موقع أرنتروبوس

فريد الزاهي: الأنثربولوجيا تعلمنا أن الإنسان جماع ماضيه

فريد الزاهي: الأنثربولوجي يعلمنا أن الإنسان جماع ماضيه

فريد الزاهي

حكيم عنكر

الحوار مع المترجم المغربي فريد الزاهي شيق وسلس، لأنه رجل يعرف ما يريد. يتكلم دون ادعاء وببساطة من يعرف مجال عمله، وكأنه من خصال المترجم والباحث المبدع هو الوضوح الشديد، وضوح هو ثمرة مجهود وتمرس وحنكة في مجال استنطاق النصوص وخباياها ومسكوتها. وكانت نتيجة هذا الجهد المعرفي الكبير تتويج مستحق بجائزة المغرب للكتاب في فرع الترجمة عن ترجمته لكتاب إدمون دوتي «السحر والدين في المجتمعات المغاربية»، حيث يقدم كتابا مهما وتأصيليا ألف في بداية القرن الماضي إلى قراء العربية، كم انتظرنا إذن من الوقت كي نترجم الرجل، يقول الزاهي. هنا حوار حول الكتاب والترجمة والبحث الأنتربولوجي.
– في البداية، أود أن أسألك على أهمية ترجمة كتاب «السحر والدين» لإدمون دوتي إلى العربية؟
< هذه الترجمة جاءت في الحقيقة متأخرة لأكثر من نصف قرن إلى العربية، باعتبار أن هذا الكتاب قد ألف في بدايات القرن العشرين، ونشر سنة 1908، وهو نتيجة عمل استغرق من إدمون دوتي وقتا طويلا في مادته وتحريه ،وبالتالي في تحليل كل هذه المادة التي توصل إليها بطرق مختلفة.
من تم فإن أهمية ترجمة هذا الكتاب تأتي من أنني شخصيا أعترف بأنه كتاب عاش أكثر من قرن من الزمان من غير أن يلحق مادته وتحليله ونظرته أي خلل أو تأخر أو تخلف عن المستجدات المعاصرة، فهو كتاب معاصر بتحليله ونظرته بالرغم من أنه وليد المرحلة الاستعمارية في المغرب. إن نظرة إدمون دوتي تنفع للعلم أكثر مما يمكن أن نسميه بالمسبقات الاستعمارية والكولونيالية. كل هاته العناصر تجعل من ترجمة هذا الكتاب، سواء كنت أنا الذي سأترجمه أو شخص آخر، مسألة ملحة. لقد كان من اللازم أن يسبقني إلي ترجمته شخص آخر في وقت أسبق.
– لكن الكتاب نفسه، ترجمت مقاطع منه خلال فترات سابقة، وعلى مراحل، سواء كنصوص أو كمادة ضمن أبحاث؟
< أغلب الترجمات التي تمت في الماضي، هي ترجمات مقطعية، ولا تغني عن ترجمة الكتاب كاملا، لأنها جاءت في سياق أبحاث أو في سياق آخر، ولم يسبق لي أن قرأت شخصيا، وقد يكون هذا من نقصي المعرفي، لم أقرأ فصلا كاملا مترجما لهذا المؤلف، ما قرأته كان عبارة عن مقاطع ومترجمات هنا وهناك، بل قرأت فصلا لأحدهم ينتحل من هذا الباحث الكبير من غير الإحالة عليه، في الوقت الذي يعتبر فيه الكتاب مصنفا مرجعيا، وربما كان أهم مصنف عن السحر وعن علاقة السحر بالدين من وجهة نظر أنتربولوجية وسوسيولوجية عن شمال إفريقيا.
– هذا الكتاب، هو كتاب صعب القراءة، ونكاد نقول إنه سريع التأثير على قارئه، لأنه يتناول تيمة حساسة، وهي تيمة السحر،ويسوق العديد من النماذج ومن الأمثلة، هل هناك فائدة ما يمكن أن يجدها القارئ في كتاب عن علاقة السحر بالدين؟
< لو كتب هذا الكتاب حاليا، لكان أقل حجما، ولكانت معطياته أقل اختزالا. لماذا؟ لأن دراسة السحر في تلك المرحلة كانت مجالا لا يزال بكرا، وبالتالي كانت الكتابات الوحيدة الموجودة هي الكتابات النظرية، لمرسيل موس وللذين اشتغلوا معه في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين.إذن كان المجال خصبا وفي الآن نفسه يعاني من الخصاص، ومن تم فالمؤلف نفسه يعترف بأنه يقدم المعطيات، لماذا؟ لأنها تدون لأول مرة،وربما الانتقال من الفرنسية إلى العربية أثقل الترجمة بعض الشيء، ولكن الترجمة أمانة في مجمل الكتاب، وإن لم تكن دائما أمانة في المجال العملي، أي في التعاطي مع أفكار وآراء الكاتب.
– هناك أيضا إفراط فيما يمكن أن نسميه بالنزعة الكانيبالية في الكتاب، وكأن دوتي يحاول أن يقدم لنا عادات وتقاليد المجتمعات المغاربية والمجتمع المغربي بشكل غرائبي؟
< لم يكن للتصورات الفكرية والثقافية والإثنوغرافية عموما التي تعاملت مع المغرب العربي ومع إفريقيا في تلك المرحلة أن تنفلت من الحس الغرائبي، لكن دوتي كان حذرا جدا في التعامل مع المعطيات، فمنظوره هو منظور أنثربولوجي إثنولوجي يمتح من مفهوم التوجس ومفهوم الكانيبالية، وكل هذه العناصر كانت تدخل فيما يمكن تسميته بالمجتمعات البدائية، وهنا الفرق بين المجتمعات البدائية وبين المجتمعات العربية الإسلامية التي درسها آخرون، ومن هنا، فإن دوتي قد تخلص كثيرا من عيوب هذه النظرة، مثل عيساوة، وأكلهم للحم النيئ، فإننا نجد هذا المعطى لا ينحصر عنده فقط، بل لدى الكثير من الباحثين المعاصرين له، والذين عايشوا هذا الأمر في مكناس وفي مدن أخرى.. مع ذلك فأنا أتفق معك، في أننا لا يمكن إلا أن ننظر بنظرة نقدية معاصرة للكتاب. وما قمت به هو ترجمته وليس تحليله.، أو قراءته، فقراءته وتحليله ربما ستتم في مقدمة خاصة، لأن الوقت لم يسعفني في كتابة مقدمة نقدية، أيضا ستفيد في توضيح بعض آراء إدمون دوتي نفسه.
– منذ سنة 1909، وهو تاريخ تأليف هذا الكتاب إلى الآن، هل اشتغلنا في المغرب بما يكفي على الظواهر الاجتماعية، هل استطاع البحث الانتربولوجي في المغرب أن يملأ الفراغات، أم أننا ما زلنا محتاجين إلى العودة إلى الكتابات التأصيلية الغربية في هذا المجال؟
< الظاهرة الثقافية مثل السحر، وكل ما يتعلق به، أو ما يمكن أن نسميه بالمتخيل والمقدس، في علم الاجتماع والأنتربولوجيا في المغرب العربي، لم تحظ باهتمام إلا في العقود الأخيرة، أي في بداية الثمانينات، وربما كانت دراسة الجسد ودراسة طقوس الزوايا إلى غير ذلك، هي المدخل الأساسي الذي انساق فيه مجموعة من الباحثين، مثل دراسة الممارسات السحرية. وأعتبر أن الدارس الوحيد الذي درس جيدا هذه الظاهرة هو الباحث المغربي محمد أسليم، والمعروف أنه أصدر كتيبا صغيرا بالعربية عن ظاهرة السحر والإسلام، وكتب دكتوراه كاملة عن الممارسات السحرية.ماعدا ذلك، اعتبر السحر ظاهرة هامشية في المتخيل الشعبي، لأن الممارسات الاجتماعية المتخيلة للإنسان المغربي، كانت تكمن في العودة الاجتماعية للسحر في المجتمع، مما أثار الاهتمام، وبدأ الباحثون ينتبهون إلى أن العودة للسحر والعودة للتدين وللممارسات السحرية، وإعطائها في أبحاثهم مركزية أساسية، بكل عناية وجدية.
– في كتاب دوتي، الموتى يعودون، كي تكون لهم وظيفة أخرى تأثيرية على الأحياء، هل هذه العودة الرمزية ثاوية في عقل المغاربي عموما؟
< الموتى يقفون وراء كل ممارسات الأحياء، وكل الطقوس الدينية والطقوس السحرية وغيرها من الطقوس. فالموت هو القضية الأساس في الحياة، وفي الممارسة الاجتماعية للحياة إذا شئنا. فمثلا ما يسمى باستحضار الأرواح، هو أجلى ممارسة وأهمها، ودوتي يدرسها، وإن كان لا يجد لها مقابلا لدى عرب وبربر شمال إفريقيا. تلك الممارسة التي تخلق هذه العلاقة الحيوية والوجودية بين الموتى الذين يسهرون على حياتنا، والأحياء الذين يعيشون في ظل الموتى.
– كيف يمكن أن نحد من هذا التأثير، ونكف عن الحياة في ظلال الماضي الميت؟
< الأنتروبولجي يعلمنا شيئا أساسيا، وهو أن الإنسان هو جماع ماضيه، أي أنه بشكل أو بآخر، يحمل متخيله التليد،إن لم يكن في جسده ففي أفعاله، وفي وعيه وفي لاوعيه، ومن ثم فإن هذه القطيعة مع الماضي ربما من أكبر الأوهام التي جاءت بها العقلانية والتاريخانية.إننا نعيش عودة المنسي وعودة المكبوت، إننا نعيش ونشتغل ونمارس ونكتب مع أشباح الماضي بشكل أو بآخر، بطريقة إيجابية أو بطريقة سلبية. بطريقة سلبية في الموقف الأصولي الذي يرى في الماضي لحظة ذهبية وبحميمية معينة تكون في غالب الأحيان مرضية، وبشكل آخر فان الإيجابي في الموضوع هو العلاقة بالسحر، وهي علاقة ميتافيزيقية مع المستقبل، والسحر يمارس أثره في المستقبل، ومواده تأتي من الماضي، وبالتالي يمكن القول أن الإنسان المغاربي والإنسان العربي والمسلم تخترقه مجموعة من الأشياء منها الإيجابي والسلبي، وما يكون إيجابيا يصبح سلبيا، وما يكون سلبيا يصبح إيجابيا، وبالتالي فإن السؤال الذي يمكن أن نطرحه : ما هو موقفنا وموقعنا من هذه الممارسات، والفرق بين الدين في كل وجوهه وكل سماته، والسحر في كل وجوهه وفي كل سماته،والسحر لا توجد فيه الجوانب السلبية فقط، كالسحر القاتل والسحر الشرير أو السحر الأسود، ولكن فيه جوانب إيجابية إذا شئت، هي التي تعالج علاقة الإنسان بالمستقبل وتطمئنه كالطالع أو غير ذلك، وهي عناصر أتتنا من بعيد، وبالتالي لم يقض عليها لا التوجه الديني لاالتوجه العقلاني ولاالحداثة بكل عناصرها، ربما نحن نعيش عودة للممارسة السحرية ويلزم دراستها، وهذا مجال علماء الاجتماع والانتربولوجيا لا مجال المترجم.
– كونك تحوز جائزة المغرب للكتاب في فرع الترجمة عن هذا الكتاب، هل في الأمر رسالة ما؟
< أعتقد أن ما يسمى جائزة المغرب للكتاب في فرع الترجمة، هو أن كل ما يهم المغرب تعطى له الأولوية، وكل ما يهم مجالنا الاجتماعي والثقافي يمنح الصدارة. وبصراحة كاملة، ولا أخفيك ذلك،إن قيل لي أي كتاب ترشحه لتحوز به على جائزة الترجمة سواء كانت مغربية أو غيرها، لكنت سأرشح كتابين، الكتاب الأول «الصورة وموتها» لريجيس دوربريه الذي طبع الحقل الثقافي العربي واثر بشكل حاسم في الأكاديميين العرب الذين اكتشفوا هذه الزاوية من دوبري. والكتاب الثاني، هو «الخيال الخلاق في تصوف ابن عربي» لماذا؟، لأنه كتاب ظهر منذ أكثر من خمسين سنة ولم يترجم، وهو كتاب مرجعي يعتمد عليه كل الباحثين في التصوف العربي، وكان كتاب دوتي سيكون في المرتبة الثالثة، أولا لأني فيلسوف بتكويني والكتابان السالفان فلسفيان، وأحس أني أقرب إليهما من دوتي، الذي هو عالم اجتماع، وإن كنت باهتمامي بالجسد قريب من منحى هذا الباحث.
– لا شك، وكما تعرف أن المترجم له منهج خاص في الترجمة أو «كود» يسير عليه، ما هو منهجك، طبقا لهذا، في الترجمة؟
< لقد نشرت أولى ترجماتي منذ أكثر من عشرين سنة، وترجمت الكثير من الكتابات القريبة من الامتناع، إن لم أقل القريبة من الاستحالة، مثل كتابات عبد الكبير الخطيبي، وكتابات جوليا كرستيفيا وجاك دريدا، ولذلك فقد اصطدمت بحجرات الامتناع كثيرا، فالمترجم يطور تجربته ويكتسب مع الوقت مناعة ضد التحريف، بالإضافة إلى أني أمارس الكتابة باللغة الفرنسية وهذا ما يساعدني كثيرا في أن أستوعب جل الإجابات واللعب الداخلية الثقافي منها والإنساني في اللغة الفرنسية ويسهل من عملية الترجمة، حتى إننا يمكن أن نقول في أنفسنا لو أني عوض أن أترجم هذا الكتاب، لانصرفت إلى تأليف كتاب ولو عن نفس الموضوع. المغاربة أشطر في الترجمة – في العالم العربي الآن، وبالأخص في منطقة الخليج، هناك الكثير من مشاريع الترجمة، هل يمكن لهذه المشروعات أن تؤسس لأفق معرفي آخر أم أنها مزاجية وترتبط بالأشخاص فقط؟ < منطقة الخليج وبالأخص الإمارات، تعرف استنباتا لأشياء كثيرة، نيويورك مستنبتة في دبي، متحف اللوفر في أبو ظبي، إلى غير ذلك، وأظن أن الاهتمام بالترجمة هو اهتمام عربي، ربما كانت مصر من أوائل من انتبه إليه، وخصصت له مجلسا ومؤسسة، ولذلك لها الريادة في ذلك، ونحن في المغرب لنا مترجمون أكفاء لهم سمعة جيدة في الوطن العربي، لكننا لم نقدم للمترجمين المغاربة ما يكفي من الدعم المادي والمعنوي. أما بالنسبة لحالة الإمارات، فأعتبرها حالة جيدة في الوطن العربي، إذا ما استطاعت أن تخلق لنفسها النفس الدائم والقوة الاقتراحية الكبيرة والفاعلة.

Exit mobile version