موقع أرنتروبوس

قبيلة ناسيريما – دراسة كلاسيكية ضمن الأنثروبولوجيا


new-york-city

يندر ألا تجد ضمن كتاب أكاديمي موجه لطلاب الأنثروبولوجيا أو السوسيولوجيا ، هذه الدراسة لقبيلة ناسيريما (nacirema) والتي صدرت عام 1956 ،[1] وهي تعد اليوم من الدراسات الكلاسيكية !

تتحدث هذه الدراسة عن قبيلة غير مدروسة من قبل ، تعيش ما بين كندا والمكسيك ، في أراضي ما يسمى اليوم الولايات المتحدة !

وتتكلم عن ثقافة هذه القبيلة ، وتحديداً طقوس الجسد لديها !

ويبدأ الباحث قصته مع عرض للغنى والتنوع الذي بدأ أنثربولوجيو تلك المرحلة كشف الستار عنه . وكيف أن الأنثروبولوجي توقف عن الإندهاش بأي مشهد/طقس/شعيرة غريبة عجيبة !

بل ربما أضحى يستدعيها ، لكي يثبت جهوده ومهارته في كشف المخبوء ، وتفسير الكامن ! فهو لذكاء وقدرة توصل إلى أن العلة أو الغاية للطقس الفلاني هي هذه !

لذا يبتعد بعض الأنثروبولوجيين عن الإثنوغرافيا مخافة وسمهم بالتكرار أو اللاتجديد . وكأن التوصيف وهو المنطلق الأول لأي دراسة ، ولا يمكن للأنثروبولوجيا أن تكون بدونه ، هو رتبة ثانية أو ثالثة ، ويختص هذا البعض بالتحليل فقط وسبر أغوار الثقافة !

ولن أتحول إلى نـقـاش هذه الفـكرة ، لكن ، ســيبرز مع خاتمـة المقـال ، وجهة نـظـر !

إذن وصّف الباحث “هوارس ماينر” (Horace Miner) طبيعة الطقوس التي يتبعها أبناء هذه القبيلة ، لتطهير الجسد وتنظيفه ، وهي طقوس غريبة !

حيث نجد في كل مأوى ، مكاناً مقدساً يمارس فيه الفرد طقوس تطهّره وحيداً ، وفي هذا المكان صندوق مخصص للجرعات السحرية التي يتم تأمينها من العرافين ، الذين يمتلكون الرتبة الأعلى ضمن المجتمع ! ويستخدمها الأفراد بشكل يومي للحفاظ على طهارة – كما جمال – أجسادهم !

إذ أن الكامن خلف هذا الإهتمام المكثّف بالجسد – كما يؤكد الباحث – نظرة له تؤكد بشاعته ! وللتخلص منها يُستثمر هذا الوقت المضاعف ، كما يتم ترقية (أو تمجيد) مكانة عرّافي الجرعات السحرية !

ويأتي ثانياً في المكانة بعدهم ، رجل الفم المقدس ! حيث يمارس بسادية إدماء الأفواه ، كما حفر الأسنان لطرد الأرواح الشريرة منها ، ومن ثم تطهيرها ، وهم يتقبلون هذا بمازوشية ، يمكن للدراسات اللاحقة عنهم ، تشريح هذا السمة (سادية/مازوشية) في شخصياتهم ، وتحديد أهميتها كرئيسية أو هامشية ! وإن كان الباحث يراها جزءاً من شخصيتهم الجمعية !

بالطبع ينظر الباحث في إحتفالاتهم ، وشخصيتهم الأسطورية المؤسسة لقبيلتهم “نوتنيسا” (notgnihsaw) ، ويسرد بالتفصيل عن مكانهم الأقدس لاتيبسو (latipso) حيث نسبة من يخرجون أحياء منه أقل بكثير ممن يخرج ميتاً ، ومع ذلك تزداد باضطراد نسبة داخليه !

ومع أن الأطفال يقاومون الذهاب إليه ، لكن ذلك قبل تلقينهم ، وخضوعهم للجماعة !

يتم قبول المنتسبين بعد تقديمهم هدية قيّمة لسدنة الـ”لاتيبسو” ، وفور دخولهم ، يتم تجريدهم من كامل منتقياتهم ، كما من ثيابهم ، ثم يلبسون زياً خاصاً ! ومع أن شـعب الناسـيريما لديه حساسية خاصة متعلقة بالجســد ووظائفه ، إذ تمارس طقوسه بشكل سري ومنفرد ! إلا أن هذه الحساسية (ويمكن القول التابو) يُفتقد تماماً في هذا المكان الأقدس ! وهذا ما قد يسبب بصدمة نفسية ، يتم قبولها (وتجاوزها) عبر إعطائها معاني مقدسة !

بالطبع تستمر حلقة السادية/المازوشية ضمن هذا المكان بشكل يثير لدى الباحث الغريب صدمة ثقافية ، تمنعه أحياناً من تقبلها !

ثم يشرح “هوراس” عن الرتبة الثالثة من هذه الهيكلية التراتبية ضمن مجتمع الناسيريما ، وهي رتبة “المصغين” ! حيث ترتكز مكانتهم تبعاً لقدرتهم على الإصغاء !

وينهي كلامه بتعجب : كيف يمكن لهكذا قبيلة أن تستمر مع كل هذه الأعباء (والأثقال) التي فرضتها على نفسها ؟!

ثم يختصر طريقه للإجابة على هذا التعجب بإقتباس من مالينوفسكي في كتابه (السحر والعلم والدين) :

“إن النظر من بعد ومن علو ، ومن أمان حضارتنا المتقدمة ، يتيح لنا أن نتأمل لامعقولية السحر ! لكن دون قوة السحر وإرشاده لما أمكن للبدائي أن يتخطى الصعوبات ، ولا قدر الإنسان على إرتقاء سلم الحضارة” !

والفكرة التي يذيّل بها كلامه واضحة في تحديد موقف مالينوفسكي المركزي-الإثني (لكن هذا له حديث آخر) ! كما أنها تشير إلى أن الغرائبية ، التي نُسقطها على الآخر ، هي نتاج وهمنا أننا أفضل فقط لأن غرائبيتنا مألوفة لنا !

وهذا سيتوضح بعد أن يعلم القارئ أن قبيلة ناسيريما ما هي إلا الشعب الأمريكي الحديث (عام نشر المقال) (وهي لعبة لغوية لكلمة “american” ، بالمقلوب “nacirema”) ! وأن العرافين هم الأطباء ، ورجل الفم المقدس هو طبيب الأسنان ، ومؤسس قبيلتهم (notgnihsaw) هو واشنطن (Washington) . أما اللاتيبسو فهي المستشفى ! والمصغين هم الأطباء النفسيين ! والمكان المقدس في كل مأوى هو الحمام ، وصندوق الجرعات السحرية ، هي الصيدلية بأدويتها المختلفة التي تتوافر في كل منزل !

وكل دراسة “هوارس” كانت تلميحاً ذكياً بأن قراءة نشاطاتنا اليومية بعين الغريب ، تتحول إلى غرائبية ! وأن الأنثروبولوجيا تساعد أحياناً على نشرها ضمن تراتبية تتضمن حضارة الرجل الأبيض على رأسها !

فهو (أي الرجل الأبيض) – ومالينوفسكي مثال – يتربع على قمة الهرم ، مما يسمح له بتقسيم المجتمعات والثقافات ، فالغريب هو ما يستحق الدراسة والتصنيف ! لا الرجل الأبيض وحضارته !

ودون أن نحمّل الدراسة أجندة ما ! فهي تبقى إلماعة ذكية ، يتم تدريسها لطلاب الإختصاص كشاهد على قدرة المركزية الإثنية في تعديل منظور الباحث (أو تشويهه) !

[1] Miner, H.M., “Body Ritual Among the Nacirema”, American Anthropologist, vol 58: pp. 503-507, June 1956.

Exit mobile version