موقع أرنتروبوس

قرية العراق ….. الحاجة الى الانثروبولوجيا السياسية

بقلم : سعدون محسن ضمد

لا أعتقد بأن هناك بلداً يمثل ميداناً مناسباً لدراسات الانثروبولوجيا السياسية أكثر من العراق.. حيث تختلط فيه أنظمة متعددة للحكم وتتقاسم التأثير على القرار السياسي فيه أنساق المجتمع المختلفة. ويمكن اعتباره من هذه الجهة نموذجاً واضحاً يحكي تاريخ تطور النظام السياسي الإنساني. حيث تتجسد فيه كل المراحل التي مر بها هذا النظام على مر التاريخ. بدأ من سلطة الأب (القديم) في أشكال التجمع البدائية الأولى، وانتهاء بسلطة (الأب) العولمي الجديد المتمثل بالسيادة الأميركية على العالم الحالي.
في العراق الآن توجد قرى مستقلة تحكم نفسها وفق نظام (عشائري/ ديني) بموازاة هذه القرى دولة ديمقراطية تحاول أن تبني مؤسساتها بشكل حديث. وبين هذين التناقضين توجد نماذج كثيرة من السلطات المنتشرة هنا وهناك.
ليس من السهل على الباحث في الانثروبولجيا السياسية أن يجد بيئة مناسبة لبحوثه واهتماماته، خاصّة مع تطور المجتمعات وتعقد النظم السياسية، الأمر الذي يجعل من أمر الحصول على بيئة تتفاعل فيها أشكال السلطة البدائية أمراً مستحيلاً. لكن في العراق اليوم توجد مثل هذه السلطات، لكن ما لا يوجد في العراق هم الباحثين المختصين بهذا الشأن، أو ممن يثيرهم هذا الشأن. فمع تعقد المأساة العرقية تزداد الحاجة لباحثين مهتمين بتفكيك مختلف أوجه وتلاوين هذه الأزمة، لكن بقاء نزيف العراق مستمراً بمرأى من الأطباء العراقيين أمر يثير الحفيظة والقلق.

وبالعودة لتوفر مادة الدراسة الانثروبولوجية نستطيع أن نجد مثلاً أنواع القيادات التي ظهرت في العراق، فقد ظهرت لدينا قيادات وزعامات لا تنتمي لهذا العصر أبداً، الزرقاوي مثلاً نموذج لسلطة لا يمكن تعريفها بسهولة، فجسد الجماعة التي أمسك بزمامها ليس دينياً تماماً، ولا هو سياسي، ولا عرقي، هذا من جهة، ومن جهة أخرى لا نستطيع أن نقول عن سلطة الزرقاوي التي استطاع من خلالها أن يهيمن على جماعته، أنها سلطة دينية ولا هي عشائرية تماماً، وهذا ما يجعل منها نموذجاً مناسباً لبحث في الانثروبولوجيا السياسية.
اللافت للنظر في البيئة السياسية العراقية الحالية (المتنوعة والمتناقضة مع نفسها)، أنها تحتفظ بجامع مشترك تربط من خلاله متناقضاتها، هذا الرابط هو الفوضى والارتجال، فليس هناك ولا جهة واحدة استطاعت أن تمد خطاً من التنظيم والستراتيجية تلظم به خرز أدائها منذ 2003 وحتى الآن، والمضحك في الأمر أن الأحزاب الدينية تحولت للأداء العلماني والعكس صحيح أي أن الأحزاب العلمانية جربت حظها بالأداء الديني في محاولات من قبل الجهتين لتنويع العزف وراء نجاحات غير مرصودة ولا مخطط لها، وهذا الأمر بحد ذاته كفيل بأن يثير شهية البحث الانثربوبولوجي السياسي لو كانت هناك شهية علمية حقيقية في العراق. فليس من المعقول أن يتكئ رئيس حزب علماني يفترض باجندته أنها مكرسة للخروج بالمجتمع من سلطة الديني، ليس من المعقول أنه يتكئ على الزعامة الدينية في الدعوة لأجندته، ومن جهة أخرى ليس من المعقول أن تحتضن الآيديولوجية الدينية أفكاراً وطروحات وسلوكيات وتطبيقات تتجاوز بها ما ورد حتى على أحلام الآيديولوجيات المناقضة لها.
هناك رابط آخر بين متناقضات الأزمة يتعلق أيضاً بأبحاث الانثروبولوجيا السياسية، هو النسق القرابي العشائري، هذا المهيمن (الصاعد) على المشهد العراقي، والذي يمكن أن نجد نموذجه الصارخ بجميع مفاصل الدولة العراقية الحالية، بدأ بوزارات الدولة التي تحولت لإقطاعات عشائرية وانتهاء بالدويلات الإسلامية العشائرية التي تظهر وتختفي هنا وهناك، بمختلف محافظات العراق.
ولو أخذنا بنظر الاعتبار مفهوم (القرابة السياسية) الذي أسس له الباحث العراقي علاء حميد في مقالة له نُشرت بجريدة الصباح والذي اعتبر فيه أن العلاقات الحزبية بدأت تنزع نزوعاً قرابياً، لعرفنا بأن ضموراً بالمؤسسة الحزبية بدأ يظهر في ساحة العراق لصالح عافية المؤسسة العشائرية التي أخذت تزحف من حول بغداد باتجاه مركزها.
هذه المؤشرات وكثيرة غيرها تشير بوضوع إلى أننا على تخوم عصر قروي عراقي جديد.
في العراق أيضاً توجد ظاهرة تستحق التأمل والتوقف والاندهاش، وهي ظاهرة استدعاء الدولة لسلطة العشيرة لتنقذها من مأزق الجماعات المسلحة، فهذا الاستدعاء لا يتناسب والبنية الاجتماعية/ السياسية التي يفترض بهذه الدولة أنها بصدد بنائها، فمؤسسات الدولة الحديثة وباعتبارها بيئة عمل التكنوقراط، تتقاطع مع النظام القرابي الذي تقوم عليه بنية العشيرة والذي هو بيئة لا تعتمد الكفاءة في تقسيم العمل بل القرابة، وعندما تعمد الدولة لتقوية سلطة العشيرة فهذا يعني أو يؤدي إلى تقوية نسق القرابة داخل بنية الدولة، وهو أمر كفيل بشل عملية البناء المؤسساتي الديمقراطي المتصاعد الذي نـحن بحاجة إليه.
إن بلوغ الإفلاس بالكادر السياسي الماسك بزمام الأمور حد الاعتماد على سلطة العشيرة يكشف عن خلوا مشروعنا السياسي من أي ستراتيجية تتناسب وتعقدات أزمتنا وتلبي حاجاتنا الحالية والمستقبلية. كما أنه يكشف أيضاً عن تراجع الثقافة الحضرية لحساب الريفية، أي تقهقر المجتمع من كونه مجتمع دولة لكونه مجتمع ما قبل الدولة.
ومع ذلك تبقى ألقاب أقطاب السياسة العراقية تشي بمقدار العشائرية التي تركب صهوة السياسية العراقية (المالكي.. الجعفري.. الحكيم.. المشهداني، الدليمي، الهاشمي، البارازاني، الطالباني…. الخ).
لكن ومع الأخذ بنظر الاعتبار كل المفردات السابقة هل نستطيع القول بأن العراق مقسم لإقاليم سياسية وأن لكل أقليم منها طابعاً أو نسقاً سياسياً يختلف عن الأقاليم الأخرى؟

Exit mobile version