النسب والحريم والإسلام:
عن الشرق الأوسط والمطبخ الأنثربولوجي الأنجلو – أميركي في القرن العشرين
كاتب المقال :محمد تركي الربيعو
اعتمدت النظرية الأنثربولوجية منذ أواخر القرن التاسع عشر على الأقل ، على ممارسة الرحيل الى مكان ما، يكون بعيدا عن العاصمة النظرية والثقافية للباحث. حيث كان العلم بالآخر مرتبطا بشكل لا فكاك منه بالرحلة الى مكان اخر. لكن مسألة نوع المكان الاخر كانت مرتبطة بطريقة معقدة بتاريخ التوسع الأوربي وتقلبات الاعتبارات العملية الاستعمارية وما بعد الاستعمارية، وتغيرات أذواق المثقفين الغربيين. فمنذ البداية كان اغراء الصغير والبسيط والأولي والعلاقة المباشرة هو الذي يدفع روح الأنتربولوجيا . وقد أدى هذا الدافع بحسب الأثنوغرافي في جامعة نيويورك (أرجون أبادوري)الى نتيجتين بالنسبة للنظرية الأنثربولوجية.
الأولى أن أشكالا بعينها من العلاقة الاجتماعية (مثل القرابة) أو من التبادل (مثل الهدية أو لغز الهبة أو الكرم) ومن الاجتماع السياسي (مثل الدولة القائمة على العصبية) كانت الموضوعات المفضلة التي شدت الاهتمام الأنثربولوجي وشكلت النطاقات رفيعة المكانة للنظرية ، بحيث أصبحت أدوات نظرية قليلة وبسيطة كنايات وبدائل للحضارة أو المجتمع ككل . ومن الأمثلة التي يوردها أبادوري في هذا السياق ، الأدوات التراتبية في الهند (نظام الطبقات المغلقة ) ، والشرف والعار في منطقة المتوسط ، وهي جميعها أمثلة يمكن تسميتها على حد تعبيره ب” المفاهيم الحارسة ” لأبواب النظرة الأنثربولوجية ، أي تلك التي يبدو أنها تضع حدودا للتنظير الأنثربولوجي عن المكان محل البحث ، بتحديد الأسئلة الجوهرية والمهمينة التي تستحق الاهتمام في الاقليم .
وبذلك غدت النتيجة الثانية ، أن أنثربولوجيا المجتمعات المعقدة غير الغربية ظلت الى وقت قريب مواطن من الدرجة الثانية في الخطاب.وأصبحت الأماكن كل منها بمثابة وصي على سمات ثقافية بعينها أو على أشكال معينة من العلاقات الاجتماعية.
سياسة المكان في النظرية الأنثربولوجية داخل العالم العربي:
في هذا السياق ، تتخذ مؤلفة كتاب ( بدو قبيلة أولاد علي بمصر) ليلى أبي لغد والتي تعمل كأستاذة للأنثربولوجيا ودراسات النوع في جامعة كولومبيا الأميركية ، في دراسة لها ضمن كتاب ” كيف نقرأ العالم العربي اليوم؟ الصادر عن دار العين المصرية بالتعاون مع مؤسسة فورد ومركز دراسات الشرق الأوسط في الجامعة الأميركية بالقاهرة ، من ملاحظات أبادوري السابقة نقطة بداية للبحث في سياسات التنظير بشأن العالم العربي والتي سادت في الكتابات الانجلو – اميركية حتى بدايات التسعينيات من القرن العشرين ، عندما استطاعت اثنوغرافيا الشرق الاوسط أن تدعي أن لها منظرين انثربولوجيين أخذت دراساتهم تحظى بتأثير واسع كما في حالة كليفورد غيرتز ، الذي اثرت دراساته على اتجاه الأنثربولوجيا الأميركية ، عبر رؤية جديدة لأفعال الناس باعتبارهم أصلا ثقافيين ولأفعالهم على أنها دائما ذات معنى ورمزية ، بحيث وازنت الاهتمام البريطاني الانثربولوجي بالبيئة الاجتماعية التي هيمنت على انثربولوجيا الشرق الاوسط بالتشديد على التحليل والتفسير الثقافيين.
وبرغم أن هذا الخطاب الأنثربولوجي لفترة ما قبل التسعينيات بقي أقل اعتمادا على الاحالات المرجعية في الاستشراق، وأقل عرضة لأن يتخيل “مكانا واقعيا” بناء على إحالات نصية . لكنه برأي أبي لغد ساهم في تشكيل شرق أوسط خاص به ، مصنوع من تقاليد ومعايير للمواءمة واهتمامات تخيلية وسياسية وميول أعيد انتاجها لعقود قليلة ماضية بعدة طرق ، وهو ما بدى من خلال التركيز على ثلاثة نطاقات مركزية للتنظير في أنثروبولوجيا الشرق الأوسط: النسب والحريم والإسلام ، والتي غدت بمثابة ” الكنايات النظرية” المساندة التي جرى بمقتضاها فهم هذه المنطقة الشاسعة والمعقدة.
فصيلة الانسان النسبي:
وبرأي أبي لغد ربما كان النطاق الأرفع مكانة والأطول دوما للتنظير الأنثربولوجي بشأن العالم العربي هو ما يعرف بالتقسيم النسبي. وفقا لنسب أو نظرية التقسيم النسبي أو القبلية.
وبالرغم من أن الباحثة لا تنكر أن للقبيلة والنسب بعض القيمة في فهم بعض مجتمعات الشرق الوسط، لكنها تظن أننا نحتاج الى أن نبتعد خطوة عن المناظرات الداخلية بشأن النسب، لنسأله لماذا سيطرت هذه المناظرات على الخطاب الأنثربولوجي عن الشرق الأوسط؟.
وهو ما تفسره من باب أن نظرية النسب هي خطاب عن العنف السياسي، الذي يتم التعبير عنه صراحة في كل الأعمال التي تناولت الحياة القبلية وعالجت موضوعات مثل الغارات والمشاحنات والنزاعات. بل يمكن القول بأن الاهتمام بالسياسة والشرف الذكوري هو دائما اهتمام ما بصراع محتمل أو واقع بالفعل، وبالتالي بالعنف.
لكن يبقى الأكثر مدعاة للتفكير هو معنى هذا العنف السياسي عند الانثربولوجيين ،فمن جهة تعتبر المواجهات التنافسية من علامات الرجولة في ثقافات عديدة بما فيها كثير من الثقافات الغربية. وهناك قدر من الاعجاب يلون وصف الاستقلال الشرس المنسوب الى من يعيشون في مجتمعات نسبية، بما فيهم رجال قبائل الشرق الأوسط، فهم رجال حقيقيون ومتحررون من التأثير المخفي للدولة والمجتمع المهذب. فوق ذلك يمثل رجال القبائل هؤلاء بالنسبة للكثير من الكتاب مثلا سياسية رومانسية عن التحرر من السلطة والولاء للديمقراطية. ولذلك فان الافتتان بحرية البدو الرعاة كان جزئيا تأكيد بلاغي على تحرر الأنثربولوجيين من مشروعات السيطرة التي يشاركون فيها بشكل مباشر أو غير مباشر .
نظرية الحريم والاسلام:
لكن من جانب أخر ، ترى أبي لغد أن مرحلة الثمانينات من القرن المنصرم شهدت عمل رفيع المستوى وتطور نظري على صعيد دراسات النساء في الشرق الأوسط. حيث غير بعض الانثربولوجيين بالفعل فهمنا للحريم او عالم النساء، بأخذ النساء وأنشطتهن بجدية ، من خلال البحث في الطرق التي سعت من خلالها النساء الى وضع استراتيجيات للمناورة واكتساب النفوذ والمقاومة. كما اظهر كثيرون أيضا كيف يخلق الفصل الجنسي فضاء أكثر أهمية للفعل في الحياة اليومية مما يتاح للنساء في المجتمعات التي تتمتع بدرجة أقل من الفصل بين الجنسين( وهو ما بينته مؤخرا دراسة الأنثربولوجية الفرنسية اميلي لورنار حيال يوميات النساء السعوديات في مدينة الرياض).
كذلك قاد التركيز على عالم النساء بعض الأنثربولوجيين الى إدراك العلاقة الجدلية بين عالمي الرجال والنساء واستحالة الكلام عن حياة النساء بغير الكلام عن حياة الرجال. وهو أمر كانت له نتائج نظرية خطيرة، لأنه إذا لم تكن النساء حقا جزءا من مجال منفصل، كيف يمكن مواصلة تحليل مجالات الرجال الخاصة بالسياسة والاقتصاد والدين بغير إشارة الى النساء.
ما عنى أن التصورات الثقافية التقليدية الغربية عن السلطة التي أملت فهمنا للسياسة اعمتنا عن طرق مشاركة النساء في صناعة القرار واليات المجتمع. وبذلك كانت المساهمة الأكثر أهمية في هذا التنظير هي الكشف عن أن المقولات التحليلية تخفي عادة تصورات ثقافية غربية.
أما بخصوص الاسلام والذي شكل المجاز النظري” الثالث للعالم العربي. فان الباحثة تستعرض مشروع الأنثروبولوجي الباكستاني طلال أسد .
والذي قدم بطريقته المميزة قراءة نقدية متأنية ومدمرة لكتاب غلنر ” المجتمع المسلم”. حيث هدف من هذا التمرين الى ” استخلاص المشكلات النظرية التي يجب أن يفحصها كل من يرغب في كتابة أنثروبولوجيا الإسلام”. وحجته الرئيسية ضد غلنر واخرين، أنه لا يوجد شيء يمكن أن يعتبر بنية اجتماعية إسلامية جوهرية.
كما انتقد المداخل التي ترمي الى أخذ التنوع في الاعتبار باستعمال وتكييف تقاليد المستشرقين القائمة على استقطابات بين التقليدي واللاتقليدي، لتأخذ شكل ثنائية المدينة المتزمتة في مواجهة ايمان الريف الذي يقدس الأولياء، كثنائية تتناسب مع نوعين من البنية الاجتماعية، أحدهما مدني ومركزي والأخر ريفي ونسبي ومجزأ.
لكن رغم موافقة أبي لغد على هذه الملاحظات ، فانها تعترض على طريقة أسد التي قلل بها من شأن بعض الكتابات الأخيرة حيال الاسلام . فقد ساهم اخرون ممن لم يستشهد بهم في الدراسة الأنثربولوجية للإسلام بطريقة مثيرة للاهتمام. فمثلا تفتتح السيرة الاجتماعية لمثقف مغربي ” تقليدي” التي كتبها ايكلمان والتي ” تركز على تدريب قاض ريفي وسيرته العملية وتخيله الأخلاقي. رؤية لعالم التعليم، وهو تقليد خطابي نادرا ما اختبره الانثربولوجيين.
المصدر : جريدة القدس العربي.
http://www.alquds.uk/?p=363899