موقع أرنتروبوس

في تركيا ..زفاف دون عرس ودون عروس

666666

كاتب المقال : عبد القادر علي

مما قد يصادفه المرء في محطات الحافلات المركزية في تركيا، احتفال يتبادر إلى ذهن رائيه أنه لا محالة عرس، غير أن شيئاً من التدقيق يوقع في الحيرة إذ لا عروس في المكان، كما أن دموع الحضور وثيابهم لا توحي بذلك، بل ثياب العريس المفترض لا تكاد تختلف عن الآخرين في شيء إلا علماً تركياً توشحه وربط طرفاه عند عنقه.. فإن لم يكن عرساً فما هو؟

ليلة زفاف العسكري

بالترجمة الحرفية لتسمية هذا الاحتفال، فإنه يعد عرساً إذ هي “ليلة زفاف العسكري”، فعلى غير المعهود في عالمنا العربي، هناك من الأتراك من يحتفل بذهاب الشاب إلى خدمة العلم لا بعودته منها، وتبدأ مراسم هذا الاحتفال قبل ما يقارب الأسبوع من موعد التحاق الشاب بقطعته العسكرية، إذ يزوره الأقرباء والجيران، ويودعونه طالبين منه السماح، فالجميع يدرك أنه قد يذهب بلا عودة.

ويجتمع رفاق الشاب ليلة رحيله يسمرون ويهونون عليه ما هو مقبل عليه، ومع حلول ساعة الرحيل يُحمل على أكتاف أصدقائه إلى محطة الحافلات المركزية، إن كانت قريبة من بيته، مع إطلاق الألعاب النارية وترديد الهتافات الحماسية من مثل: العسكر الأكبر عسكرنا، أو: العسكر سيذهب وسيعود، تفاؤلاً بعودته سالماً منصوراً. فإن كان البيت بعيداً عن المحطة انطلقوا به في مسيرة بالسيارات مطلقين لأبواقها العنان احتفالاً به.

وقد تصبغ الأم أصبعَ الراحلِ الأصغرَ بالحناء، وللأتراك حكاية تقول إن ضابطاً لاحظ الحناء على أصبع العسكري، فناداه سائلاً عن العبرة من ذلك، فأجابه العسكري أن أمه فعلت ذلك ولم تخبره بالمغزى منها. فطلب الضابط أن يسألها في الإجازة، وهكذا فعل، وعندما عاد أخبر قائده قائلاً: قالت أمي: في ثقافتنا نستخدم الحناء في ثلاثة مواضع؛ الأول الفتاة التي تزف إلى زوجها، لتكون فداء لأسرتها، والثاني أضحية العيد لكونها فداء لله، والثالث للشاب الذاهب إلى العسكرية ليكون فداء لوطنه.

ومن عادات الأتراك أن تصب الأم قليلاً من الماء خلف ابنها وهو ذاهب؛ ليكون دربه كدرب هذا الماء سهلاً ميسراً.

وبعض العائلات تقيم ليلة رحيله مولداً يجتمع فيه الأصدقاء والأقرباء والجيران، يقرؤون القرآن، ويدعون له بالسلامة، ثم يودعونه طالبين منه العفو والسماح، ومنهم من يقوم بإهدائه ما يعينه في رحلته من مال أو ثياب.

وفي محطة الحافلات يبدأ “الزفاف”، حيث يتحلق الجميع في الدبكة التركية بمرافقة قرع الطبول والمزامير، ويُحمل الشاب على أكتاف أصدقائه وهو متوشح العلم التركي، ويصيح الجميع: عسكرنا أكبر عسكر، العسكر سيذهب وسيعود، وعند حلول موعد انطلاق الحافلة ينزلونه ويسلم على مودعيه وسط التأثر البالغ، ثم يستقل العربة ويبدأ رحلته.

وفي بعض القرى يجتمع الشباب الذاهبون ليلة رحيلهم في صلاة المغرب في الصف الأول خلف الإمام، وبعد انتهاء الصلاة يبدأ الإمام بالدعاء ويؤمّن المصلون. ثم يسلم الحاضرون على الشباب ويستميحونهم العفو.

في صباح يوم السفر يجتمع الذاهبون إلى العسكرية مع الأهل والجيران والأصدقاء في ساحة القرية، ثم يبدأ احتفال كالمذكور سابقاً. وبعد انطلاق العسكر يلتف المودعون حول عائلات الراحلين داعين أن يجمعهم الله بأبنائهم.

وقد يأخذ الأمر منحى أكثر رسمية وتنظيماً، من خلال قيام بعض البلديات بالاحتفال بجميع الذاهبين إلى الخدمة في صالة من الصالات التابعة لها.

لم يحتفلون ؟ ولم لا يحتفلون؟

تتفاوت الآراء في سبب هذا الاحتفال، فثمة من يقول إن ذلك لرفع معنويات الشاب المقبل على تجربة جديدة، وهناك من يذهب إلى أن ذلك احتفال باكتمال رجولته، وأوسعها أفقاً يرى أن الأتراك تاريخياً شعب محارب ينظر إلى العسكرية بعين التبجيل والتقدير.

غير أن هذه الآراء تقف صامتة أمام تساؤل مفاده فلماذا لا يحتفل كل الأتراك بذلك إذن؟!

ولعل مفتاح الجواب يكمن في طبيعة العلاقة التي تربط بين الدولة التركية الحديثة وإحدى أهم مؤسساتها (الجيش) وبين المجتمع التركي؛ فبعض الظواهر التي تغلفها العفوية، كالنكتة واللباس، تحمل بجانب دلالاتها الاجتماعية والثقافية، مضامين سياسية قد تعبر عن نوع من المعارضة، ولا سيما في ظل أنظمة تؤمم بشكل أو بآخر قنوات التعبير السياسية والإعلامية، وفي هذا الإطار فإن هذا الاحتفال يصلح مقياساً صامتاً لمدى تقبل بعض الفئات أو رفضها للمؤسسة العسكرية التركية التي أمسكت بناصية السلطة ردحاً طويلاً من الزمن.

فالتجربة المرّة للأكراد مع الجمهورية “التركية”، التي اتخذت مساراً دامياً منذ الثمانينات، تقف حائلاً بينهم وبين احتفال كهذا، وكذلك يفعل الطيف الأوسع من متديني تركيا وعامة إسلامييها الذين يرون أن الجمهورية بما فرضته من علمانية وتغريب تقف على النقيض من أفكارهم وتطلعاتهم.

وفي الجانب الآخر يقف قوميو تركيا وعلمانيوها الذين يسبغون على الجيش هالة رمزية ناتجة عن تأسيسه الجمهورية التركية بتوجهاتها القومية الظاهرة، ولكونه حامي علمانية هذه الجمهورية.

ومن الملاحظ أن هذه العادة تزداد انتشاراً كلما اقتربنا من الفئات الأقل تعلماً ودخلاً، أو ما توصف بالفئات الشعبية، التي يكون للإعلام الموجّه قسط أكبر في التأثير عليها، وهو مما استفاد منه الجيش صاحب السلطة لعقود طويلة في تحريك عواطفها الوطنية، إذ هو بالنسبة إليها أيضاً خير أجناد الأرض!

ولئن كانت سلطة الجيش قد وهنت كثيراً في البلاد في السنوات الأخيرة، فإن هذه العادة التي استمرت لعقود طوال تحولت إلى جزء من الأعراف والخصوصيات التركية.

المصدر : موقع الخليج أون لاين

http://alkhaleejonline.net/#!/articles/1426851981890119900/

Exit mobile version