موقع أرنتروبوس

في أنثروبولوجيا الحكي والكتابة

mehbachi

في  أنثروبولوجيا الحكي والكتابة

 د. قاسم المحبشي – اليمن

 

لامتلاك الثقافة الكتابية لا يكفي أن نحول المحكي إلى مكتوب بل لابد من تغيير البنية الشفاهية برمتها، فسمات النظام الشفاهي هي التي ما تزال تتحكم فينا عندما نكتب النصوص المثقلة بالحس الصوتي.

من الظواهر الملفتة للنظر في واقعنا الثقافي العربي الراهن المسمى مجازاً ربيعا ثوريا ديمقراطياً  تلك الطفرة الثقافية الهائلة على صعيد النص المكتوب، فمنذ فسح المجال للشبكة المعلوماتية ووسائط الاتصال الاجتماعية والكتابة الالكترونية في الانترنت بالاتساق مع  انفتاح هامش لحرية الصحافة والمطبوعات انتابت الناس رغبة عارمة لإصدار الصحف والمجلات  والكتابة والنشر والظهور في الميدان العام  وفي غضون السنوات القليلة المنصرمة برزت _أسماء وصور عدد كبير من الأشخاص من الجنسين في المواقع والصفحات الضوئية والورقية  كالصحف والدوريات الدولية والإقليمية  والمحلية على نحو مثير _  ممن يمارسون فنون القول الكتابي في شتى مناحي موضوعات ومشكلات  الحياة الثقافية والمدنية والحضارية بتشعيباتها الكثيرة  بحيث بات لنا اليوم من  الكتاب والصحافيين شريحة واسعة تماثل أن لم تفوق ما هو موجود في بعض المجتمعات والدول  المتقدمة التي سبقتنا بقرون  في خبرة الثقافة الكتابية وسيادة النص على الكلام ، غير أن الأمر الذي يحتاج إلى تمحيص هو ذلك المتعلق بمحتوى هذا النمط الثقافي الجديد، لا بحجمه وشكله المثير للفرح الخادع والإشباع الكاذب !!!

فهل هذا يعني أننا استطعنا اقتحام عتبات الثقافة الكتابية وتحررنا من أسر الاسلوب  الشفاهي للحكي والتعبير؟

يكتسب السؤال هنا حافز النقد والرؤية ويهدف إلى الفهم والمعرفة في سياق التمييز بين نظامين للثقافة التواصلية أللغوية النظام الشفاهي  والنظام الكتابي كما سوف نوضح للتو:

الحكي المنطوق الذي يعتمد على الصوت ومحفزاته وآثاره، وهذا النظام هو نمط الإنسان البدائي ألأول الإنسان المتوحش منذ امتلاك اللغة والكلام ومن ثم فهو ثقافة القبيلة والعشيرة التي تقوم على العادة والتقليد والعرف والسحر والأسطورة والمقدس والمحاكاة الحيوية ألمباشرة قبل اكتشاف ومعرفة  تقنية كتابة النصوص والنقش والتدوين.

اما الحرف المكتوب باعتباره نمطاً من التعبير يختلف جوهرياً عن الحكي الشفاهي ولكنه يستند إليه ويعد تطوير له، هذا النمط من الثقافة الكتابية_ التي تتحول الاصوات فيها الى حروف_   يعتمد على الصمت والبصر لأنها تحول الصوت إلى حروف، اللفظ إلى كلمة مكتوبة، ألحكي ألكلام ألقول ألخطاب  إلى نص ومن ثم فهي تقطع تلك الصلة المباشرة بين الإنسان والكلام وتحطم الذاكرة بتجريدها من وظيفتها الأثيرة الحفظ والخزن والتذكر, فضلا عن كونها_ اعني الكتابة_ تسلب الكلمات الملفوظة سحرها وقوتها .  ولولا الكتابة لما استطاع الوعي الإنساني أن ينجز كل تلك المنجزات الثقافية العلمية والأدبية والفنية الرائعة .

والحال كذلك فمن المهم أن نفهم كيف حدثت تلك النقلة الهائلة من المحكي الى المكتوب من الاصوات الى الحروف من الخطاب الى النص من الشفاهية الى الكتابية , وهل يعني الانتقال من الشفاهية إلى الكتابية مجرد تحويل الكلمة المنطوقة إلى إشارة ورموز أو خربشة على الورق كما قد نعتقد اونتوهم خطاء ! لا  ليس الأمر على هذا النحو من البساطة بل أن الفكر والتعبير الشفهيين القائمين على الصيغ يتغلغل عميقاً في الوعي واللاوعي معاً وهما لا يتلاشيان بمجرد أن يتناول المرء الذي اعتادهما قلمه ليكتب على الورق او يدون على صفحات النت بل هي عملية تنطوي على عملية ثقافية  بالغة التعقيد والتركيب قد تدوم قرون طويلة.

اذ لكي تؤثر الكتابة في ثقافته  مجتمعا ما ينبغي  أن يستوعبها الأشخاص الذين يمارسون الكتابة  داخلياً اذ لا يكفي ان يجيدون المسك بالأقلام ليرسموا الحروف في الصفحات فقط بل من الضروري ان يفكروا ويتكلمون بالطريقة الكتابية ذاتها، بمعنى أن ينظمون بدرجات متفاوتة تعبيراتهم الشفهية وتصوراتهم الفكرية وخواطرهم الشعورية   في أنماط فكرية ولغوية لم تكن لتـتأتى لهم لو لم يكونوا ممارسين للكتابة.

على هذا النحو يمكن النظر إلى وضعنا الثقافي العربي  الراهن في مختلف الاقطار العربية وبدرجات متفاوتة  فنحن مهما توهمنا بأننا ندون ونكتب ونمارس ألكتابة لا نزال نتاج هيمنة  بنية ثقافية شفاهية راسخة الجذور، تجري في أعماقنا ودمنا ووعينا.

وبالنظر إلى ما أسفرت عنه تلك الرغبة الجامحة في مراودة الكتابة في مختلف الوسائط المرئية والسمعية والضوئية    يمكن لنا  أن نلاحظ ان  الصورة  العامة لكل النتاج الثقافي العربي الإقليمي والمحلي ،  الصحافي والأدبي والفكري المكتوب، هي الشفاهية المتحولة، فعداء بعض النصوص التي كتبها أشخاص متمرسون وعلى مستوى عالٍ من الثقافة الرفيعة والوعي الحاد لكينونة اللغة،  الذين قد نتفق او نختلف معهم في الرأي غير أن هذا لا يحيل دون الاعتراف ببراعة أقلامهم وقوة أسلوبهم وقدرتهم الفائقة في امتلاك ناصية اللغة وسر الكلمة المكتوبة، ومن ثم فهو من بين أفراد قلائل في مجتمعنا العربي يمارسون الكتابة عن وعي عميق بدينامياتها وتيماماتها المتخفية ويكتبون في فضائها الثقافي المختلف عن فضاء الثقافة الشفاهية النمطية. ولعل ما يميز الكتابة الواعية عن الكتابة الشفهية هو قدرة الأولى على النفاذ النقدي والرؤيوي والتحليلي العميق لنواصي المشكلات وسبر أغوارها ببصيرة علمية وثقافة ورصانة أسلوبية مدهشة وقدرة فكرية ثاقبة. في حين نجد أن الكتابة الشفاهية كنمط طاغٍ على كل أنماط الفنون المكتوبة والأدب المكتوب من مقالات ودراسات وشعر وقصة ونثر في السياسة والإعلام والثقافة، ما يزال شديد الارتباط بأنماط الفكر والتعبير الشفهيين التي تقوم على الحس الصوتي المباشر، وتعتمد على الصيغ والتجانس والسجع والوصف والتعبيرات الجاهزة، والغنائية، والشاعرية أو الاحتفالية والإطناب، والأسلوب التجميعي للجمل والعبارات التي تأتي على هيئة عناقيد من الكلمات الكبيرة غير المحددة، وتتميز بحضور لهجة المخاصمة وإثارة الفعل، ورد الفعل، بالإضافة إلى ما تتصف به من سمات أخرى كالنزعة القطعية والتوكيد والتسرع في إطلاق الأحكام والمدح أو الهجاء والسخط أو الرضاء، فهنا يمكن للقارئ أن يميز بين مشاعر الكتاب، لا بين أفكارهم ومن ثم فالنظر يتجه لا إلى النص ذاته وما يحتويه من معرفة أو أفكار أو رؤيا، بل إلى كاتب النص وشخصيته، تماماً مثل ما هو المرء في الثقافة الشفاهية، حينما يكون الانتباه مشدوداً إلى وجه المتحدث وصوته، هكذا تصبح الكتابة الشفاهية بمثابة حكي على الورق أو ثرثرة ميتة في ظل غياب المتحدث المباشر، إنها أشبه بأقنعة المسرح التي تمثل الحياة وتكررها ولا تضيف شيئاً جديداً إليها.

وعليه ليس من الصعب أن نلاحظ ذلك التشابه بين الصحف والمجلات التي تعد بالمئات في الربيع  الجديد وتحمل أسماء مختلفة وتعبر عن وجهات نظر قوى وأحزاب سياسية واجتماعية متنوعة، ومع ذلك لا فروق كبيرة بينها سواءً كانت صحفاً رسمية أو حزبية أو سلطة أو معارضة، كما أن التشابه يسحب نفسه على الكتّاب أنفسهم، فمن النادر أن نجد كاتباً اوصحفياً لا يشبه الآخرين بأسلوبه ولغته وأفكاره، بل هناك تماثل لا تخطئه العين بين معظم الأقلام الاعلامية  الكتابات السياسية وإن كان هناك ثمة اختلاف بين كاتب وآخر من كتاب المقال السياسي، فلا يعدو أن يكون اختلاف في درجة الشجاعة والجرأة، أي فيما يعود إلى الأشخاص ذاتهم، لا إلى ما تحمله النصوص أو كتاباتهم من معارف جديدة واكتشافات فريدة وأفكار مبدعة، هكذا يمكن القول أن حرية الصحافة وزيادة الكتاب، وكثرة الكتابات حول قضايا الثورات والطغيان والاحتلال  والحرب والحوار والحرية والعدالة  والفكر والأدب والعلم والفساد والعنف والإرهاب والصراعات الطائفية…الخ   كل تلك الكتابات والنصوص والمدونات  لا يمكن لها أن تكون دليلاً كافياً على تقدمنا وتطورنا ثقافياً إلا بقدر ما يكون هذا التقدم مفهوماً صورياً ديكوريا خالصا !

إن شفاهية الكتابة لا تتحكم فقط بالكاتب نفسه بل وتمتد إلى الملتقى، أو جمهور القراء الرسمي والشعبي، والذي ما يزال أسير أنماط التفكير العشائري السحري ألبدائي اذ أنه وبسبب عدم اكتساب تجربة وعادة  أو خبرة الثقافة الكتابية كنمط فعال للتواصل بين ألناس  نلاحظ تدني  قيمة الكتابة  والمكتوب في المجال العام  مهما كان عليه من عمقم وقوة ووضوح ومهما كانت خطورة الموضوعات والمشكلات التي يتناولها,اذ نادر ما كانت ردود الفعل ايجابية وفعالة ومثمره بعكس ما هو عليه الأمر في المجتمعات والدولة ذات الثقافة الكتابية التي يمكن لمقال صحفي واحد أن يغير حكومات بأكملهما ويعدل سياسات واستراتيجيات دول وهيئات وشركات ويحرك ويبدل مصائر اشخاص وجماعات وشعوب,وهذا هو  معنى القول ان اللغة هي كينونة الكائن انها ليست مجر أداة للتواصل, بل هي نمط للتفكير واسلوب عيش وطريقة تعبير, انها الثقافة التي تجسر العلاقة بين القول والعمل بين الكلمات والأشياء بين الوعي والسلوك .

 

 

 

Exit mobile version