موقع أرنتروبوس

قداسة المكان

المسجد الأقصى

شمس الدين الكيلاني
أشار ياقوت الحموي مقارباً المعنى اللغوي للمقدس قائلاً: “المقدس في اللغة المتنزَّه… ومعنى نقدَّس لك: أي نطهر أنفسنا لك…. ومن هنا بيت المقدس… أي البيت المقدس المطهر الذي يُتطهر به من الذنوب… وقال قتادة المراد بأرض المقدس أي المبارك”(1). وعندما نطلب بالعربية مراعاة (حرمة) مكان ما، نكون أمام حكم على هذا المكان بأنه يحمل في ثناياه (القداسة)، كما أن الطاهر في اللغة يحيل إلى “ القداسة”، وجاء في قاموس الشيخ عبد الله البستاني (مادة حرم)، حرمه الشيء منعه إياه، والحرام ما لا يحل انتهاكه، والحرام نقيض الحلال، والحرم الأقصى بيت المقدس، وحرم الله على نفسه الظلم تقدَّس عنه، وفي لسان العرب لابن منظور “ مادة قدس القدوس الطاهر المتنزه عن العيوب والنواقص، وتقدس لك أي نطهر أنفسنا لك، ونأخذ من هذا الشرح معنيين للفظ الحرام: وهما ممنوع ومقدس، فالحرام ما كان ممنوعاً، والمانع من انتهاك حرمته طهارته، وعليه لا يجوز للمرء أن يمس الأشياء المقدسة، أو يدنو منها إلاّ في حالة طهارة تامة، ومن ذلك الآية: (ولا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى((4/43)(2).‏
فإذا انتقلنا إلى معاينة التصور الديني للجغرافية الروحية لخريطة الكون، فإننا نجده يختلف جذرياً عن النظرة الحيادية أو العلمية للمكان، فهو يتخذ حكماً تفاضلياً نحو المكان يحمّلُ بعض الأمكنة رسالة مقدسة، وبعضها الآخر إشارات رتيبة، فينقسم الكون لهذه النظرية إلى الجليل/ العادي، السماوي /الأرضي، الشاعري/ النثري، فتنظم هذه الرؤية، الثنائية للكون، موقف المؤمن من العالم الأرضي، بعد أن تُشبعه بالرمزية والدلالات، فيتحول بها فضاؤه الكوني (المملوء بالغموض والفوضى) إلى فضاء كثيف بالمعاني والمعقولية، ويضفي معنىً رمزياً على أماكنها المقدسة، أرضاً، أو مدينة أو شجرة، أو جبلاً، فتختبر الجماعة المؤمنة، أمام هذه القداسة، أعمق مشاعر الإجلال والغبطة، حيث تتصل بما يشير إلى الأبدية، والتعالي، وتدخل عبر توسطات الجغرافية المقدسة تلك في علاقة حميمة مع العالم العلوي، حينها تتحول تلك الجغرافية إلى جسر يصل ما بين المؤمن والله، بين المرئي واللامرئي، ما بين الغياب والحضور، ما بين الزمان والأبدية.‏
إن الفكر الديني يعتمد على (الرمزي) في تحديده وفي فصله بين المكان المقدس، والمكان العادي أو المدنس، ولا يخضع في هذا التحديد إلى المنطق العلمي المحايد تجاه ظواهر المكان، لأنه ببساطة يعتمد على الرمز بأشكاله العليا، ومن هنا، لن تتأثر مشاعر المسلم المشبعة بالتبجيل تجاه القدس، أو الكعبة، بأية أبحاث أركولوجية فيهما، إذ ليس المكان هنا إلاّ وسيلة استنباط روحية لذلك المكان الذي رعته القداسة الإلهية، فالتاريخ الإركولوجي ليس سوى تاريخ خاص، لا يغطي سوى وجه واحد لحقيقة المكان، لا يغطي سوى مساحة واحدة منه، أما المساحات الأخرى، أو الوجوه الأخرى الرمزية فيغطيها الدين في تحديده للجغرافية المقدسة، ثم يأتي الفن ليبرز الساحة الجمالية لهذا المكان نفسه، فنظام المعرفة الدينية تجاه القداسة يختلف جذرياً عن المعرفة العلمية، فالأول يدخلنا في أروقة الساحة الرمزية، التي هي أهم ساحات المكان المقدس، وأكثرها تحكماً بالساحات الأخرى، فإذا كانت المعرفة العلمية تستهدف (المطابقة) أو الاقتراب من حقيقة ما هو موجود ومن قانونيته الموضوعية فحسب، فإن الإدراك القدسي، يعتمد على أحكام تفاضلية تجاه المكان، مشبعة بالمعايير والقيم، ووسيلته إلى ذلك المنطق الرمزي والروحي، ويستخدم في ذلك اصطلاحات القداسة، والدناسة، والحرام والحلال.‏
تضرب فكرة قداسة المكان في جذورها إلى التاريخ البشري القديم، ولعلها صاحبت يقظة الإنسان الحضارية في المجتمعات القديمة، فلقد احتلت الميثولوجية موقع القبة الرمزية لتلك المجتمعات، ونظرتها الشاملة، إذ أحاطت بجميع فعالياتها الذهنية، ومنحتها ناظماً معيارياً يتحكم بمجمل سلوكها الاجتماعي، وأعطتها تفسيراً لأصل العالم والجماعة، وذكرت الأحياء بأبطالهم الأسطوريين، وغلفت بدلالتها، وبالبنى الرمزية التي حملتها الحياة الاجتماعية برمتها، ورفعت سلماً من القيم حددت على هديه وجهتي النجاسة والعادي فيما يحيط بها من أمكنه، وإن تكرار الجماعة لطقوسها، يهدف إلى إعادة إحياء زمن الولادة الأسطوري لتمنح حياتها المعنى، ولتدل به على المقدس والفاتر في حياتها، ومعاشها، في المكان والزمان.‏
أما الدين التوحيدي فقد حرّر فكرة الإله من تجسيداته الطبيعية ومن عناصر التشبيه، وذلك برفعه فكرة التنزيه إلى ذروة التسامي، وبعد أن كانت عبادة الجماعات لظواهر الطبيعة، وامتدادات المكان، تقوم على توسيط (التابو) الذي يختلط به المدنس والمقدس، فتقود الإنسان المؤمن بالميثولوجيا إلى الانحناء والخضوع لـه، بوعي ملتبس، فإن مبدأ التوحيد يرفع هذا الالتباس عن المكان، وعن الطبيعة، بحصره المقدس في جغرافية مكانية محددة، ليفتح أمام العقل مجال التفكير العقلاني والعملي ببقية العالم، لمحاولة اكتشافه، بعد أن حصر قداسة المكان في مجال فضائي محدد، يرمز فيه، ويوحي به إلى الخالق، دون أن يستغرق فيه، فنتج عن ذلك تحرير الروح والنفس الإنسانيتين من عثار توسط المكان، وغدت العلاقة الفردية الإيمانية علاقة حاكمة بين الإنسان والله، فينهض الإنسان، وهو كائن روحي وأخلاقي، لإقامة عالم أخلاقي متوافق مع تقوى الله،وبرزت خلال ذلك العناصر الشخصية في المقدس الإلهي، حيث لم يتبق إلاّ ذات واحدة، تبسط رحمتها على مجمل المعمورة، ترمز إلى قداسة بعض الأمكنة المحددة، كالجغرافية المقدسة الإسلامية، المشتملة على الكعبة والمسجد الأقصى، والمسجد النبوي.‏
قدم الدين التوحيدي تفسيراً شاملاً للعالم وللحياة الإنسانية، دوافعها الأولى، وغاياتها القصوى، وتناول التجربة الاجتماعية وأعطاها مسوغاتها، ووفر ذخيرة وافرة من الدلالات والرموز لعلاقات الإنسان بالعالم والله والآخرين، وميّز بخطاب ثنائي متماسك بين الأعمال الخيرة والأعمال الشريرة، وبين العادل والظالم، ليضبط سلوك الفرد الاجتماعي لتحقيق ما هو عادل، ولما يرضي الله، ليحل المقياس الأخلاقي على حساب فكرة المدنس والمقدس الأسطوريين، فتصبح حياة الفرد نضالاً من أجل التقوى، وكانت الخطوة الحاسمة التي خطاها الدين التوحيدي، هي رسمه حداً فاصلاً بين القداسة والنجاسة، والعادي، في المكان والزمان وفي تجارب البشر، واستوعب مبدأ الحرام والمقدس الميثولوجي، بعد أن ضمّنه معنى أعمق، في الواجب الديني الفردي، عندما جعل هذا الواجب تعبيراً لنمط إيجابي من الحرية الإنسانية ترتبط بشكل لصيق بالمسؤولية الشخصية(3) ولم تعد تعنيه القداسة الملتبسة في التابو بالمدنس التي تغطي المكان لتشمل كل الظواهر المحيطة، بعد أن خصّ بعض الأمكنة وحسب بالجانب المقدس، مزيلاً بذلك الالتباس الذي أحاط علاقته بالتابو، وموسعاً دائرة الدنيوي، لتشمل بقية الكون، ليبادر الإنسان إلى عمارته واكتشاف قوانينه، ولا سيما أن القول الديني اكتفى بتحديد ما هو عام، وترك التفاصيل للمبادرات الإنسانية، وحث على عمارة الكون، كما نجده واضحاً في الإسلام(4).‏

 

(1)ياقوت الحموي. من كتاب معجم البلدان. السفر الأول: اختيار: عبد الإله نبهان. دمشق. وزارة الثقافة. 1982. ص 379 ـ 380.‏
(2) عن يوسف شلحت. نحو نظرية جديدة في علم الاجتماع الديني. الفارابي. بيروت. 2003. ص 51 ـ 52.‏
(3) شمس الدين الكيلاني. من العود الأدبي إلى الوعي التاريخي. الكنوز الأدبية. بيروت. 1998.‏
ص 18 ـ 19.‏
(4) المصدر نفسه. ص 22.‏

 

Exit mobile version