موقع أرنتروبوس

في الحاجة إلى أنثروبولوجيا التنمية

لتحميل المقال أنقر هنا

مبروك بوطقوقة*

أنثروبولوجيا التنمية Anthropology of development مصطلح يطلق تقليديا على الفرع التخصصي من الأنثروبولوجيا الذي يدرس التنمية وخطاباتها وممارساتها من خلال نظرة نقدية فاحصة، في محاولة لفهم الأسباب العميقة لفشل البرامج التنموية في تحقيق أهدافها المرسومة في كثير من دول العالم.

احتلت التنمية في منتصف القرن العشرين مكانة مهمة في الأنثروبولوجيا، باعتبارها موضوعا محوريا في رفاهية الشعوب خاصة تلك كانت قد نالت استقلالها حديثا بعد أن عانت ويلات الاستعمار بمختلف أشكاله العسكرية والاقتصادية والثقافية، وبدأت في السعي نحو بناء دول حديثة من خلال تبني حزمة من البرامج التنموية بمساهمة من المؤسسات الدولية المانحة مثل صندوق النقد الدولي ووكالات الأمم المتحدة للتنمية العديدة.

يمكن اعتبار التنمية في أبسط تعريفاتها نوعا من أنواع التغير الاجتماعي، ويمكن تعريفها بأنها مجموع الصيرورات الاجتماعية الناجمة عن عمليات اختيارية من أجل تحويل البيئة الاجتماعية، مدفوعة من قبل مؤسسات خارجية عن تلك البيئة، وإن كانت تسعى إلى تحريكها من خلال تبني طريقة تطعيمها بالموارد والمعارف والتقنيات.

تعززت أنثروبولوجيا التنمية خلال بداية التسعينات من القرن الماضي بعد الفشل الكبير الذي منيت به المشروعات التنموية التي سطرتها الدول وفق المنظور الاقتصادي التقنوقراطي البحت، وتعرضها للنقد الشديد، باعتبارها كانت مشاريع بيروقراطية وسلطوية وأفقية أكثر من اللازم.

وقد بينت التحليلات التي قدمتها أنثروبولوجيا التنمية أنه من الصعب جدا تنفيذ تنمية تشاركية في وجود اللامساواة وانعدام توازن القوى بين مختلف أطراف العملية التنموية، كما بينت أن من أسباب فشل البرامج التنموية اعتقاد الكثير من المؤسسات الفاعلة في عملية التنمية أن المجتمعات المحلية ميادين عذراء يمكن تجربة أي مشاريع فيها، رغم أن المجتمعات المحلية لها تاريخ حافل في العلاقة مع الأطراف الخارجية بدءا من الاستعمار إلى آخر التجارب التنموية الفاشلة من طرف الدولة الوطنية.

وهناك أيضا الاعتقاد الخاطئ بأن المجتمعات المحلية مجتمعات متجانسة ومتماثلة ومتوافقة رغم ما يخترق هذه المجتمعات من تفاوت طبقي وانقسامات وصراعات ولا مساواة دون نسيان اختلاف المصالح، بل تضاربها.

لقد اتضح منذ بداية إطلاق أولى البرامج التنموية أن الأمور ليست بالسهولة التي كانت تبدو عليها، فالمانحون المختلفون -بدءا من الدول ، وصولا إلى المنظمات العالمية- يأتون ببرامج تنموية جاهزة مبنية على أفكار مسبقة وصور نمطية عن المجتمعات المحلية، بالإضافة إلى رؤى معيارية حول ما يجب تغييره وكيف ولماذا. ويؤدي ذلك إلى صدام برامج تلك المؤسسات مع مجموعات مصالح ذات رؤى مغايرة، بل معارضة، فبعض المجموعات قد ترى أن تلك البرامج تحمل تهديدا لمصالحها، في حين تسعى مجموعات أخرى إلى الاستفادة من تلك البرامج لصالحها، وبالتالي فإن تطبيق تلك البرامج سيؤدي حتما إلى زعزعة التوازن الاجتماعي وخلخلة موازين القوى وعلاقاتها المتشابكة، وهو ما أدى في الأخير إلى فشلها الكبير عند تطبيقها في أرض الواقع.

تقدم أنثروبولوجيا التنمية بعض المفاهيم الأساسية لتحليل الفجوة بين “البرنامج التنموي” كما هو على الورق، و “البرنامج التنموي” كما هو على الأرض، أي بين النتائج المتوقعة والنتائج التي يتم الوصول إليها.

أول هذه المفاهيم هو مفهوم “المجموعة الإستراتيجية” وهو يسمح بتفكيك فكرة الجماعات لتحديد مجموعات الجهات الفاعلة التي لها نفس المواقف تقريبا من العملية التنموية المزمع تنفيذها، كما أنه من الضروري فهم ماهية مجموعات المصالح وخصائصها، وما هي معايير تنظيمها، خاصة معايير التقسيم الطبقي الاجتماعي (الجنس، العمر، المستوى الاجتماعي، الحالة الاقتصادية الخ…)

ثاني هذه المفاهيم هو مفهوم “الوساطة” باعتبار أن الفاعلين الخارجيين والفاعليين المحليين في العملية التنموية لا ينتمون لنفس العالم الثقافي ونظرتهم للعالم مختلفة كليا، لذا من المهم أن يكون هناك “وسطاء محليون” يترجمون ليس فقط اللغة والخطاب، بل يترجمون كذلك عوالم المعنى وشبكات الرموز بين الفضاء المحلي من جهة، والعالم الخارجي ممثلا في الإدارات والمؤسسات ومشاريع الدعم من جهة أخرى.

قدم أرتيرو اسكوبار Arturo Escobar   في كتابه الشهير “مواجهة التنمية” نقدا قويا لفكرة التنمية في حد ذاتها باعتبارها منتجا معرفيا أنتجه الشمال المتفوق من أجل إيجاد مبرر أخلاقي مقبول للتدخل في دول الجنوب وفرض إملاءاته عليها بما يحفظ مصالحه، وذهب إلى أنه لمواجهة ذلك على أنثروبولوجيا التنمية أن تهتم بشكل خاص بالنقد الجذري لتوزع السلطة بين مختلف أطراف العملية التنموية، وأن تدرس في الوقت ذاته الفاعلين التنمويين -من دول ومؤسسات مانحة- الذي يؤطرون العملية التنموية، بالإضافة إلى السكان المستهدفين فيها، من خلال تحليل الخصائص والعلاقات من خلال المحاور الثلاثة للتنمية:

1-أشكال المعارف والخطابات التي يتم إنشاؤها وإنتاجها أثناء عملية التنمية، والتي تم تكريسها من خلال المواضيع والمفاهيم والنظريات، فقد تم تطوير معجم دلالي خاص بالتنمية يشمل كلمات من قبيل الفقر، الجوع، النوع الاجتماعي، وهي مصطلحات تستخدم لاستحضار صور عجز الجنوب الضعيف الذي لا بد له من حلول تأتي من المؤسسات الإنمائية في الشمال، وهي حلول اقتصادية تقنية أثبتت فشلها المزمن.

2-أنظمة السلطة التي تنظم تطبيق تلك المعارف والخطابات، وكيف تم استخدام خطابات التنمية من طرف دول الشمال الغنية للتدخل في سياسات دول الجنوب الفقيرة ولإحكام السيطرة عليها، من خلال المؤسسات الإنمائية المختلفة وبرامجها العديدة التي لم تكن تراعي خصوصية المجتمعات الجنوبية وإنما كان هدفها الحد من التهديدات التي قد تؤدي إلى مزيد من الاضطرابات وتتسبب في تدفق المزيد من المهاجرين من الجنوب.

3-أشكال الذاتية التي تم تبنيها من خلال هذه المعارف والخطابات والتي يحدد من خلالها الناس إن كانوا ينتمون إلى مجتمعات نامية أو غير نامية، من خلال جعل أسلوب الحياة الرأسمالي هو المعيار المثالي الذي على الجميع السعي للوصول إليه، دون الإشارة إلى الأسباب الحقيقية حول التوزيع غير العادل للثروة حول العالم والأسباب الجذرية لذلك، وعلى رأسها علاقات القوة غير المتكافئة بين الشمال والجنوب.

والخلاصة أن علماء أنثروبولوجيا التنمية يشكلون نوعا من العين الناقدة والحريصة على تقويم الاختلالات التي تعيق العملية التنموية عن بلوغ مراميها، بما تقدمه من معارف ومفاهيم ونظريات تسمح بفهم الرهانات المصاحبة لفكرة التنمية وتطبيقاتها في المجتمعات المحلية، وكيفيات التعامل معها من أجل تحقيق تنمية تشاركية تراعي ثقافة تلك المجتمعات المحلية، وهو ما أدى إلى ظهور تيار “ما بعد التنمية” الذي يسعى للتفكير في بدائل لطريقة الحياة الرأسمالية الصناعية التي طالما تم اعتبارها نموذجًا مثاليًا عالميا صالحا لكل المجتمعات، وهو ما أثبتت الأيام خطأه.

واليوم نرى أنه من المهم أن تقوم الدول العربية باستثمار أنثروبولوجيا التنمية استثمارا حكيما في نقد وتحديد الأسباب العميقة لفشل الكثير من المخططات التنموية التي صرفت عليها مئات الملايير دون أن تحقق شيئا ملموسا على أرض الواقع، وتتجه إلى التخطيط المبني على الثقافة المحلية والمراعي للخصوصيات الاجتماعية والإمكانات الاقتصادية وتبني نماذج تنموي من عمق الثقافة الشعبية والمحلية، وبذلك فقط يمكنها أن تحقق تنمية واقعية ومستدامة تلبي تطلعات شعوبها لحياة أفضل.

 

 

 

Exit mobile version