إذا عٌدّ تايلور مخترع المفهوم العلمي للثقافة، فإن بواس هو أول أنثروبولوجي يقوم باستطلاعات ميدانية عبر الملاحظة المباشرة والطويلة للثقافات البدائية.وبهذا المعنى يكون مخترع علم وصف الأجناس البشرية Ethnographie .
فرانز بواس(1858-1942)ينحدر من أسرة يهودية ألمانية ذات تفكير ليبرالي.وقد تأثر بالمسألة العنصرية وكان أحد ضحايا معاداة السامية على يد أحد زملائه في الجامعة.تابع دراسته العليا في الجامعات الألمانية المختلفة فدرس الفيزياء أولاً ثم الرياضيات وبعدها الجغرافيا (الفيزيائية والبشرية).وقادته دراسته الأخيرة إلى الأنثروبولوجيا .في عام 1883-1884 شارك في بعثة إلى أرض بافن في بلاد الإسكيمو، باعتباره جغرافيّاً مثقلاً باهتمامات رجل الجغرافيا(كان الموضوع المطلوب هو دراسة أثر الوسط المادي على مجتمع الإسكيمو)، فلاحظ أن التنظيم الاجتماعي كان محكوماً بالثقافة أكثر منه بالبيئة المادية.وبالتالي عاد إلى ألمانيا عازماً على تكريس بحوثه، من الآن فصاعداً، للأنثروبولوجيا بشكل أساسي.
في عام 1886 سافر بواس إلى أميركا الشمالية للقيام باستطلاعات ميدانية لوصف الأعراق من خلال هنود الشاطئ الشمالي الغربي في كولومبيا البريطانية.وبين عامي 1886 و 1889 أقام في قبائل الكويوتل والشينوك والتزيميشان.وقرر في عام 1887 الاستقرار في الولايات المتحدة والحصول على الجنسية الأميركية.
إذا أردنا الإيجاز نقول إن أعمال بواس كلها تشكل محاولة للتفكير في قضية الاختلاف.فهو يعتبر أن الاختلاف الأساسي القائم بين الجماعات البشرية هو اختلاف ثقافي وليس اختلافاً عرقيّاً.وبما أنه درس الأنثروبولوجيا الفيزيائية فقد أولى هذا الفرع اهتماماً كبيراً، لكن اهتمامه انصب على تفكيك ما كان يشكل في تلك الفترة مفهوماً رئيسياً وهو مفهوم “العرق”.
في دراسة لـه أحدثت صدى كبيراً قدمها عام 1910(جمع فيها 17821 موضوعاً) بيّن، بالاعتماد على المنهج الإحصائي، السرعة الكبيرة (على مدى جيل واحد) للتنوع الذي يلحق بالسمات الشكلية (لا سيما شكل الجمجمة) بسبب ضغط البيئة الجديدة.واعتبر أن مفهوم “العرق” البشري المزعوم علمياً، ويعدّ مجموعة ثابتة أو دائمة من السمات الفيزيائية الخاصة بجماعة بشرية معينة ما هو إلا مفهوم ضعيف لا يصمد أمام الواقع.ف”الأعراق”المزعومة ليست ثابتة، وليس هناك صفات عرقية ثابتة.وبالتالي يستحيل تعريف “عرق” ما بدقة حتى لو لجأنا إلى ما يسمى بمنهج المعدلات الوسطية moyennes .وخاصية الجماعات البشرية، على الصعيد الفيزيائي، هي مرونتها وتغيرها واختلاطها.ومن هذه الاستنتاجات انتقل إلى اكتشافات متأخرة تتعلق بعلم وراثة السكان من البشر.
كما اهتم بواس بتوضيح عبث الفكرة التي كانت مهيمنة في عصره والمستترة خلف مفهوم “العرق”.وهي فكرة وجود علاقة بين السمات الفيزيائية والسمات العقلية.ويعتبر تايلور أن المجالين ينشآن عن تحليلين شديدي التباين.وللوقوف في وجه هذه الفكرة اعتمد مفهوم الثقافة الذي كان يبدو له الأصلح لبيان تنوع البشرية.وهو لا يرى أي اختلاف “طبيعي”(بيولوجي) بين البدائيين والمتحضرين إلا الاختلاف الثقافي.وهو بالتالي اختلاف مكتسب وليس غريزياً.يتضح إذاً، أن بواس يعتبر مفهوم الثقافة لا يعمل بشكل يخفي معه مفهوم “العرق” مخالفاً بهذا ما قاله البعض آنذاك، ووضع بواس هذا المفهوم في مقابل الآخر.وكان بواس آخر رجال العلم الاجتماعيين الذين تخلوا عن مفهوم “العرق” في تفسير التصرفات البشرية.
وخلافاً لتايلور الذي أخذ عنه تعريفه للثقافة، وضع بواس نصب عينيه هدف دراسة الثقافات وليس الثقافة.ولأنه كان متحفظاً إزاء التركيبات synthèses النظرية، لاسيما النظرية التطورية ذات الاتجاه الواحد unilinéaire التي كانت سائدة في الوسط الفكري، فقد عرض في عام 1896، في مداخلة لـه، ما كان يعتبره”حدود المنهج المقارن” في دراسة الأعراق.وهاجم الاتجاه التطوّري غير المتحفظ المعتمد من أغلب الكتاب التطوريين.وكان يرى أنه لم يكن هنالك إلا القليل من الأمل لاكتشاف القوانين العامة لحركة المجتمعات والثقافات البشرية.، وكذلك القوانين العامة لتطور الثقافات.ووجه نقداً جذرياً للمنهج المسمى بـ “التحقيب”Périodisation التي تنطوي على إعادة بناء مختلف أحقاب تطور الثقافة انطلاقاً من أصولها المزعومة.
وللأسباب نفسها كان بواس حذراً من الأطروحات الانتشارية المزعومة القائمة على إعادة البناء التاريخية.على وجه العموم، استبعد بواس كل نظرية كانت تزعم قدرتها على تفسير الأشياء كلها.ونظراً لاهتمامه بالدقة العلمية، فقد رفض أي تعميم يخرج عن إطار ما يمكن توضيحه تجريبياً.
لقد كان بواس شكاكاً ومحللاً أكثر منه منظّراً، ولم يطمح أبداً إلى تأسيس مدرسة فكرية.
وفي المقابل، سيبقى بواس في تاريخ الأنثروبولوجيا مؤسس المنهج الاستقرائي الميداني المكثّف.وكان يفهم علم الإناسة على أنه علم الملاحظة المباشرة:إن دراسة ثقافة معينة يجب أن تقوم على تدوين كل شيء، حتى تفاصيل التفاصيل.ومن خلال اهتمامه بالاحتكاك بالواقع، لم يكن يحبّذ اللجوء إلى المخبرين.فإذا أراد عالم الإناسة التعرف على ثقافة ما وفهمها جيداً، عليه أن يقوم بتعلّم لغتها بنفسه.وبدلاً من إجراء المحادثات الشكلية إلى حد ما-لأن طبيعة المحادثة من شأنها تحريف الأجوبة- يجب عليه بوجه الخصوص، أن يكون متنبهاً إلى كل ما يقال في المحادثات “العفوية” أي، كما يقول، عدم التردد في “استراق السمع من خلف الأبواب”.وهذا كله يفترض إقامة طويلة بين السكان الذين اختار دراسة ثقافتهم.
يعدّ بواس، على نحو ما، مخترع منهج البحث ذي الموضوع الواحد monographie في الأنثروبولوجيا.وعلى الرغم من أنه كان يتعقب أدق التفاصيل ويبحث عن معرفة شاملة للثقافة المدروسة قبل وضع الخلاصة العامة فهو لم ينجز أبداً بحثاً ذا موضوع واحد بكل ما تنطوي عليه الكلمة من معنى.بل وصل به الأمر إلى الاعتقاد بأن أية لوحة منتظمة لثقافة معينة تتضمن بالضرورة، جزءاً من التنظير، وهذا بالضبط ما كان يمتنع عن القيام به، علماً بأنه كان يؤمن بأن الثقافة تشكّل كلاًّ وظيفياً منسجماً.
وندين لـ”بواس” à”Boas” بالمفهوم الأنثروبولوجي حول ” النسبية الثقافية” حتى لو لم يكن هو من اخترع هذا التعبير الذي لم يظهر إلا لاحقاً.، أو أول من فكر بالنسبية الثقافية.النسبية الثقافية عنده هي، أولاً، وربما أكثر من أي شيء آخر، مبدأ منهجي.وللإفلات من كل أشكال العرقية المركزية ethnocentrisme في دراسة ثقافة معينة، فقد أوصى بدراسة تلك الثقافة دون أفكار مسبقة دون مقارنتها قبل الأوان بثقافات أخرى.وكان ينصح بالحيطة والحذر والصبر في البحث.وكان واعياً لتعقيد كل منظومة ثقافية ويقول إن المعاينة المنهجية لمنظومة ثقافية في حد ذاتها من شأنها أن تقضي على تعقيدها.
بالإضافة إلى أن بواس يعتبر النسبية الثقافية مبدأ منهجياً، فإنها تتضمن أيضاً مفهوماً نسبياً للثقافة.ونظراً لأصله الألماني ودراسته في الجامعات الألمانية فقد كان متأثراً بالمفهوم الذاتي particulariste الألماني للثقافة، فهو يرى أن كل ثقافة هي ثقافة وحيدة ونوعية.وكان اهتمامه مشدوداً، بشكل عفوي، إلى ما يكون أصالة ثقافة معينة. ولذا لم يسبقه أي باحث أبداً في موضوع دراسة الثقافات الخاصة بشكل مستقل.لأنه يعتبر أنّ كل ثقافة تمثّل كلاً فريداً، وانصب جهده على البحث عن أسباب هذه الوحدة.ومن هنا اهتمامه ليس بوصف الوقائع الثقافية وحسب بل أيضاً فهمها من خلال إعادة وصلها بالمجموع الذي ترتبط به.فالعرف الخاص لا يمكن تفسيره إلا برده إلى السياق الثقافي الذي هو سياقه.وكان يسعى إلى فهم الكيفية التي تشكّلت فيها النقيضة الأولية التي تمثلها كل ثقافة والكامنة وراء تجانسها.
كل ثقافة لها “أسلوب” خاص يتضح من خلال اللغة والمعتقدات والأعراف والفن أيضاً وغير ذلك.وهذا الأسلوب هو “روح” يخص كل ثقافة ويؤثر على سلوك الأفراد.وكان بواس يظن أن مهمة الإناسي(عالم الأعراق) تنطوي أيضاً على توضيح العلاقة التي تربط الفرد بثقافته.
لا شك في وجود علاقة وطيدة بين النسبية الثقافية كمبدأ منهجي وكمبدأ إبستمولوجي تؤدي إلى مفهوم نسبي للثقافة.واختيار منهج الملاحظة المستمر والمنتظم والبعيد عن الأحكام المسبقة لكيان ثقافي محدد يؤدي تدريجياً إلى اعتبار هذا الكيان كياناً مستقلاً.وتبدل الوصف العرقي لدى المسافرين “الذين يمرون مرور الكرام على هذا الكيان أو ذاك” ليتحول إلى وصف عرق يستند إلى الإقامة الطويلة قد غيّر تماماً فهم الثقافات الخاصة.
وفي نهاية حياته شدد بواس على وجه آخر من أوجه النسبية الثقافية وهو ما يمكن عده أيضاًً مبدأ أخلاقياً يؤكد قيمة كل ثقافة وينادي بالاحترام والتسامح إزاء الثقافات المختلفة.وطالما أن كل ثقافة تعبّر بشكل خاص عن كون الإنسان إنساناً فيجب احترامها وحمايتها إذا كان يتهددها خطر معين.
لو نظرنا إلى أعمال بواس في تنوعها الغني وإلى الافتراضات المتعددة التي تطرحها حول الوقائع الثقافية التي تحملها، فإننا نكتشف، بلا ريب، بشائر ما ستكون عليه الأنثروبولوجيا الثقافية في شمال أمريكا.