الأمريكية من دعم العديد من المشاريع الأنثروبولوجية، وعلى وجه الخصوص ما أختص منها بقضايا الثقافة والاستقرار السياسي. وفي الوقت نفسه، أدت محاكمات نورمبيرغ(6) (Nuremberg Trials) التي أمتدت من 1945 الى 1947 الى انتكاسة في العلوم البايولوجية في ما يتعلق بطبيعة المعاملة الأخلاقية للمجتمعات البشرية قيد الدراسة، ومسؤوليات الأفراد الأخلاقية، على الرغم من املاءات بعض الجهات المتنفذة في دوائر السلطة وصنع القرار. وشهدت هذه المرحلة ذاتها تصاعد حملات الهجوم والانتقاد الموجهة الى العلوم الاجتماعية التي أتُهمت بالسذاجة أو التحول الى أداة بيد القوى الأمبريالية (واكس 1987). وفي رد فعل منها على هذه التطورات، بادرت الجمعية الأنثروبولوجية التطبيقية(SFAA)، في عام 1949، الى سنَ أول قانون للأخلاق المهنية في الأنثروبولوجي (ميد، جابي، وبراون 1949). وفي المستوى الدولي، تبنت الجمعية الطبية العالمية إعلان هلسنكي في 1964 الخاص بالمعاملة الأخلاقية للموضوعات البشرية قيد الدراسة. وطُورت آليات أخرى للتصدي للإشكاليات الأخلاقية، وطالبت الجمعية باعتمادها في المستويين الوطني والمحلي أمثال تأسيسها هيئات المراجعة والتدقيق المؤسساتية (IRBs)، وتشريعها قانون البحث القومي في 1974 لضمان حماية الشرائح السكانية موضوع الدراسة في الأبحاث البايوطبية أو السلوكية. وبرغم ذلك، شهدت السنوات التالية انتهاكات أخلاقية أكثر خطورة في أوساط الأنثروبولوجيين التطبيقيين. إذ شعر علماء الاجتماع الذين أشتركوا في العمل في مشروع كاميلوت عام 1964 أنهم قد وقعوا ضحية لخديعة حينما أقنعهم القائمون على المشروع ان الهدف من تنفيذه هو دراسة التأثيرات السياسية للتغير الاجتماعي في الدول النامية، على حين ان ما كان مطلوباً منهم واقعاً هو التجسس لصالح الحكومة الأمريكية. وقد كان المشروع الذي نُفذ في تشيلي يمثل في جوهره محاولة لمساعدة الحكومة التشيلية في محاربة التمرد العسكري؛ محاولة نُفذت لإكتشاف نماذج أنظمة اجتماعية مناسبة من أجل التنبؤ بالتغيرات الاجتماعية التي من شأنها التأثير في سياسات دول العالم الثالث، وبالتالي التأثير في هذه الدول ذاتها (هورفتز 1967).
ولهذا، شعر العديد من علماء الاجتماع بالإهانة لإشتراكهم في هذا المشروع لإعتقادهم ان حقلهم المعرفي ما زال ملائماً لتنفيذ مشاريع غايتها التدخل [الأيجابي] في مشكلات الدول الأخرى بعامة، وفي المواقف التي يمكن فيها استعمال الأبحاث لفهم طبيعة الانقسامات الطبقية العميقة لا استئصالها. وقد أدى الجدال الذي أحتدم بشأن طبيعة مشروع كاميلوت، وغيره من المشاريع المماثلة، الى تشكيل الجمعية الأنثروبولوجية الأمريكية لجنة الحقوق التابعة لها في 1970.
وقد برز الاهتمام بالسلوك الأخلاقي مرةً أخرى في أحد المشاريع المُنفذة في تايلند. في ذلك الوقت، كانت المتاجرة بالأفيون إحدى المشكلات العالمية، وكانت القبائل المقيمة في مناطق التلال في الجزء الشمالي من البلاد مصدراً رئيساً لزراعة المواد المخدرة وإنتاجها (فان ويلجن 2002). ودرس علماء الاجتماع هذه القبائل بذريعة التأثير في السياسة المعنية بالتعامل مع هذه التجارة، وتزامن ذلك مع تفاقم حدة العمليات الحربية في فيتنام. وكانت الوكالات التي تتبع في عملها حكومة الولايات المتحدة الأمريكية، أمثال وكالة المشاريع البحثية المتقدمة (ARPA) التابعة لوزارة الدفاع، من الداعمين الرئيسين لهذا المشروع البحثي. ولعنايتها بالحفاظ على الوضع القائم، أدركت الحكومة الأمريكية أهمية البيانات الثقافية الوصفية في ضمان بقاء الحكومة المحلية في بلد يلعب قربه الجغرافي من مناطق انتشار المد الشيوعي دوراً في زيادة أحتمالات عدم استقراره. وقد كشف أحد التحقيقات اللاحقة معرفة بعض الانثروبولوجيين المشتركين في المشروع بغاية الحكومة الأمريكية من استعمال هذه البيانات (تشامبرز 1989). وقد أسهم هذا الحدث، وغيره من الأحداث التي وقعت على خلفية الصراع في فيتنام، في إحتدام النقاش بشأن المسؤوليات الأخلاقية للانثروبولوجيين التطبيقيين، وشيوع حالة من الإضطراب والتشكيك في داخل الحقل المعرفي ذاته.
وتتمثل إحدى المشكلات الملازمة للإشكاليات الأخلاقية في الأنثروبولوجيا التطبيقية في كيفية التعامل مع الخصوصية. وبالنظر الى احتمالات إساءة استعمال علاقة الباحث بالإخباري، ينبغي لعالم الأنثروبولوجي توخي الحذر دواماً، وإتخاذ الأحتياطات اللازمة، في حال بروز بعض المؤشرات على حدوث حالات انتهاك. ولسوء الحظ، لم يقدر الباحثون، في بعض الأحيان، هذه العلاقة حق قدرها. إذ لم يتنبه علماء الاجتماع الى ضرورة التأكد من قدرتهم على تأمين الحماية للإخباريين الإ بعد تنامي الاهتمام بالمجتمعات الحديثة الذي ألقى بظلاله على الاهتمام الذي حظيَت به مجتمعات العالم الثالث في العقود السابقة، ربما لتمتع الأفراد في المجتمعات الحديثة بقدرة أكبر على الإطلاع على نتائج الدراسات والأبحاث المنشورة (تشامبرز 1989). وبما ان نتائج الدراسات الأنثروبولوجية غالباً ما تكون خارج سيطرة الباحث وخاضعة لتوجهات الأطراف المستفيدة منها، فإن الخطوة الأولى التي ينبغي مراعاتها عند إجراء الأبحاث الأخلاقية هو الحصول على موافقة واضحة وصريحة من الأطراف المعنية. وتحقق ذلك ليس من السهولة بمكان بما ان نطاق البحث المقترح قد لا يكون واضحاً على نحوٍ مباشرٍ. ويُعد البحث الاستقرائي، وهو الأكثر شيوعاً لجهة توظيف الأنثروبولوجيين له، الأنسب والأكثر ملائمة لجهة قدرته على تطوير حزمة من الأفكار التي يمكن البحث فيها واثرائها. وفي ضوء اتساع دائرة القضايا التي تشغل بال العاملين في حقل الأنثروبولوجي والحقول المعرفية الأخرى المتداخلة معه، يبدو صعباً تحديد طبيعة الموضوعات والأسئلة التي ينبغي للباحث إستحصال موافقة الأفراد عليها، وبالمثل تحديد عدد الموافقات التي ينبغي له إستحصالها. فهل ينبغي له إستحصال الموافقة في كل مرة يكتشف فيها جانباً جديداً، ينبغي متابعته، في النتائج التي توصل إليها؟ والى جانب ذلك، وفي حال علم الباحث، منذ لحظة شروعه في إجراء البحث، باحتمالات رفض الأفراد طلبه، هل ينبغي له عندها إستحصال موافقة عامة منهم، ثم متابعة عمله حالما يشعر بنجاحه في توطيد علاقته معهم؟
ويحدث أحياناً ان تفقد المضامين الأخلاقية، الواضحة ظاهرياً، وضوحها، وتغدو ملتبسة، كما تكشف عن ذلك العديد من الوثائق التي أسفرت عنها عمليات كتابة الأبحاث الأنثروبولوجية التطبيقية. ولهذا، ثمة حاجة ملحة لتدوين الملاحظات الميدانية في أثناء كتابة الأبحاث والدراسات. غير ان السؤال الجوهري يتعلق بـمن هو المالك الحقيقي لهذه الملاحظات: هل هو الباحث أم الزبون؟ في الماضي، كانت الملاحظات الميدانية تُعدَ، بإتفاق الجميع، النطاق الشخصي للباحث. غير ان الشكوك تحيط بمصداقية هذا الأفتراض اليوم. إذ قد يطلب الزبون إستعادة هذه الملاحظات، والاسوأ قد يعمد المسؤولون عن تنفيذ القانون الى إستدعاء الأنثروبولوجيين للحضور أمام المحاكم للإدلاء بأقوالهم في القضايا التي تتناول الأنشطة غير القانونية أمثال استعمال المخدرات أو العنف العائلي التي تكون قيد الدراسة.
وقد ناقش باترك تيرني(Patrick Tierney) في كتابه (ظلام في الدورادو: كيف دمر العلماء والصحفيون الأمازون)(2000) إحدى القضايا البارزة حول موضوع إستحصال موافقة الأفراد الصريحة، إذ وجه فيه سلسلة من التهم ضد جيمس ف نيل (James F. Neil)، وفريقه البحثي على خلفية الدراسة التي أعدها نيل عن قبيلة اليانومامي في منطقة الأمازون. فطبقاً لتيرني، أخذ فريق نيل البحثي عينات بايولوجية من أفراد القبيلة بحجة دراسة بعض الأمراض المعدية على حين كان الهدف منها هو ملاحظة أنماط التغير الجيني بين الأفراد والجماعات في المنطقة محل إقامة القبيلة والمناطق المحيطة بها- وهو هدف بقي طي الكتمان بالنسبة لأفراد القبيلة. وأدعى تيرني انه على الرغم من أن فريق نيل قد درسَ الطفيليات المعوية، والتهاب الكبد الوبائي نوع ب، وغيرها من الموضوعات الطبية، ووفر العلاجات الطبية لأفراد القبيلة لبعض الوقت، لم يكن تحسين الواقع الصحي للشريحة المبحوثة الهدف الرئيس للدراسة. وللأسف، فقد ألحقت التهم التي وجهها تيرني ضرراً شديداً بسمعة نيل وفريقه، وبالتالي، بسمعة علم الأنثروبولوجي ذاته ومكانته الى حد دفع الجمعية الأنثروبولوجية الأمريكية الى تشكيل (قوة مهام الدورادو) في 2001 للتحقيق في صحة هذه التهم. وكانت التهمة الرئيسة التي وجِهت الى نيل تتمثل في فشله المزعوم في إبلاغ أفراد القبيلة صراحةً بأهداف الدراسة. بيد ان قوة المهام نصحت الجمعية الأنثروبولوجية الأمريكية في عدم عدً النتائج التي توصلت إليها محاكمة لعالم أنثروبولوجي محدد، بل فرصة للأنثروبولوجيين لتأمل الأبعاد والمضامين الأخلاقية التي تنطوي عليها أبحاثهم ودراساتهم (الجمعية الأنثروبولوجية الأمريكية 2003).
ويُعد عامل رقابة المعلومة من الجوانب الأساسية الملازمة للموافقة الصريحة، وهو الأساس الذي تنبني عليه العديد من القضايا والإشكاليات الأخلاقية التي قد تُثار في ما يتصل باستعمال الأبحاث التطبيقية، ولاسيما الأنشطة الحقلية منها. وبالطبع، بالإمكان استعمال المعلومات المستحصلة بهذه الطريقة لأغراض سياسية، كما يجري أحياناً في عمليات المراقبة والتحكم السايكولوجي، والسياسي، والاقتصادي للمجتمعات البشرية. وكما لاحظ فان ويلجن “ان طبيعة الدور الذي تضطلع به قواعد البيانات الأنثروبولوجية التي تحصل عليها الشركات المساهمة الكبرى متعددة الجنسيات، والأنظمة القمعية الشمولية أو وكالات الاستخبارات السرية، فضلاً عن الأهداف الحقيقية من الحصول عليها، غير واضحين بالمرة” (2002، 52). وعلى ما يبدو، فإن الضمان الوحيد الذي يمكن توفيره هو إقامة علاقة صادقة ومنفتحة وواضحة بين الباحث والمبحوثين ومحاولة المحافظة عليها، الأمر الذي قد يُسهم في مساعدة الطرف الأول- أي الباحث- في الحصول على موافقة دائمة، ومشاركة مثمرة، ومحاورات بناءة ومجدية بشأن أهداف البحث ومضامين النشاط الأنثروبولوجي. ومن الأهمية بمكان ان يطلع الأنثروبولوجيون التطبيقيون على الأدلة الإرشادية والتعليمات الأخلاقية الحالية التي وضعتها وشرعتها الجمعيات والهيئات الأنثروبولوجية المهنية المحترمة أمثال الجمعية الأنثروبولوجية الأمريكية (2005)، والجمعية الأنثروبولوجية التطبيقية (SFAA)، والجمعية الوطنية للممارسات الأنثروبولوجية (NAAA) (2005)، وأن يلتزموا بها ويوظفوها بدقة وحذر في أبحاثهم وممارساتهم.
مجالات التطبيق الأنثروبولوجي في المجلد الحالي:
مثلما بينَا في أعلاه، تتميز مجالات التطبيق في الأنثروبولوجيا التطبيقية بالتنوع والتعدد. وقد أدى ذلك الى بروز المزيد من الحقول المعرفية الفرعية المتداخلة مع حقل الأنثروبولوجيا الأم. وهذا المجلد الحالي، بفصوله العشرة وخاتمته، يستكشف بعض هذه الحقول التي ظهرت للوجود في مطلع القرن الحادي والعشرين أمثال التنمية، والزراعة، والبيئة، والصحة، والطب، والتغذية، والترحيل القسري، وقطاع التجارة والأعمال، والصناعة، والتربية، والشيخوخة. وفي أدناه وصف موجز لإشتغالات كل واحد من هذه الفروع المعرفية وأنشطته.
قطاع التنمية: تُعنى أنثروبولوجيا التنمية، حسبما يبيَن بيتر دي لتل(Peter D. Little)، بتطبيق المعارف والخبرات الأنثروبولوجية بهدف إيجاد الحلول للمشكلات المزمنة التي تواجهها البلدان النامية أمثال الفقر، والجوع، والتدهور البيئي. بدأ هذا النوع من الأنثروبولوجي، بوصفه فرعاً معرفياً له أسسه وإشتغالاته الخاصة، في سبعينيات القرن العشرين، في أعقاب التغيرات التي شهدتها السياسات الحكومية، والزيادة الهائلة في فرص العمل المتاحة أمام الأنثروبولوجيين في المستويين الدولي والمحلي، والزيادة في عدد الدراسات والأدبيات المعنية بالتنمية ومشكلاتها. وفي حديثه عن التنمية، يُبدي لتل حرصاً بالغاً على تناول مشكلاتها ضمن سياق أشمل يتناول الظروف التاريخية، والاجتماعية، والاقتصادية مشفوعة بجملة من الأمثلة المستمدة من الدراسات الأنثروبولوجية.
وبالإنتقال الى النقاشات الخاصة بالجوانب الوظيفية والتدريبية والنظريات والمناهج الأنثروبولوجية، عرض لتل للعلاقات الاقتصادية والوظيفية القائمة بين أنثروبولوجيا التنمية وعددٍ من المنظمات والجهات الدولية الممولة أمثال الحكومة الأمريكية، أو المنظمات التي تحصل على تمويل من مصادر خاصة أمثال الوكالات التنموية البيروقراطية الثرية، ومنظمات المجتمع المدني، والمعاهد الأكاديمية الصغيرة، والجماعات والمجتمعات المحلية. كما وصف لتل ممارسات أنثروبولوجيا التنمية بوصفها ممارسات متداخلة ما بين معرفية قائمة على التعاون يشترك فيها الى جانب الأنثروبولوجيين العديد من العاملين في الفروع المعرفية الأخرى أمثال علماء الاجتماع، والاقتصاد، والبيئة، والزراعة وغيرهم. ولاحظ لتل فوائد هذا الجهد التعاوني بين المعرفي في إثراء عددٍ من المناهج الأنثروبولوجية الأساسية أمثال أبحاث الفعل التشاركية (PAR). غير انه شددَ، في الوقت نفسه، على ضرورة اعتماد العلماء في حقل أنثروبولوجيا التنمية، في عملهم، على جملة من الخبرات والمهارات الملائمة لطبيعة تخصصهم؛ مهارات تميزَهم عن زملائهم الأنثروبولوجيين العاملين في الحقول المعرفية الأخرى، وعن علماء الاجتماع كذلك. وفضلاً عن ذلك، تحدث لتل عن ضرورة مسارعة انثروبولوجيَ التنمية الى إستكمال أدواتهم المعرفية، وإستدماج الجوانب النظرية، والمنهجية، والممارساتية لتعزيز مكانة حقلهم المعرفي وتطوير نوعية إسهاماته.
وفضلاً عن ذلك، بينَ لتل حاجة النظريات، ولاسيما نظرية المعولية الشعبوية أو النظريات المتأثرة بالماركسية التي تركز على العمل التجريبي، الى مزيد من العناية لدورها في تسليط الضوء على الإسهامات المبكرة لأنثروبولوجيَ التنمية في إثراء هذا الحقل، وفي تطوير الأدبيات المعنية بالبرامج والسياسات التنموية الدولية. ولإجل دعم طروحاته، أورد لتل عدداً من الأمثلة تبيَن الدور الذي أضطلعت به الإسهامات النظرية القيمة التي قدمها انثروبولوجيو التنمية، والتي أدت الى إحداث تعديلات في البرامج التنموية المعتمدة. ولتبيان أهمية إستدماج الجوانب النظرية، والمنهجية، والممارساتية في كيانٍ واحدٍ متكاملٍ، عرض لتل حالة دراسية تخص عمله في (مؤسسة الحفاظ على الحياة البرية في كينيا)، أقترح فيها مشروعاً لمراقبة تنفيذ المبادرة التي تقدمت بها المؤسسة لحماية الأرث الرعوي في مناطق شرق أفريقيا. وبالنظر الى معرفة أنثروبولوجيَ التنمية وخبرتهم الكبيرة بطرائق توظيف المجتمعات المحلية لموارد الحياة البرية الطبيعية والاقتصادية في تلك المناطق، توقع لتل استمرار المنظمات البيئية في الإستعانة بخبراتهم ومعارفهم في تنفيذ مشاريعها وبرامجها في المستويين المحلي المناطقي والوطني.
قطاع الزراعة: أستهل روبرت أي راودز، (Robert E. Rhoades)، دراسته عن هذا القطاع بالحديث عن أهمية الزراعة وموقعها المحوري في حياة البشر لجهة تداخلها مع- وتأثيرها في- مجمل الجوانب الثقافية، والتكنولوجية، والاقتصادية، والمجتمعية، والدينية. وبناءً على ذلك، يُعرف راودز علم الأنثروبولوجيا الزراعية بأنها الأنثروبولوجيا المعنية بدراسة “العنصر البشري في النظام الزراعي الشامل” بمراحله كافة، من الإنتاج الى الإستهلاك الى نُظم الثقافة الرمزية؛ ومن أصول الزراعة الى التطورات المستقبلية. ويتحدث راودز عن الجهود الحثيثة التي يبذلها الأنثروبولوجيون الزراعيون لترجمة معارفهم عن الأنشطة الزراعية، بوصفها ممارسة اجتماعية وثقافية، الى “مقاربات تقنية وسياسية”. ومما تجدر الإشارة له ان عمل الأنثروبولوجيين الزراعيين لا يقتصر على قطاع الزراعة فحسب، إذ يعمل بعضهم في المؤسسات الأكاديمية على حين أختار آخرون العمل في المؤسسات والهيئات الدولية، ومنظمات المجتمع المدني، والوكالات الحكومية.
وما زالت الأنثروبولوجيا الزراعية من الأنظمة المعرفية الحديثة نسبياً، ربما بسبب بقاء الزراعة خارج نطاق الإشتغالات الفكرية للأنثروبولوجيين الاوائل، على الرغم من الحضور القوي للمجتمعات الزراعية في الدراسات الاثنوغرافية، وتشكيل القطاع الزراعي مصدراً مهماً لتوفير فرص العمل في ظل عمل العديد من الممارسين الأنثروبولوجيين كحلقات وصل في ما بين الحكومات، والمستعمرات، والمزارعين. وفي السياق ذاته، تحدث راودز عن تأسيس (دائرة الحفاظ على التربة) التابعة لمشروع البرنامج الجديد الذي طُبق في أمريكا في ثلاثينيات القرن العشرين بوصفها المرة الأولى التي عمل فيها الأنثروبولوجيون في قطاع الزراعة. وعلى الرغم من ان الدراسات التطبيقية والنظرية الخاصة بالممارسات الزراعية المنشورة في أدبيات الحقول المعرفية الأخرى، أمثال علم الاجتماع والاقتصاد، قد وظفت الأبحاث الحقلية الأنثروبولوجية، لم تكتمل عملية إستدماج علم الأنثروبولوجيا بالعلوم الزراعية حتى سبعينيات القرن العشرين حينما شرع عددُ من حملة شهادة الدكتوراه في البحث عن الوظائف بوصفهم أنثروبولوجيين مختصين في القطاعات الخاصة وغير الربحية.
وفضلاً عن ذلك، تحدث راودز في دراسته عن الصور النمطية الشائعة التي لعبت دوراً في تأخير عملية إستدماج الحقلين، وحدد ملامح الاستراتيجيات اللازمة لتطوير نماذج أفضل لضمان زيادة عدد الوظائف المتاحة أمام الأنثروبولوجيين في القطاع الزراعي، فضلاً عن تطوير آليات التواصل في ما بين العاملين في كلا القطاعين. ومن هذه الاستراتيجيات دراسة المصطلحات البايولوجية-العلمية وإتقان التعامل معها، وتأكيد أهمية المناهج الأنثروبولوجية ودورها في تطوير مخرجات القطاع الزراعي بمراحله المختلفة بدءاً من زيادة المداخيل الاقتصادية وتحسين مستويات التغذية، فضلاً عن الإنتباه الى حقيقة كون المزارعين “اثنونباتيين خبراء” بالفطرة بالنظر الى حيازتهم معلومات ومعارف محلية على قدرٍ عالٍ من الأهمية في مجال المساعدة في تحقيق أهداف المشاريع، وتعزيز قدرة الأنثروبولوجيين على التفاوض للحصول على مواقع وظيفية أفضل، وإسهامهم بوقتٍ مبكرٍ في كتابة الدراسات والبحوث، ومحاولة تشجيع العاملين في القطاع الزراعي والحقول المعرفية الأخرى على معاملة المواقع الوظيفية التي يشغلها الأنثروبولوجيون وإشتغالاتهم التطبيقية على قدم المساواة. ولم ينس راودز أهمية تعزيز دراسته بثلاث حالات دراسية أسهمت فيها الجهود التي بذلها الأنثروبولوجيون الزراعيون الذين عملوا في مركز البطاطا الدولي في ليما، بيرو في إحداث تغيرات سياسية وتكنولوجية قيمة في المستويين المحلي والوطني.
وأختتم راودز دراسته بحث الأنثروبولوجيين الزراعيين على إعادة النظر في علاقاتهم المهنية بالجهات التي يُحتمل إنتفاعها من أنشطتهم وممارساتهم، وتطويرها على نحو يماثل ما تشهده علاقة زملائهم في الحقول المعرفية الأخرى أمثال الاقتصاد، والقانون، والتربية بالجهات المعنية بأنشطتهم، وتقديم ذلك بوصفه دليلاً يؤكد “أهمية المناهج الانثروبولوجية وإمكانية تطبيقها عملياً على أرض الواقع”. وهذا يتطلب منهم إيصال خبراتهم ومعارفهم في الأنثروبولوجيا الزراعية الى أكبر قدرٍ ممكن من المجتمعات المحلية العاملة في الزراعة، وتجاوز نطاق الممارسة الأنثروبولوجية الضيق فضلاً عن التنبيه الى ضرورة إجراء تعديلات في البرامج التدريبية الجامعية التي ينبغي ان تشتمل على كورسات معنية بتطوير مهارات الطلاب التطبيقية وقدرتهم على رسم السياسات، وتعزيز البنى التحتية للزراعة، وحث الأنثروبولوجيين على إتقان مصطلحات العلوم الزراعية.
البيئة: وصف ثوماس ر. مكغوير، (Thomas R. McGuire)، في دراسته المعنونة (علم الأنثروبولوجيا والزراعة) حزمة متنوعة من المواقف المناسبة لتفعيل الأنشطة الأنثروبولوجية التطبيقية ذات الصلة بالبشر والبيئة. وعليه، ليس بمستغرب أن تتخذ الدراسات التي يكتبها الممارسون المختصون بالبيئة ومشكلاتها من إدارة الموارد المتجددة والشرائح السكانية المعتمدة عليها في معيشتها، وتحديد السبيل الأمثل لتوظيف المعارف المحلية لبناء مجتمعات لها القدرة على البقاء ومستدامة بيئياً، وربما الحركة البيئية بوصفها حركة اجتماعية، محاور لها. وفي السياق ذاته، أكد مكغوير على أهمية اعتماد الأسس النظرية المناسبة لتنفيذ هذه الأنشطة؛ وناقش التصورات المفاهيمية الشائعة في الأبحاث الأنثروبولوجية البيئية، أمثال علم البيئة الثقافي، والاقتصاد السياسي، وعلم البيئة السياسي. ويلاحظ دراسته هذه المفاهيم طبقاً للتسلسل الزمني الذي حدثت فيه التحولات النظرية في هذا الحقل المعرفي من الحرب العالمية الثانية الى الوقت الحاضر.
كما تحدث مكغوير عن خمسينيات القرن العشرين بوصفها مرحلة زمنية شاخصة أنصب فيها اهتمام الباحثين في الأنثروبولوجيا البيئية على دراسة الأنظمة البيئية البشرية. وكانت الأسئلة الرئيسة المطروحة تدور حول تمكين الأفراد والمجتمعات المحلية أكثر منهم قوى السوق، من الحصول على الموارد الضرورية والتحكم فيها في مناطقهم. ولاحظ مكغوير كذلك اهتمام الأنثروبولوجيين البيئيين، في ثمانينيات القرن العشرين وتسعينياته، في توظيف علم البيئة السياسي بغية إستدماج المستويين –السياسي والبيئي- معاً، ومعرفة “كيف تتفاعل القوى السياسية والبيئية وتتداخل في ما بينها لإحداث التغيرات الاجتماعية والبيئية المطلوبة”. وبالنظر الى الاهتمام الشديد بالعامل السياسي، كان من الطبيعي ان يرمي الأنثروبولوجيون البيئيون هذه الأبحاث بتهمة الإنحياز للسياسة أكثر منه للبيئة لجهة افتراضها ضرورة احتلال القوى الخارجية الصدارة في إشتغالات الدراسات البيئية. ولهذا، مال انثروبولوجيو البيئة الى أعتماد ما يُعرف بـ (ايكولوجيا الحدث) أو (علم بيئة الحدث) في دراساتهم والتركيز على تاريخ التغير البيئي الضروري لتوفير حلول أكثر واقعية لصانعي السياسة. وفي مقابل ذلك، هناك من الأنثروبولوجيين من ينتقد الدراسات البيئية ويرميها بالتقصير لقلة اهتمامها بالجانب السياسي، وهؤلاء نزعوا نحو تبني ما يُعرف بـ (ايكولوجيا التحرير) أو (علم بيئة التحرير)، وسعوا الى إيجاد استراتيجيات تنمية بديلة باستعمال خبرات المجتمعات المحلية ومعارفها.
ولهذا، شجع مكغوير الممارسين الأنثروبولوجيين على العناية بـ “الأسس النظرية للأنثروبولوجيا البيئية” التي تعالج كل من الوسائل الخاصة والعامة التي يُوظفها البشر لتحويل بيئاتهم والتكيف معها، فضلاً عن الاقتصاد السياسي بمعناه ونطاقه الواسعين الذي يلعب دوراً في صياغة الآليات اللازمة لإنجاز هذا النشاط تارةً، ووضع المعوقات أمام إنجازه تارةً اخرى. ولتسليط الضوء على كيفية تفاعل المفاهيم والتطبيقات في حقل الأنثروبولوجيا البيئية، درس مكغوير التأثيرات التي تمارسها السياسات في المستويين المحلي المناطقي والولاياتي في مجتمعات السِماكة (صيد السمك) المحلية. وبصرف النظر عن طبيعة المقاربات المستعملة، والحقول المعرفية الفرعية الأخرى المرتبطة بالأنثروبولوجيا البيئية، أكد مكغوير على ضرورة ان يبذل الممارسون الأنثروبولوجيون المزيد من الجهود لإثراء معارفهم الثقافية وتعزيزها في المستوى المحلي عن طريق توظيفهم مفاهيم الاقتصاد السياسي الخاص بالمناطق قيد الدراسة. ويطبق بعض الممارسين مهارات ومناهج أنثروبولوجية متنوعة من مثل أنظمة رسم الخرائط لمعالجة التحولات التي يحتمل ان تشهدها المناطق المبحوثة، وبالتالي الشرائح السكانية المعتمدة في معيشتها عليها. وفضلاً عن ذلك، عمل آخرون مع المجتمعات المحلية لإعداد خرائط مضادة تعكس خبراتهم ومعلوماتهم عن الخصائص الطوبولوجية (الوصفية) الرئيسة لمناطقهم، واستعمال رسم الخرائط الاثنوغرافية بوصفه وسيلةً مناسبةً لكسب اعتراف الدولة بحقوق الجماعات المحلية وحماية التنوع الاحيائي.
وتناول مكغوير ظاهرة بروز أنثروبولوجيا المناطق المحلية أو الفناء الخلفي(7) في آواخر تسعينيات القرن العشرين بوصفه وسيلةً مناسبةً لـ “تأكيد أهمية المناهج والإشتغالات الأنثروبولوجية في….الجهود المبذولة لحماية البيئة المعتمدة في بقائها على المجتمع المحلي”، وهو مجال خصب لتوظيف الأنثروبولوجيين من ذوي الخبرة، في مجال ضمان العدالة البيئية والإلتزام بالدفاع عن قضاياها. وفي السياق ذاته، أكد مكغوير ان الطلب على الأنثروبولوجيين من ذوي الخبرة في استعمال التقنيات الاثنوغرافية والقدرة على فهم أبعاد التغير البيئي الجيوسياسية ما برح يزداد بإطرَاد لضمان أعتراف الجميع ان توفير “حياة صحية مثمرة ومنسجمة مع الطبيعة هي حق انساني” مكفول للجميع.
قطاع الصحة والطب: تُعنى الأنثروبولوجيا الطبية، طبقاً لكل من لندا م وايتفورد(Linda M. Whiteford) ولندا أ. بينيت (Linda A. Bennett)، بإستكشاف الدور الذي تلعبه أنظمة المعتقدات الثقافية في صياغة الخبرات البشرية الخاصة بالصحة والمرض. ويُمثل تطبيق ما يُعرف بـ (التركيبة البايوثقافية) الحد الذي يتجاوز فيه علم الأنثروبولوجي حدود العلوم الاجتماعية الطبية التقليدية لجهة وضعه الوضع المادي او الذهني للفرد ضمن شبكة أكبر من الممارسات التي تعكس “الأهمية الاستثنائية التي تتمتع بها العوامل البايولوجية والثقافية” في الحفاظ على الصحة. وعلى الرغم من خضوع هذه العلاقة للمتغيرات التنظيرية، ما برحت وايتفورد وبينيت تؤكدان في دراستهما على انطواء كافة الأبحاث في الأنثروبولوجيا الطبية على بُعد تطبيقي مميز. ومن الجدير بالملاحظة ان عمل الممارسين الأنثروبولوجيين في الوقت الحاضر لا يقتصر على المؤسسات الأكاديمية، بل يمتد الى الحقول المعرفية الأخرى التي تنطوي على امكانات تطبيقية هائلة أمثال التخصصات الطبية، والعمل الاجتماعي، والصحة العامة التي حظيَت فيها بحوثهم ودراساتهم بأهمية بالغة لدورها في تحديد السياسات والبرامج الأنسب لمعالجة المشكلات التي تعانيها المجتمعات المحلية أو بعض أفرادها.
ويوظف الأنثروبولوجيون التطبيقيون المعاصرون خبراتهم ومهاراتهم في التحليل الثقافي في مجموعة متنوعة من أنظمة الرعاية الصحية والطبية. إذ يدرسون الاختلافات القائمة بين الشعوب في ممارسات الولادة، ويستكشفون العوامل التي تؤثر في أوضاع الأفراد الصحية ومفاهيم الصحة العامة وممارساتها في مجتمع ما. ومن هذه العوامل ما يتصل بالجندر، والوضع الاجتماعي والاقتصادي، والطبقة الاجتماعية والأثنية. وأفاضت الكاتبتان في الحديث عن المقاربات التي يحتمل توظيفها، أمثال مقاربة الاقتصاد السياسي، في رسم سياسات الرعاية الصحية، والمقاربة البيئية/التطورية، والمقاربة التأويلية التي تفيد ان التجارب البشرية الخاصة بالمرض والإعتلال الصحي والسقم هي في واقع الأمر بنى ثقافية دالة تنطوي على أبعاد تتجاوز حدود الإعتلال الجسدي أو الذهني المجرد. وتضطلع تقنيات إعداد النماذج والموافقة العامة بدورٍ رئيس في تبيَان العلاقة بين نماذج المرض الادراكية-الحسية والوضع الصحي للمصابين.
وتؤكد وايتفورد وبينيت حقيقة تمثيل الاعتبارات الأخلاقية ثيمةً ثابتةً وركناً أساسياً في الأنثروبولوجيا الطبية بالنظر الى ميل الأبحاث في هذا الفرع نحو التعامل مع ظروف صحية خطرة أو مواد بايولوجية. وبصرف النظر عن الظروف المحيطة بعملهم، يجري الأنثروبولوجيون التطبيقيون الطبيون ابحاثهم لتحسين الواقع الصحي وتقديم خدماتهم لكل من الوكالة او المؤسسة الراعية، وللمجتمعات المحلية قيد الدراسة كذلك. ويستعمل الأنثروبولوجيون العاملون في المواقع الطبية عادةً الأنماط التقليدية لجمع البيانات أمثال الملاحظة بالمشاركة، والمقابلات المتعمقة والمسوحات الميدانية، والمناهج الوبائية، فضلاً عن بعض الاستراتيجيات الأحدث امثال التقويمات السريعة. وعرضت كل من وايتفورد وبينيت لحالة دراسية مفصلة تسلط الضوء على دور المنظور البايوثقافي الشائع في علم الأنثروبولوجيا الطبية في “تقديم تصورات أكثر شمولية للجوانب الصحية” عن طريق توظيف المقاربات ما بين المعرفية التعاونية التي تطبق التقنيات الأثنوغرافية لفهم الأنظمة الطبية. وأختتمت الكاتبتان دراستهما بالتأكيد مرةً اخرى على أهمية أدبيات العلوم الاجتماعية والإنسانوية المجتمعية التي دأبت الأنثروبولوجيا التطبيقية الطبية في توظيفها لحل المشكلات التي يواجهها عالمنا المعاصر أمثال وباء نقص المناعة المكتسب/الأيدز. وترى كل من وايتفورد وبينيت ان فهم الظروف الثقافية والأسس البايولوجية للمرض، ولاسيما تأثير التوزيع غير العادل للثروات في أنتشار الأنماط الوبائية تُعد من العوامل الأساسية في تنفيذ حملات الصحة العامة وزيادة فاعليتها.