فى مولد قطب الأقطاب وشمس الشموس
فلسفة الإحتفال بالموالد بين طرابيش التائبين ..وعمائم الشيوخ الضخمة
د.رضا محمد عبد الرحيم
المولد هو عيد شعبى دينى يقام تكريما لأحد الأولياء فى مصر ،وهو عادة إسلامية تماثل الأعياد والمواسم التى تقام فى أوروبا لتكريم بعض القديسين المسيحيين،ورغم أن من الصعوبة القول بأن الموالد قد أصبحت عادة قومية فى مصر فى مقدم القرن الثالث عشر الميلادى،أو حتى اعتبارها شيئا من ذلك كلية –أو حتى قد أعترف بها رسميا حتى القرن الخامس عشر الميلادى- فإن هذه الموالد فى أحوال كثيرة إستمرار لأعياد قامت لسنوات بلغت المئات بل وحتى الآلاف قبل النبى ،تماما مثل إحتفالات مسيحية كثيرة يمكن تتبع أصولها إلى قرون قبل المسيح.[1]
ويشكل العيد إنقطاعا فى سير الحياة تحشد فيه الطاقات بعد تشتت،كما ينوب صخب المشاركة الجماعية عن سكينة العمل الإفرادى.إنه زمن الإنعتاق من إلزام العمل المنتظم وإكراهات الوضع البشرى،كما إنه زمن الإباحة والإفراط والتبذير، الذى يجرى فيه تعليق النظام الكونى تعليقا يرمز إلى عصر الخواء السابق لفترة الخلق الأولى، فيسمح بالتجاوزات والإنتهاكات من كل نوع ،تماهيا بكائنات العهد الذهبى الذين كانوا يجهلون التحريم .
وما طقوس الموالد –التى يرفضها البعض الآن- إلا دليل على إرادة التجديد هذه ،والتى تجد فى الإفراط علاجا للتلف وفى التبذير تكثيرا للثروات وتحريضا للغلال ،وفى الهياج تعبيرا عن عافية واعدة بالبحبوجة والإزدهار.
يقول الجبرتى إن ما شاهده يوم الاحتفال بذكرى السيد أحمد البدوى بطنطا يخرج عن التزام الشرع،من عزف ورقص وغناء،لكنه يعلق فى الخاتمة قائلا: طالما إن العلماء يُجيزون ذلك فلا ضرر،رغم إبداء تحفظه.[2]
ويقوم العيد هنا بصفتهُ الظاهرة الكلية التى يتجلى من خلالها مجد الجماعة واغتباطها بما لديها وانتعاش كيانها،وإذا كان مقدس الإحترام هو الذى يتحكم بسير الحياة الإجتماعية المعتاد،فإن ما يسود فى ذروتها هو مقدس الإنتهاك.
على أنه لابد لقوى الإفراط الضرورية هذه، بعد أن تفرغ من تجديد العالم،من أن تُخلى المكان لروح الإنضباط ،الذى يلجم الإفراط ويرسى النظام ويحمى نظام العالم، بإنشائه المحظور من جديد.[3]
وأول الموالد وأعظمها-بإستثناء مولد النبى- هو مولد سيدى احمد البدوى(1199-1276م) فى مدينة طنطا، ويعتبرمولد سيدى السيد البدوى عند الكثير من المشتغلين بعلم المصريات إحياء لمولد المعبود القديم “شو” إله مدينة سيبنيتوس Sebennytus،التى تقع على الفرع السبنيتى هو أحد فروع دلتا النيل (فرع البرلس) – ذكره العالم سترابون ،وكذلك هيرودوت – والذى جرى قرب مدينة طنطا ،ومدينة شو المعروفة الآن باسم (سمنود) ،وهذا الفرع تلاشى مع الفرع الثالث للنيل،وربما ظلت بعض الذكريات القديمة حية بسبب مياه الترعة التى أخذت قاع هذا النهر القديم.كما ذكر عنها علماء الحملة الفرنسية
لكن لماذا الربط بين الشيخ (البشرى) الحديث وهذا المعبود (الإلهى) العتيق وهل يكفى العامل الجغرافى من قرب المكان للجمع بينهما أم أن هناك ما هو أكثر من ذلك؟
إن تحديد ما كان المصريون الأوائل يدركونه لمفهوم الإله ليس بالأمر الهين،وبرغم كل شىء ،فإنه من الملائم إطلاق العنان للتفكير بأن الإله كان فى الأصل عديم الشكل غير متبلور إلى حد ما ،ثم أصبح واضحا تدريجيا من خلال علاقته بالعالم،أى بالظواهر الطبيعية- تتجسد عناصر الكون والبيئة فى أشكال ملموسة فإنها غالبا ما تأخذ هيئة آدمية- وتحركت فكرة الإله من المستوى المجرد أو ربما المستوى فائق السمو إلى المرحلة المجسمة الملموسة بحيث تمكن البشر من سهولة التعرف عليه،وسواء تم تخيل الإله فى صورة إنسانية أكثر من تخيله فى صورة طبيعية أو حيوانية فيما بعد،فإنه مازال هناك جدل حول بدايته.وهناك شواهد تصويرية وكتابية تؤكد فكرة دمج العناصر الحيوانية والإنسانية معا.فالعديد من الآلهة فى المجتمع المصرى المقدس لها أشكال حيوانية ولكنها تقوم أيضا مع ذلك بتصرفات بشرية.
وتصف النصوص الدينية والأدبية الآلهة بأن لها الخصال والصفات الإنسانية الأساسية والرئيسية : فهم يفكرون،ويتكلمون،ويأكلون،ويملكون الأحاسيس والمشاعر.بالإضافة إلى كل ذلك ،فإنهم يذهبون إلى المعارك ويسافرون فى المراكب.[4]
والمعبود شو إله الفضاء(الهواء) الذى يفتق الأرض عن السماء ،والإله الذى يملأ ما بين السماء والأرض من فراغ .وخلال فتقه السماء عن الأرض ،يقوم بدور مهم فى خلق العالم ،وهو يمثل فى هيئة آدمية وأحيانا ،بريشة فى شعره،كما يُمثل برأسد أسد.[5]
وربما هذا الوصف الجسدى لهذا المعبود يتطابق مع ما عرف عن سيدى أحمد البدوى من ضخامة جسم وشخصيته الجبارة ،التى تذكر بسلالة “هرقل المصرى”بطل الديانة القديمة.
وقد وصفه القطب الصوفى عبد الوهاب الشعرانى فقال: أنه كان غليظ الساقين،طويل الذراعين ،كبير الوجه،أكحل العينين،قمحى اللون.
وكان من حق الإله أن يكون حاضرا فى المكان الذى يريده. فبالرغم من ان “شو” إله الهواء يقوم برفع السماء ، فـإنه يستطيع ان ينطلق من اجل البحث عن العين التى نفيت(عين حتحور)، إن طبيعته نفسها تسمح له بأن يتواجد فى كل مكان وان يعرف المكان الذى لجأت إليه الآلهة.إن الجسد الإلهى قابل لأن يشع اجساما ثانوية ،متطابقة أو مختلفة عن الجسم الأساسى فهى تتبعه وتكون له بمثابة مساعد.وسواء شوه، او قطع ،فإن الجسد الإلهى يعلن عن كلية وجوده وفقا لهواه وفى نفس الوقت يخفى سر طبيعته الحقيقية.[6]
وهو نفس الإعتقاد فى كرامات السيد أحمد البدوى الذى يُشاهد فى أجزاء متفرقة من العالم لما لديه من القدرة على الطيران . ويظهر الشيخ عامة فى زمن الحروب حين يحمى وطيسها وهو على حصانه البديع يحارب فى صف المخلصين.لقد روى العديد من الجنود الذين شاركوا فى الحرب التركية- الروسية أنهم شاهدوا البدوى يجتث شأفة الكفار .[7]
يقول بعض الصوفية، أن مسألة الأسرى تلك ترجع إلى واقعة تاريخية مشهورة، ذلك أن وزارة الأوقاف المصرية قد أرسلت بالسيوف والدروع التي غنمها الجيش المصري من جيش لويس التاسع، الذي أُسر في دار ابن لقمان بالمنصورة، لتخزن في مخزن المسجد الأحمدي، فكان الدراويش وأتباع الطريقة البدوية يتقلدون هذه الدروع والسيوف في مواكب الأحمدية، ويزعمون للناس أنهم الأسرى الذي جاء بهم البدوي من أوروبا، فلما تقدمت الأيام، قالوا أنهم سلائل أولئك الأسرى، وكان من الغريب أن تترك الحكومة المصرية هذه الدروع والسيوف التاريخية نهباً للضياع في يد العامة!
من الجلى ان البدوى يضطلع بنفس الدور من الموروثات الذى يلعبه مارجرجس الشهيد لدى الاقباط ولا شك أن مناظر القديسين الفرسان فى الكنيسة القبطية ،تعد من المناظر الدينية الهامة التى يُحرص عادة على وجودها على جدران الكنيسة،ويبدو فيها القديس الفارس وهو على جواده،يحمل حربة بيده،ويطعن بها أحد الأعداء ،تحت سنابك الخيل،ويمتد له يد بطوق صغير،يرمز إلى استشهاده .
وقد ذهب بعض العلماء إلى القول بأن وجود مثل هذه المناظر فى الكنيسة إنما يرجع إلى أصول فرعونية قديمة – حيث تظهر مشاهدة العبادة ،بجانب مشاهد المعركة والصيد فى معابد الدولة القديمة- مثلت إنتصار الخير على الشر ومستمدة أصولها من أسطورة حورس يقهر الشر فى هيئة ست،وأن ذلك يمثل إستمرارية للتأثير الفرعونى القديم،على أعتبار أن القديسين والرهبان القائمين على الأديرة من الرعيل الأول.[8]
وإذا كنا قد بحثنا عن القاسم المشترك بين معبود عتيق وقطب جليل ولخصناها فى الملامح الجسدية والدور سواء جاء هذا الدور فى شكل اسطورى ،فالأحرى أن نبحث عن القاسم المشترك بين القديس الشهيد والقطب الصوفى- مارجرجس الشهيد والسيد البدوى- وفى البداية جاء الأسم المشترك ! نعم الأسم المشترك فكلمة مار: كلمة سريانية معناها سيد – ربما جاء هنا لقبا وليس إسما كما جاء لقب السيد فى اسم أحمد البدوى – وجرجس: هو الاسم الذي اعترف به في فلسطين، وكان لهما نفس الملامح الجسدية فقد كان القديس جرجس حسن الطلعة ممشوق القوام .. مما أهله أن يلتحق بالجيش وكان عمره سبعة عشر عام.[9]
كما كان لهما حياة زاهدة فى كل شىء حتى الزواج عزفا عنه. ونجد أنهما أقوى من كل إغراء ففى الوقت الذى دبر الإمبراطور بعد سجن مارجرجس أن يحطمه بالإغراء بفتاة لعوب تقتنصه بفتنتها وأنوثتها الطاغية،وخبراتها ،وبهذ يفقد مارجرجس عفته،وينهار إيمانه ، لم يأتِ الصباح
حتى تقدمت الفتاة إلى مارجرجس بدموع تطلب منه أن يتحدث معها عن سرّ طهارته وعفته وارتفاع قلبه إلى السمويات، فأخذ يبشرها بالخلاص ويقدم لها الحياة الإنجيلية الفائقة ..نفس الموقف يتكرر فى حياة سيدى أحمد البدوى، عندما كان بقرب الموصل حدث راع بينه وبين امرأة اسمها فاطمة بنت برى .وبحسب روايات الصوفية ،فإن المرأة كانت غنية وجميلة، لكنها مغرمة بإيقاع الرجال فى شباك حبها.فحاولت أن تفعل ذلك بالبدوى لكنها لم تستطع،ثم حاولت أن تجره إلى الزواج بها ،لكن فى نهاية الأمر يروى بعض المتصوفة أنها تابت على يديه،وعاهدته أن لا تتعرض لأحد بعد ذلك.
أضف إلى ما سبق مكانتهما فى العالمين المسيحى والإسلامى ،ومعجزاتهما التى يتحدث عنها المحدثون فى كل مكان قديما وحديثا وخاصة فى مساعدة النساء العاقرات اللاتى يردن الإنجاب .
وقد وصف إدوارد تودا قنصل اسبانيا فى مصر(1886- 1888) مظاهر مولد سيدى أحمد البدوى بدقة بالغة يحسد عليها حيث ذكر أن الخيام فى الشوارع كانت تنصب بطريقة متناسقة تتكىء بعضها على بعض تاركين مساحة مربعة فى الوسط تكون كالميدان فى وط كل أربع مجموعات ،وكان الزائرون يجتمعون فى تلك الساحات بعد العصر لينغمسوا فى حلقات الذكر وهى ممارسات دينية عبارة عن رقص وإنشاد على نغمات الدفوف..كما يصف يوم الثالث عشر وهو آخر أيام الإحتفال الكبير الذى يختتم شعائر المولد بموكب خليفة الإسلام ،وهو السلطة الدينية الأعلى للمسلمين فى مصر،منطلقا من مسجد العش وحتى مسجد البدوى حتى يصلى على قبره،ويستغرق موكبه ثلاث ساعات.
وجميعهم يلبسون زيآ تنكريآ،فالبعض يلبس طرابيش التائبين الطويلة المدببة (القرطاس المعروف بالطرطور)،والبعض الآخر يرتدى أزياء شاذة بألوان عدة،وأحيانا اخرى نجد من يرتدى أزياء شفافة إلى حد يخدش الحياء.غير أن الأقنعة الطبيعية لم تغب عن الحفل،فقد رأيت أحدهم يرتدى قناعا عبارة عن بطيخة مفرغه ويغطى جسمه بأوراق الأشجار والفروع الخضراء .
وكانت بعض الشخصيات المهمة تير بين المتنكرين يمتطون الخيل أو يركبون الجمال ويتبعهم عازفون من أهل البلدة وراقصات وفلاحات يرتدين أحجبة سوداء ،ورجال كثيرون يحملون على اكتافهم فئوس الخشب الكبيرة.
وكانت جماعة من الراقصين الذين يسيرون خلفهم تجذب الإنتباه لغرابة ملابسهم،فعلى خصورهم شدت أحزمة ضيقة وباقى اجسامهم عارية ويزين رؤسهم عمائم ضخمة تتدلى منها اشياء عديدة كالقرون وثمار اليقطين والباذنجان. ويحمل الشيوخ راكبوا الخيل بيارق مساجدهم وينزلون من حين لآخر عن ركائبهم كى يقبلوا المؤمنين الذين يحضرون العرض بأحترام،وبعد ذلك يأتى أصحاب الطرق والجامعات الدينية وهو يرتلون شهادة الإسلام: لا إله إلا الله محمد رسول الله،إلى يوم أن نلقاه.
وأخيرا يظهر الخليفة فوق حصانهُ ممسكا بكلتا يديه خوذتهُ المصنوعة من اللبد الرمادى التى يحاول العديد من الحضور عبثآ أن يخطفوها منه.ويبدو أنه لو تم تجريده من تلك العمامة فإنه يجب أن يترك منصبه إلى من انتزعها منه،ويتكون حرس الشرف الذى يصاحبهُ من خمسة عشر رجلا تغطيهم الدروع الثقيلة والخوذ الحديدية .
ويختتم موكب الحفل كتيبة من الفارسات الجسورات يركبن الخيل ويرتدين زى الرجال،وفى عصر اليوم ذاته تنتهى الإحتفالات ويبدأ جموع الزائرين فى التفرق بعد أن قضى أولئك القوم الطيبون ثمانية أيام يصيحون ويلهثون ويتدافعون عبر الشوارع والميادين،ليعودوا إلى بيوتهم منهكين خاوين الوفاض،لكنهم رغم ذلك عادوا مقتنعين بإنهم بحجهم إلى مقام السيد البدوى فى طنطا قد فعلوا شيئا يرضى به الله عنهم.[10]
ومما نحرص على تأكيده فى المقال أن الصفة الوحيدة التى يمكن إثباتها للمقدس حق الإثبات هى تعارضهُ مع الدنيوى –يتحدد كلاهما بالآخر- وليس المقدس خاصة ثابتة فى الأشياء بل هوهبة سرية تُخلع على ما تستقر عليه سحرا وجلالا يستثيران الشغف والرهبة،فى آن، وليس هناك ما لا يصلح لأن يكتسب صفة المقدس ،كما ليس هناك ما يستحيل تجريده منها.
هوامش
[1] ج.و.مكفرسون ،الموالد فى مصر نترجمة عبدالوهاب بكر،الهيئة المصرية العامة للكتاب نالقاهرة 1999،ص ص 26،27
[2] سيد وهبى ،المووعة الماسية لمحافظات الدلتا ،محافظة الغربية 1996،ص ص 278-290.
[3] روجيه كايوا،الإنسان والمقدس،ترجمة سميرة ريشا،المنظمة العربية للترجمة،بيروت 2010،ص ص 15-22.
[4] جون بينز،الديانة فى مصر القديمة،ترجمة محمود ماهر طه،الهيئة المصرية العامة للكتاب،القاهرة 2011،ص ص 1-35
[5] إيريك هورنونج،فكرة فى صورة،ترجمة حسن حسين شكرى،مراجعة محمود ماهر طه،الهيئة المصرية العامة للكتاب 2002،ص159
[6] ديمترى ميكس،كريستين فافار مكس،الحياة اليومية للآلهة الفرعونية،ترجمة فاطمة عبدالله، الهيئة المصرية العامة للكتاب نالقاهرة 2000،ص 143.
[7] ألفريد جاشوا بتلر، الحياة فى البلاط الملكى المصرى،ترجمة وتحقيق محمد عزب ،مى موافى،ليليت للنشر والتوزيع ،القاهرة 2013،ص 234.
[8]مصطفى عبدالله شيحة،دراسات فى العمارة والفنون القبطية،مطبعة وزارة الآثار المصرية،القاهرة 1988،ص ص 279-284
[9] سومر زكلارك،الآثار القبطية فى وادى النيل،ترجمة ابراهيم سلامة ابراهيم،الهيئة المصرية العامة للكتاب،القاهرة 2010،ص ص 201-204
[10] إدوارد تودا ، عبر وادى النيل،ترجمة السيد محمد واصل،المركز القومى للترجمة ،القاهرة 2010 ،ص ص 122-127