الكتاب: الأنثروبولوجيا التطبيقية
سياقات التطبيق ومجالاته المتعددة
تأليف: ساتش كيديا وجون فان ويلجن
ترجمة: د. هناء خليف غني
الجزء الثاني
علماء الأنثروبولوجيا التطبيقية: أدوار ومواقع متميزة:
يؤدي علماء الأنثروبولوجيا التطبيقية عدداً كبيراً من الأدوار حالياً وتتوفر أمامهم العديد من مجالات التطبيق الواعدة التي بإمكانهم الأختيار في ما بينها. وبهذا الصدد، أكد تروتر وسجنسول (Trotter and Schensul) ان على الأنثروبولوجيين، في اثناء أختيارهم مجالاً تطبيقياً معيناً، ان يحددوا “الجهات التي يرغبون العمل معها، والمهارات والخبرات اللازمة لإعداد الدراسات والأبحاث، والإنخراط في الممارسات التطبيقية، والإلتزام بالقيم الشخصية والمهنية التي يؤمنون بها، وتحديد مدى تجذر هذه القيم في أطر نظرية مناسبة، فضلاً عن تحديدهم المواقع التي يرغبون في شغلها في بنية المشهد البحثي ومواقعهم في السلسلة الممتدة من العناصر الخارجية المنتقدة الى الداخلية الناشطة”(2000، 694).
وفي مراجعتهم النقدية الفاحصة لأوضاع الأنثروبولوجيا التطبيقية، تحدث كل من تروتر وسجنسول عن مجالات تطبيقية عامة خمسة ووصفاها طبقاً لمستوى إنخراط علماء الأنثروبولوجي في برامجها وأنشطتها(2000). فبإمكان العاملين في حقل الأنثروبولوجي بعامة، والتطبيقية بخاصة (1) إعداد البحوث والدراسات ذات الصلة بالتنمية ورسم السياسات في المستويات المحلية والولاياتية والفيدرالية، على الرغم من ملاحظتنا غيابهم عن المشاركة في عملية تنفيذها بالقدر نفسه من الفاعلية؛ و(2) المشاركة في تقييم المشاريع أو مراقبة سير العمل فيها فضلاً عن تحديد آليات تحسين نوعية العمل عوضاً عن الاكتفاء بتطوير نماذج جديدة وتقديمها (692).
أما المجالات الثلاثة المتبقية فتختلف عن المجالين المذكورين أعلاه لجهة إضطلاع علماء الأنثروبولوجي فيها بأدوارٍ متنوعة وأكثر فاعلية من مثل (3) تنفيذ مبادرات الدعم والتدخل “المبنية ثقافياً والمتأثرة بالنظرية”. فعلى سبيل المثال لا الحصر، بإمكان الأنثروبولوجيين التعاون مع السلطات الصحية في حملاتها الرامية الى متابعة المرضى الذكور من أصول اسبانية الذين يحملون فيروس نقص المناعة المكتسبة- الأيدز، والذين يرفضون استعمال الواقي الذكري والمقيمين في المناطق الحضرية (693)، (4)الإنخراط في مبادرات الفعل الأيجابية وحملات الدفاع عن الحقوق العامة، والمساعي الرامية الى الكشف عن مناحي الخلل المجتمعية، والحرص على تصدر حملات الانتقاد المناهضة للتوزيع غير العادل للسلطة والموارد الاقتصادية في المستويين المحلي والدولي عبر مساعدة الجماعات والأقليات التي لا تحظى بتمثيل كافٍ في إزالة العوائق التي تقف حجر عثرة أمام تمتعها بالعدالة الأجتماعية والمساواة؛ و(5) إعداد أبحاث الفعل التشاركية (PAR)(4) التي تستلزم إقامة علاقات طويلة الأمد وتشاركية مع المجتمعات المحلية بغية تنفيذ البرامج المجدية اجتماعياً، وتمكين السكان وتعميق احساسهم بالقدرة على تحديد مصيرهم الذاتي (693).
وتستند أبحاث الفعل التشاركية الى ثلاث فرضيات أساسية، هي (1) أن الناس جميعاً يتحلون بالقدرة على التفكير والعمل معاً لتحسين ظروفهم المعيشية؛ و(2) ضرورة ان يتشارك السكان في المعلومات، والمهارات، والموارد الحالية والمستقبلية على أسس مساواتية تضمن لهم عملية التوزيع العادل للموارد والبنى؛ و(3) إلتزام المشاركين كافة بمبادئ العمل الجاد والإستعداد للتعاون الضرورية (فالس-بوردا ورحمان 1991).
وقد تتاح لعلماء الأنثروبولوجيا التطبيقية فرصة الأختيار بين أداء دور واحدٍ فحسب، أو الجمع بين أداء جملة من الأدوار في مجالات تطبيقية محددة. وتندرج هذه الأدوار جميعها ضمن تقسيمات عامة خمسة هي (1)باحث في السياسة أو محلل أبحاث؛ (2) مقيم تأثير أو مقيم احتياجات؛ (3) وسيط ثقافي؛ (4) متخصص في المشاركة العامة؛ و(5) مسؤول إداري أو مدير. ومن الجدير بالملاحظة ان العنوان الوظيفي العام (عالم الأنثروبولوجي) لا يستعمل عند الحديث عن هذه الأدوار بالنظر الى توافر غالبيتها أمام أنواع اخرى من العاملين في حقول العلوم الاجتماعية. وبرغم ذلك، يتمثل الأساس الذي يستند إليه العمل الأنثروبولوجي في توافره على ذخيرة بحثية فريدة لا غنى عنها للعاملين في كافة التخصصات المذكورة أعلاه.
وتُعد (الباحث في رسم السياسات) الوظيفة الرئيسة التي يؤديها العديد من الممارسين التطبيقيين الذين يأخذون على عاتقهم مهام توفير قواعد البيانات والمعلومات اللازمة لمساعدة صانعي القرار على رسم السياسات وإعداد البرامج والخطط. وقد أظهرت الدراسة الميدانية التي أعدتها الجمعية الوطنية للممارسات الأنثروبولوجية (NAPA) عن الذين حصلوا على المراتب الأولى في الدورات التدريبية في حقل الأنثروبولوجيا التطبيقية تنوع الأدوار التي يؤديها المشتركون في هذه الدورات، إذ توزعت نسبتهم على أكثر من (30%) يؤدون أدواراً وظيفية بحثية، و(22%) يعملون بصفة جامع لقواعد البيانات والمعلومات عن مواقع العمل والعاملين (هارمان وهس وشيف 2005). ونخلص من ذلك الى ضرورة توافر خلفية علمية وعملية قوية تضمن للعاملين وصانعي السياسة الحصول على المعلومات، والبيانات، وطرائق التقييم المناسبة وتطبيقها بنحوٍ يضمن النجاح في تنفيذ الخطط والمشاريع. ان عمل الأنثروبولوجيين التطبيقيين لا يقتصر على جمع المعلومات والبيانات وتقديمها للجهات المستفيدة منها فحسب، بل ان عملهم يمتد ليشمل تحليل هذه البيانات، وربما إجراء مقارنة في ما بينها. وهم بقيامهم بهذه المهام يؤدون دور محللي الأبحاث، وهو دورُ برع الأنثروبولوجيون التطبيقيون في ادائه في ضوء خلفيتهم التجريبية القوية وتمرسهم في استعمال المناهج الاثنوغرافية. وفضلاً عن ذلك، خلصت الدراسة الميدانية التي نفذتها الجمعية الوطنية للممارسات الأنثروبولوجية (NAPA) في عام 2000 الى نتيجة مفادها ضرورة تحلي الأنثروبولوجيين بمهارات تحليل البيانات الكمية في أكثر من (20%) من مواقع العمل على حين بلغت نسب المواقع التي تستلزم التحلي بمهارات وخبرات اثنوغرافية (18%) تقريباً (هارمان وهس وشيف 2005). وعلى غرار ذلك، ينبغي للكفايات البحثية والتحليلية التحلي بالقدرة على رسم السياسات وتطويرها، ثم المباشرة بتنفيذها عبر توظيف منهجية رقابة المعلومات. وحينما يُتاح لعلماء الأنثروبولوجيا التطبيقية فرصة ان يشكلوا جزءاً من العملية التخطيطية والتنفيذية، ينبغي لهم استغلال الفرصة استغلالاً مناسباً، والمشاركة بفاعلية أكبر في إتخاذ القرارات التي تُتخذ بالاستناد الى مخرجات عملهم (تشامبرز 1989).
ويستلزم أداء وظيفة المُقوم من عالم الأنثروبولوجي التحلي بجملة من المهارات البحثية والتحليلية، وهذا قد يتطلب منه المشاركة في البرامج المُعدة لدراسة التأثير الاجتماعي ومراقبة مساراته فضلاً عن تقويمه. ويبدأ عمل المُقوم بعد تنفيذ المشروع أو البرنامج او الخطة السياسية مباشرةً بغية قياس مديات النجاح أو ربما الإخفاق المتحققة. وقد يُطلب منه إعداد بحث باستعمال مقاربة “تقويم التأثير” لدراسة مدى تأثر المجتمعات المحلية بالتغيرات الطبيعية الواقعة في بيئاتها. ومن أمثلة هذه التغيرات تشييد المطارات، وبناء الطرق السريعة، والخزانات، والسدود. وينخرط بعض علماء الأنثروبولوجي في العمل بصفة مخططين ومصممين للبرامج والمشاريع فضلاً عن مُقومين للإحتياجات، وبهذا فهم معنيون بجمع المعلومات ذات الصلة بتصميم البرامج المكرسة لتلبية احتياجات المجتمعات المحلية الاجتماعية، والاقتصادية، والصحية، والتربوية.
ويعمل الوسطاء الثقافيون بوصفهم حلقات وصل بين البرامج والمنظمات والمجتمعات المحلية. وبقيامهم بذلك، يجد البعض منهم نفسه، بلا قصدٍ منه، منخرطاً في الدفاع عن حق الجماعات الصغيرة في التمتع بتمثيل أكبر في بنى السلطة التي يشغلها أفراد الجماعات المهيمنة. ولردم الفجوة بين من يملكون بزمام السلطة وأفراد المجتمعات المحلية الصغيرة الخاضعة لهم، يحرص الأنثروبولوجيون التطبيقيون على مساعدة أبناء المجتمعات المحلية في تحقيق أهدافهم وتلبية احتياجاتهم عن طريق تمكينهم، وإتاحة فرص التعليم لهم، وتعميق وعيهم بحقوقهم. وثمة اعتقاد في ما يتصل ببعض المجتمعات المحلية مفاده أنه كلما زادت فرص وجود من يمثل مصالحهم ومشكلاتهم تمثيلاً فاعلاً وحقيقياً، ازدادت معدلات قدرة هذه المجتمعات على الفعل والعمل. وبذلك، يتمكن الأنثروبولوجيون ان يخدموا هذه المجتمعات على نحوٍ أكثر أخلاقية بصفتهم داعمين لها ومدافعين عن حقوقها (تشامبرز 1989). وتستلزم عملية الوساطة الثقافية التمكن من التواصل في اتجاهين، ولكن يندر ان يمثل القيام بذلك الوظيفة الرئيسة التي ينبغي لعالم الأنثروبولوجي النهوض بها. غير ان أداء هذا الدور قد ينطبق من الناحية الوظيفية على العديد من الأدوار الاخرى، أمثال دور المختص في مواقف المشاركة العامة الذي يُكلف أحياناً بتوفير المدخلات المعلوماتية الضرورية والمناسبة في عمليات التخطيط ورسم السياسات. ان العمل بصفة مختص في مواقف المشاركة العامة يزيد من قدرة علماء الأنثروبولوجيا التطبيقية على التأثير في الأنشطة التنظيمية والتعليمية عن طريق الاستغلال الأمثل لوسائل الإعلام والإتصال الجماهيرية، والأجتماعات العامة. وهذه الأدوار تُعد أدواراً جديدة نسبياً على الأنثروبولوجيين التطبيقيين. ويلاحظ في هذا السياق تزايد عدد الممارسين الأنثروبولوجيين الذين يُكلفون بمهام نشر معارفهم وخبراتهم في المجال العام. ففي الدراسة الميدانية التي أجرتها الجمعية الوطنية للممارسات الانثروبولوجية (NAPA) في 2000، ذكر (15%) من المشاركين انهم يعملون بصفة ‘مخطط’ في مقابل (8%) فقط يعملون بصفة (مصممي ومقومي برامج) (هارمان وهس وشيف 2005).
وبينما شهدت سبعينيات القرن العشرين زيادة في فرص تشغيل علماء الأنثروبولوجيا التطبيقية في مجالات ومواقع عمل جديدة، تمكن البعض منهم من شغل مواقع عليا في الدوائر الحكومية بعد زيادة تمثيلهم في دوائر صنع القرار. وفي الدراسة الميدانية أعلاه، ذكر (10%) من المشاركين شغلهم لمناصب إدارية مرموقة في حين بلغت نسبة من يعمل منهم بصفة مدير (22%) (هارمان وهس وشيف 2005). غير ان هذه الفرص الوظيفية الجديدة لم تمنعهم من مواصلة أنشطتهم التقليدية السابقة، إذ واصل العديد منهم أداء أدواره البحثية والتحليلية بدقة وكفاية؛ ولم يكتفوا بذلك، بل أنهم حاولوا توظيفها في بيئات عملهم الجديدة، الأمر الذي يعكس نجاح خطط التدريب في المؤسسات والمعاهد الأنثروبولوجية وفاعلية مناهجها ومقارباتها.
مقاربات منهجية: تتسم طبيعة العمل الأنثروبولوجي التطبيقي بكونه عملاً يُنفذ بناءً على طلب تتقدم به إحدى الجهات أو الأطراف التي تروم الإفادة منه في الإجابة عن بعض التساؤلات الملحة بغية إتخاذ القرارت الخاصة بوضع البرامج المختلفة وتنفيذها وتمويلها. وعليه، بالإمكان القول بإختلاف طبيعة هذا العمل أختلافاً بيناً عن غالبية عمليات الإستعلام الأكاديمية الأخرى التي تتيح للباحث نفسه فرصة تحديد كل ما يتعلق بمسار عمله وآلياته بما فيها نطاق البحث، وموضوعه، والمدة المتوقع ان يستغرقها إنجازه. ومن نافلة القول عمل الأنثروبولوجيين التطبيقيين ضمن مدة زمنية تحددها الجهة المستفيدة من عملهم، وهذا يستلزم منهم الاستعداد والجهوزية التامة، والتسلح بحزمة من الأدوات البحثية والمقاربات والمناهج المناسبة.
ويُعد علم الاثنوغرافيا من أبرز الأطر المنهجية وأهمها على الأطلاق بالنسبة للعاملين في حقل الأنثروبولوجيا. وتُعنى هذه المنهجية، عموماً بالتوثيق المنتظم للثقافات البشرية وتفسيرها. وعلى الرغم من تعدد استعمالات هذه المنهجية وعدم إستئثار علم الأنثروبولوجي باستعمالها، بالإمكان القول ان الحقل المعرفي الأخير- أي الأنثروبولوجي- لم تكن لتقوم له قائمة لولا علم الاثنوغرافيا الذي تجلت قيمته العالية في كافة الفروع المعرفية الأخرى. ويؤلف إجراء المقابلات، والملاحظة المباشرة أو الملاحظة بالمشاركة، وتعلم اللغات المحلية، وتدوين قواعد البيانات وتشفيرها وغيرها من عناصر البحث النوعية الأسس التي تستند إليها كافة الأنشطة الاثنوغرافية. وبهذا الصدد، بينَ بلاتنر وزملاؤه (1989)، ضرورة إتقان الأنثروبولوجيين الثقافيين مهارات جمع قواعد البيانات الكمية وتحليلها. وبالمثل، على الأقسام الأنثروبولوجية في الجامعات تطوير مهارات طلابها وقدراتهم على تصميم الأبحاث اللازمة لأختبار الفرضيات كمياً.
وتاريخياً، عرف الأنثروبولوجيون علم الاثنوغرافيا بوصفه ممارسة بحثية قد تستغرق شهوراً أو ربما سنوات من تدوين الملاحظات وجمع المعلومات. وبالنظر الى القيود الزمنية المفروضة على الأنشطة التطبيقية، فإن إيجاد وسائل بحثية كفوءة وكفيلة باختصار الوقت يُعد امراً ضرورياً. وقد شهدت سبعينيات القرن العشرين بروز سلسلة جديدة من الإجراءات البحثية الأسرع والأكثر قدرةً على الإنجاز. ولهذه الإجراءات مسميات عدة من أبرزها، طبقاً لسكرمشو وهورتادو (1987)، (التقويم الأنثروبولوجي السريع) أو (إجراءات التقويم السريعة) (RAP). وتتضمن التقنيات المعتمدة في هذه التقويمات الاثنوغرافية السريعة والمتمحورة حول الموضوع أشكالاً متجددة من التقنيات البحثية التي تضم، الى جانب الملاحظة المباشرة أو الملاحظة بالمشاركة، تقنيات مشاركة الباحث المباشرة في النشاط قيد الدراسة؛ وإجراء المقابلات شبه المقننة؛ والمقابلات الجماعية؛ والمجموعات البؤرية (المحورية)؛ والصور الجوية؛ والمسح الجوي الخرائطي، والرحلات الجماعية؛ والرسوم البيانية؛ والحسابات الكمية، وتحديد المرتبة والصنف؛ والقراءة الكلية لصور الأقمار الصناعية؛ وألعاب المحاكاة؛ ولعب الأدوار؛ وتقنيات السوندو(5)؛ واستعلامات الفريق البحثي؛ والإنتقاء المتخيل للمعلومات الأساسية كما في المقابلات المتسلسلة؛ وبعض الإجراءات الأخرى المعنية بالحصول على تقويمات الأفراد موضوع الدراسة؛ وتقنية التعريف الذاتي (للمزيد يُنظر سيرنيا 1992؛ المبحث الأول في (التغيرات المتوائمة)، منشور الكتروني غير مرقم). وعلى الرغم من كفايته ظاهرياً، لم تخل اجراءات التقويم السريعة (RAP) من العيوب التي رصدها المنتقدون. فتقنياتها لا توظف العينات العشوائية الخاصة بتقديم بيانات كمية دالة أحصائياً. ولهذا، لا يمكن الإفادة من النتائج المتمخضة عنها لوضع التعميمات حول مجموعات سكانية بعينها. وفضلاً عن ذلك، يعتقد بعض الأنثروبولوجيين بإنتفاء الحاجة الى المشاركة في الدورات التدريبية الرامية الى التعريف بهذه الإجراءات (أي الـ RAP) بالنظر الى مناحي التشابه العديدة التي تجمعها بالمناهج التقليدية. وبرغم ذلك، ينبغي لكل باحث، لضمان ان تعمل منهجيته البحثية على أكمل وجه، ان يتقن إستعمال هذه التقنيات. وهذا الرأي صحيح تماماً، ولاسيما في إجراءات التقويم الأنثروبولوجية السريعة (RAP)، بالنظر الى تداخل ممارساتها وغاياتها مع ممارسات الحقول المعرفية الاخرى وغاياتها.
ولأجل إجراء الدراسات وتنفيذ الأنشطة الميدانية باستعمال مناهج التقويم الأنثروبولوجية السريعة (RAP)، ينبغي توظيف ثلاث تقنيات؛ هي تقنيات جمع العينات سهلة التحليل وتحليلها؛ وتقنية المجموعات البؤرية (المحورية)؛ والدراسات الميدانية الموجهة لتعزيز خاصية المعولية. ويشيع استعمال تقنيات التقويم الأنثروبولوجية السريعة (RAP) عادةً بوصفها أساساً مناسباً للأبحاث طويلة الأمد أو الأبحاث المرشدة اللازمة في تطوير البرامج والمشاريع. وثمة مجالات اخرى بإمكان الأنثروبولوجيين فيها الإستعانة بهذه التقنية، كما في حالة الأنثروبولوجيين العاملين في القطاع الزراعي الذين يستعملون تقنيات التقويم الريفية السريعة (RRA)(راودز 1982). ويعتمد النوع الأخير من التقنيات على استحصال المعلومات من المبحوثين (المنتمين) باستعمال مناهج بحثية سريعة يمكن التعويل عليها، وفي الوقت نفسه، مستمدة من الممارسات الاثنوغرافية ومنهجيات المسح الميداني المعروفة من قبيل جمع المعلومات الثانوية أمثال الخرائط والمواد، وإجراء المقابلات الدينامية والمتكررة، واعتماد العينات المنتقاة التي يحتمل توظيف النتائج المتمخضة عنها بوصفها اساساً لإجراء دراسات ميدانية أكثر شمولية (فان ويلجن 2002).
وبغية جمع المعلومات والبيانات بسرعة وكفاية، يُفضل الاستعمال المنتظم لمقابلات مجموعة البؤرة (المحور) لا المقابلات المتعمقة في الأبحاث التطبيقية. ويُعد النوع الأخير من المقابلات المنهجية الأكثر شيوعاً في عمليات جمع البيانات في علم الأنثروبولوجي فضلاً عن تقنية إجراء المقابلات المتعددة ثم تسجيلها وتحليل معطياتها. غير ان تطبيق المنهج ذاته في الأنثروبولوجيا التطبيقية تعترض سبيله صعوبات عدة منها الوقت الطويل الذي يستغرقه الإعداد لكل مقابلة على حدة. وعلى الرغم من ان تقنية مجموعات البؤرة (المحور) لم تلغ الحاجة الى المقابلات المتعمقة، ولم تحل محلها تماماً بالنسبة للأنثروبولوجيين التطبيقيين، يلاحظ استمرار العمل بها في مواقف معينة، ولاسيما عندما يحتاج الممارس الأنثروبولوجي الى مدخلات معلوماتية تخص موضوع بعينه من مجموعة من الأفراد أو، ربما، أجوبة من الأطراف المعنية عن التساؤلات ذاتها في مدة زمنية قصيرة. في تقنية مجموعة البؤرة (المحور)، يستهل الباحث الجلسة بتوجيه مجموعة من الأسئلة مفتوحة النهايات الى المشاركين. كما يطلب من مجموعة معينة من الأفراد حضور المقابلة لأهميتهم أو لصلتهم بالموضوع قيد الدراسة بغية معرفة آرائهم ومواقفهم. وتضم مجموعة البؤرة عادةً عدداً صغيراً من الأفراد المشاركين (يتراوح عددهم من ستة الى عشرة). وما لم يتضمن البحث دراسة ديناميات التكتلات الاجتماعية المتخالفة الشائعة في سياقات عملية معينة والمعنية بالموضوع قيد البحث (من مثل اشتراك كادر شركة ما يشغل أفرادها مواقع وظيفية مختلفة تتراوح من المواقع الإدارية العليا نزولاً الى العاملين في المستودعات والمخازن)، يشكل أفراد مجموعة البؤرة (المحور) مجموعة متجانسة غالباً. وتكمن أهمية هذه المجموعة في إسهامها الفاعل في صياغة الفرضيات المستندة الى التغذية المعلوماتية الراجعة المستحصلة من الإخباري، وتقويم الموضوعات والمواقف البحثية المتنوعة، وبلورة الأسئلة التي يؤمل الإفادة منها في الدراسات، والمسوحات الميدانية، والمقابلات المستقبلية، وأخيراً الحصول على التغذية الراجعة الخاصة بالنتائج التي توصلت إليها الدراسات السابقة (مورغن 1988). وعلى الرغم من الجاذبية التي تتمتع بها مجموعات البؤرة بالنظر الى قدرتها على تقديم معلومات مفصلة عن مجموعات سكانية معينة، ثمة جملة من مناحي الضعف تعتريها. إذ ان إجابات أفراد هذه المجموعة تتأثر عادةً بالسياق الأجتماعي الذي تعيش فيه، فضلاً عن العوامل الأخرى التي قد تؤثر في النتائج الختامية وتُغيرها من قبيل حضور الأفراد من كلا الجنسين، ومستويات التحصيل الدراسي للمشاركين، وأوقات الجلسات، وطبيعة الأجواء السائدة في أثناء إجراء الدراسة. وفضلاً عن ذلك، ثمة من يعتقد ان قدرة المنسق ومهاراته تؤثر في نوعية الإجابات، وهذا الأمر يرتبط أرتباطاً واضحاً بقدرته على إدارة الجلسات بأسلوب ناجحٍ، والحفاظ على وحدة الموضوع، وإثارة عناية المشاركين، فضلاً عن ضرورة عدم تجاهله للإجوبة حتى تلك التي لا تتصل اتصالاً مباشراً بالموضوع المطروح لما لها من أهمية للبحث ككل.
وثمة منهج تطبيقي آخر هو (أبحاث الفعل التشاركية) (PAR) الذي يستلزم تعاون أفراد المجتمع المحلي أو المجموعة السكانية مع التعهد بالإلتزام بالتغيير بغية التوصل الى فعل جماعي ينتفع منه أفراد ذلك المجتمع أو المجموعة. وحول هذا المنهج، تحدث فالس-بوردا عن ممارسات أبحاث الفعل التشاركية (PAR) الفاعلة بوصفها تلك الممارسات المعنية بـ (تحويل العناصر الثقافية الى أفعال سياسية واقتصادية مجدية)(2000، 632). وطبقاً لما أورده كل من سمث وبيرش واورنلاز لزاردو(1993)، فإن “جوهر المقاربة المعتمدة في هذه الأبحاث يكمن في العناية والإنخراط الديناميين في التأمل والفعل الجماعيين”(320). وبالنظر الى اختيار أفراد المجموعة العمل معاً، تتوزع المهام التي يؤديها العاملون على وفق هذه المقاربة على جمع المعلومات وتحليلها، والإستعلام عن الموضوعات قيد الدراسة، وتحديد الأفعال والمبادرات اللازمة لضمان إحداث التغييرات المطلوبة (سمث، وبيرش، واورنلاز لزاردو 1993).
وثمة مقاربة اخرى هي الأقل استعمالاً في الأنثروبولوجيا التطبيقية. وهذه المقاربة هي “تحليل الشبكة الاجتماعية”، وبموجبها يعمل الباحثون في جمع قواعد البيانات والمعلومات بنوعيها الرسمية وغير الرسمية، وتحديد بنية العلاقات القائمة بين أفراد مجموعة ما وأبعادها، فضلاً عن محاولة التعرف الى التأثيرات التي تحدثها هذه العلاقات وتحديد مدياتها، والتنبؤ بطبيعة تأثيرها في مستقبل الأفراد، والمنظمات، والمجتمعات (تروتر 2000، 210). وتتميز هذه الشبكات أحياناً بكونها متمحورة حول الأنا لجهة إشتمالها على جملة من “حلقات التواصل والأرتباط التي تقوم بين شخصٍ واحدٍ وأفراد الشريحة السكانية الأخرين موضوع البحث”؛ أو حلقات التواصل المتكاملة/العلائقية التي “يرتبط بوساطتها كافة الأفراد المنتمين الى مجموعة او شبكة اجتماعية في ثقافة ما”؛ أو علاقة جزئية/مختصة ينتمي لها “الأفراد الذين يتشاركون في سلوكيات ومعتقدات معينة”. وهذا التصور ثلاثي الأبعاد للعلاقات الاجتماعية ينهض بدورٍ بارزٍ في تزويد الباحث بملاحظات مهمة ومفصلة عن طبيعة العلاقات والتفاعلات الأجتماعية العامة والشائعة التي قد تعجز المخططات التراتبية والتنظيمية عن إيضاحها وتسليط الضوء عليها.
وفضلاً عن هذه المناهج والمقاربات، يلاحظ ميل الأنثروبولوجيين التطبيقيين، خلافاً لزملائهم العاملين في هذا الحقل المعرفي، الى الإستعانة بتقنيات جمع البيانات الكمية المتطورة تكنولوجياً. فهم يجرون دراسات ومسوحات ميدانية كمية كثيرة، ويوظفون العديد من المفاهيم المعرفية أمثال إعداد القوائم الحرة، وتحديد الموضوعات وتصنيفها، ومقاربة الاختبارات الثلاثية، أو مقاربة نمذجة صنع القرار. وبالمثل، يعتمد بعضهم على تقنيات أنظمة المعلومات الجغرافية (GIS) بوصفها وسيلة مناسبة لدراسة التضاريس المكانية والمحلية، وإعداد الخرائط المكانية لمعرفة تصورات السكان وأفكارهم عن الحيز المكاني. وبالتوازي مع التغيرات التي تشهدها المجتمعات المعاصرة، ولاسيما في مجال استعمال التكنولوجيات، تتغير المناهج والمقاربات البحثية التي يستعملها الأنثروبولوجيون التطبيقيون. إذ يزداد الطلب حالياً على مقاربة البحث التشاركي، ويتزامن ذلك مع التحول الذي تشهده دراسات التنمية البرامجية، والسياسية، والإنتاجية، والتسويقية، والتجارية نحو المقاربة المتمركزة على المستخدم/الزبون. وبقدر ما يزداد التداخل بين الحقول المعرفية المختلفة، تتداخل الثقافات والمجتمعات، فتتلاشى الحدود الفاصلة في ما بينها، وتغدو الحياة أكثر تنوعاً وتعقيداً. وهذا يؤدي الى إلقاء مزيد من الأعباء على كاهل الأنثروبولوجيين التطبيقيين الذين يتوجب عليهم استعمال المناهج والتقنيات الأحدث والأكثر تطوراً لضمان الحصول على بيانات أدق وأشمل. كما انهم بحاجة، أكثر من أي وقت مضى، الى إيصال نتائج دراساتهم الى شرائح سكانية يزداد تنوعها بإطرّاد أمثال المؤسسات والهيئات/الزبائن، والمشاركين في الدراسات، والجهات الأخرى المستفيدة الذين قد يتمتعون بمؤهلات وخلفيات اجتماعية وثقافية مختلفة. وهذا بدوره يعني ضرورة تمتع الأنثروبولوجيين التطبيقيين بمهارات تواصل شفاهية وكتابية متطورة، وضرورة تخصيص الأقسام الأنثروبولوجية في الجامعات والمعاهد المزيد من الوقت والموارد لتنمية خبرات الطلاب وإعدادهم لولوج مضمار الحياة المهنية والعملية. وتقتصر غالبية الأعمال والواجبات الكتابية التي يُكلف الطلاب بأدائها حالياً على إعداد دراسات بحثية فصلية موجزة قد تُطور وتُتخذ أساساً للمشاريع البحثية اللاحقة. وينبغي للأنثروبولوجيين كذلك تطوير تقنيات الكتابة ومهاراتها لتتضمن استعمال مواد يسهل فهمها وبلوغها من قبيل الكراسات التعليمية، والرسائل العلمية، والتقارير السياسية، والتصريحات الصحفية، والمراسلات الرسمية، والتقارير المُقنعة، وأشكال التواصل الأخرى من مثل مواقع الشبكة العنكبوتية، والمذياعية، والسينمائية. وفضلاً عن ذلك، تتضمن غالبية برامج التدريب في المراحل العليا في الجامعات الأمريكية ممارسة مهنة التدريس التي من شأنها تنمية مهارات التواصل الشفاهي جنباً الى جنب تشجيع الطلاب على المشاركة في المؤتمرات العلمية، وورشات العمل، وتقديم عرض موجز بأوراقهم البحثية لضمان تعزيز هذه المهارات وتطويرها. وتندرج هذه المناهج والمقاربات المستعملة في خانة الإضافات الأحدث والأوسع انتشاراً في الذخيرة الأنثروبولوجية التطبيقية التي ينبغي إلزام الطلاب والباحثين والممارسين المستقبليين بالتدرب على استعمالها.