ثمّة فكرة سائدة في أوساط الإنتلجنسيا العالمية مفادها بأن[inlinetweet prefix=”” tweeter=”” suffix=””] مبحث الأنثروبولوجيا الثقافية (أو الاجتماعية؛ إذ لا فرق) هو الأصل الذي يمكن منه اشتقاق كل المباحث السائدة في الإنسانيات (أدب – شعر – تاريخ – جغرافيا – علم اجتماع – سياسة، اقتصاد… إلخ). [/inlinetweet]ا[inlinetweet prefix=”” tweeter=”” suffix=””]لاشتقاق هنا بمعنى أن الأصول الأولى للمبحث المقصود في الإنسانيات يمكن معاينة بداية نشأتها بتوجيه البؤرة البحثية نحو موضوعة محددة في الأنثروبولوجيا الثقافية[/inlinetweet]. وعليه؛ فإن الإحاطة ببدايات نشأة الأنثروبولوجيا الثقافية ستكون شرطاً لازماً لكل المشتغلين في حقل الإنسانيات، وفي الوقت ذاته لكل الشغوفين بمباحث الأنثروبولوجيا والثقافة.
يتناول تشارلز كينغ (Charles King) نشأة الأنثروبولوجيا الثقافية والشخوص المؤسسين لها في كتابه الذي اختصّه بعنوان: «آلهة المثابات العليا (Gods of the Upper Air)» الذي نشرته دار نشر «Doubleday» عام 2019. ويعمل كينغ أستاذاً للشؤون الدولية في جامعة جورج تاون الأميركية، وهو مؤلف العديد من الكتب التي تناولت أوروبا الشرقية والاتحاد السوفياتي السابق.
الكتاب في جوهره تجميعة لرؤى كتّاب متعدّدين بشأن سيرة «فرانز بواس Franz Boas (1858 – 1942))» الذي وضع الأسس الراسخة للأنثروبولوجيا الثقافية – بوصفها حقلاً أكاديمياً له أصوله القائمة – في الولايات المتحدة، فضلاً عن سيرة أربعة من تلاميذ بواس: روث بينيدِكت Ruth Benedict، وزورا نيل هرستون Zora Neale Hurston، وإيلّا كارا ديلوريا Ella Cara Deloria، ومارغريت ميد Margaret Mead. يجادل كينغ في كتابه هذا بأنّ هذه الشخصيات الثقافية كانت تعمل «في الجبهات المتقدّمة للحرب الأخلاقية العظمى في زماننا، والمقصود بهذه الحرب هو سيادة مفهوم أنّ الإنسانية كينونة واحدة لا تقبل التجزئة بصرف النظر عن الاختلافات السائدة في لون البشرة، والجندر، والقدرات الجسدية والعقلية، والعادات الثقافية والمعيشية».
يرى كينغ أنّ الأنثروبولوجيين الثقافيين استطاعوا تغيير توجّهات الناس مثلما استطاعوا تعديل سلوكياتهم، وهو يكتب في هذا الشأن:
“لو أنّ الأمر صار في عداد البداهة المقبولة من غير مساءلة في أن يقرأ طالب جامعي كتاب الـ(باغافاد غيتا Bhagavad Gita) في برنامج دراسي جامعي يتناول الكلاسيكيات الكبرى في العالم، وأن يتمّ رفض العنصرية واعتبارها إفلاساً أخلاقياً وغباوة يمكن كشفها ذاتياً، وأن يتمّ تعزيز القدرات الفردية في أماكن العمل بعيداً عن الاعتبارات الجندرية والعرقية، فهذه كلها – مع أمور أخرى سواها – لم تكن نتاجاً لتطلعات طموحة لتنظيم المجتمع، وصارت اليوم أموراً بديهية بقدر ما كانت نتائج طبيعية لأفكار بطولية قادها بواس وتلامذته؛ لذا علينا جميعاً إبداء آيات الشكر والتقدير له ولمُريديه الخُلّص”.
إنّ العمل المتفرّد لبواس ومُريديه يكمن في أنهم أزاحوا تأويل الاختلافات البشرية من حقل البيولوجيا (علم الأحياء) إلى حقل الثقافة.
وُلد بواس وتعلّم في بروسيا Prussia، ثمّ هاجر إلى الولايات المتّحدة عام 1886 عندما كان في الثامنة والعشرين، وبعد عقد من الزمن وعقب محاولات كثيرة لم تُصِب نجاحاً يذكر تمكّن بواس من أن يشغل موقع أستاذ جامعي (بروفسور) للأنثروبولوجيا في جامعة كولومبيا، وقد كان هناك عُرضة لحروب عديدة شغلت سنوات ليست بالقليلة، وكان أحد أسباب تلك الحروب – في الأقلّ – معاضدته سياسات الأجنحة اليسارية.
تمكّن بواس، بشكل من الأشكال، من تدريب جيل كامل من الأساتذة المتميزين في حقل بحثي كان حتى أعقاب الحرب العالمية الثانية تخصصاً أكاديمياً في نطاقات ضيقة. كان بواس كاتباً ذا قدرة مهولة على الكتابة، وهو بهذا يشابه اثنين من البروفسورات المؤثرين المعاصرين له: جون ديوي John Dewey، وثورشتاين فبلن Thorstein Veblen؛ لكنه يتمايز عنهما في أنه لم يسمح للخوف بأن يتسلل إلى روحه، فضلاً عن امتلاكه طاقة عجيبة على العمل وشخصية كاريزمية ساحرة.
ثمة مأثورة تتردّد في الأوساط الأكاديمية جوهرها أنّ مهنة الأستاذ الجامعي ليست سوى حواشٍ تدور في مدار أطروحته الأكاديمية، وهذا أمرٌ يصدق على حالة بواس بشكل أو آخر. كان بواس باحثاً تجريبياً اعتاد جمع البيانات وتدقيقها بحثاً عن الخروج بنموذج شامل يجمعها، ولم يكن يرى في نفسه ميلاً نحو التخمينات النظرية؛ لكنه، رغم هذه الخصيصة المتأصلة في نفسه، آمن دوماً بأنّ الحقيقة الجوهرية بشأن الكائنات البشرية تكمن في أنّ كلّ الحقائق المعروفة عنهم تتغير لأنّ الظروف التي يعيشونها تتغير هي الأخرى. رأى بواس أنّ حيواتنا قد تكون محكومة بطائفة من المؤثرات: الجينات، والبيئة، والثقافة؛ لكنّ هذه المؤثرات ليست محدّدة بصورة مسبّقة.
لم تكن مكتشفات بواس مما يرغب في سماعه العلماء والسياسيون البيض عام 1911. شهد بواس في حياته تشريع قانون «جم كرو Jim Crow» الذي أشاع قبولاً واسع النطاق بالداروينية الاجتماعية وعلم تحسين السلالات البشرية (Eugenics)، والتوسّع الاستعماري (بما فيه الاحتلال الأميركي للفلبين)، والتقييدات القاسية للهجرة إلى الولايات المتحدة، وتنامي حركة الـ«كوكلاكس كلان (Ku Klux Klan)» العنصرية، وصعود سلطة أدولف هتلر. كان العلم حتى ذلك الوقت يُعامل على أنه المسوّغ المقبول للاستعمار الكولونيالي، والفصل العنصري، والتمييز العرقي، والنبذ السكّاني، والتعقيم القسري. كرّس بواس حياته لكي يثبت للناس أنّ العلم الذي كانوا يعتمدونه في تسويغ ممارساتهم السابقة إنما كان علماً سيئاً. «آمن بواس بأن العالم ينبغي أن يكون آمناً يتسع لكل الاختلافات البشرية»؛ هذا ما كتبته روث بينيدكت عقب وفاته.
إذا كانت الاختلافات البيولوجية لا تصلحُ مسوّغاً لتلك الطائفة الواسعة من الممارسات والأدوار المتباينة السائدة بين المجموعات البشرية، والتي نلاحظها في العالم، فينبغي حينئذ توقّع وجود أمر آخر يفعل فعله. فكّر بواس في وجود مجموعة من المؤثرات الأخرى، وأحدُ تلك المؤثرات هو «الثقافة Culture».
تحتاجُ مفردة الثقافة هنا شيئاً من إعادة تعريف: كانت مفردة الثقافة في القرن التاسع عشر تُعامَلُ بشكل عام كأنها أقربُ إلى حيازة شيء ما. كانت شيئاً تكتسبه المجتمعات في سياق عملية تطورها المستديم، وهي بهذا تُعدُّ طوراً في عملية نمو الحضارة المدنية. كان بواس من الشخصيات التي أشاعت بيننا التعريف الإجرائي للثقافة عندما نتحدث عن الثقافة بمعناها الأنثروبولوجي؛ بمعنى أنّ الثقافة تعني طريقة محدّدة في الحياة. كانت إحدى المساهمات الكبرى لبواس في هذا الشأن هي أن يُرينا الكيفية التي حازت بها المجتمعات ما قبل الحديثة (البدائية Primitive كما تسمّى في الأدبيات الأنثروبولوجية) ثقافاتٍ بالطريقة ذاتها التي تحوز بها المجتمعات الحديثة ثقافاتٍ خاصة بها.
انتهى بواس إلى حصيلة استنتاجية مفادُها بوجود ثقافات بشرية عدّة بدلاً من واحدة، وابتدأ منذ ذلك الحين الإشارة إلى «ثقافات» بصيغة الجمع، بدلاً من ثقافة جامعة واحدة. كان بواس مهتماً بـ«علم الأجناس البشرية Ethnography»، وكان مسكوناً بقناعة راسخة أنّ عمل المختصّ بعلم الأجناس البشرية إنما هو في حقيقته دراسة للأنماط الثقافية السائدة في أي مجموعة بشرية قيد الدراسة: أن نفهم – على سبيل المثال فحسب – من داخل الجماعة البشرية ما الذي تعنيه الذكورة أو الأنوثة، وما الذي يعنيه منحك هدية لأحد ما أو قبولك لها، وما الذي يعنيه دفن جثة ميت. كان على المختص بعلم الأجناس البشرية، كما يرى بواس، أن يفهم الطبيعة الدلالية الدقيقة للمُزحات السائدة في جماعة بشرية ما، وهذا يعني أن يترك المرء مواضعاته الثقافية بعيداً عنه. «الثقافات متعددة، والإنسان واحد»؛ هذا ما كتبته إيلّا ديلوريا في ملاحظاتها على واحدة من محاضرات بواس.
«أفضلُ طلابي نسوة»؛ هذا ما أسرّه بواس لصديق أنثروبولوجي له عام 1920. لم تكن «كلية كولومبيا» حينئذ تقبل النساء فيها (كانت كولومبيا آخر جامعة بين جامعات النخبة (Ivy) الأميركية تقبل بالتعليم المختلط عام 1983!)؛ لكنّ «مدرسة الدراسات العليا» و«كلية المعلّمين» كانتا تقبلان النساء. كان بواس يدرّسُ في «كلية برنارد»، وكانت على الجهة الثانية من الشارع والمقابلة لـ«كلية كولومبيا» (أصبحت جامعة فيما بعد).
لن يخفى على القارئ الشغوف ملاحظة أنّ هذا الكتاب يكشف عن كثير من التفاصيل المثيرة رغم أنها تتناول موضوعة محدّدة في الأنثروبولوجيا الثقافية، ومن هذه التفاصيل الكثيرة مثلاً:
– شكل التعليم الجامعي الأميركي في بدايات القرن العشرين، والتمايز الجندري فيه.
– الخصائص التقدّمية التي سادت الأنثروبولوجيا الأميركية بالمقارنة مع الخصائص المحافظة (الأقرب إلى الروح الاستعمارية) التي طبعت الأنثروبولوجيا الأوروبية.
– الأب المؤسس لحقل الأنثروبولوجيا الثقافية هو فرانز بواس. تلك حقيقة مؤكدة؛ لكن رغم ذلك؛ فإن الشخصيات الأربع الأكثر تميزاً بين تلامذته كنّ من النساء اللاتي لعبن دوراً متفرّداً في هذا الحقل البحثي وأنجزن أعمالاً متميّزة فيه، خصوصاً مارغريت ميد التي صارت شخصية أيقونية في الثقافة الأميركية.
المصدر :” الشرق الأوسط “