الكتاب :نفسية الشعب الجزائري
المؤلف: أحمد بن النعمان
الناشر: دار الأمة، 1997
يعتبر موضوع الثقافة و الشخصية من أحدث التخصصات التي استأثرت باهتمام العديد من الباحثين في مجال الأنثروبولوجية الثقافية، و أحدثوا لها فرعا قائما بذاته يدعى الأنثروبولوجيا النفسية.
و يمكن القول على وجه التحديد أن أول من فكر في موضوع الثقافة و الشخصية هو الأنثروبولوجي الأمريكي هوايت ليزلي (white L) سنة 1925 ثم تبنى الفكرة بعده عالمان آخران هما ايدوارد سابير(SAPIR. E) و دولارد (Dolard) اللذان نظما سنة 1933 حلقة خاصة في جامعة هيل الأمريكية لمناقشة موضوع (الثقافة و الشخصية) و كانت تلك المناقشات بمثابة المنطلق في هذا الاتجاه حيث توالت الدراسات و الأبحاث حول الموضوع، و بدأت تظهر أهميته العلمية و القومية، فأصبح من المواد الرئيسية التي تدرس في مختلف أقسام الأنثروبولوجيا في جامعات العالم، حيث انكب العديد من الأنثروبولوجيين على تحديد السمات الأساسية للشخصية القومية للمجتمعات في بعض الدول. و من بين هؤلاء روث بندكت (Ruth Benidict) التي قادت فريقا من الباحثين لدراسة مجموعة من الثقافات المختلفة. و تعتبر هذه العالمة بحق هي التي أسست الأنثروبولوجيا النفسية و وضعتها في مكانها المناسب كفرع من الأنثروبولوجيا الثقافية.
و قد أجريت دراسات مختلفة حول الثقافة و الشخصية في العديد من بلدان العالم، كالصين و اليابان و تايلاندا و أوروبا الشرقية و فرنسا و سويسرا و ألمانيا. و ما تزال تلك الدراسات متواصلة إلى اليوم، و هي أخذة في التحدد و الاتساع عبر أقطار العالم المختلفة. على أن مثل هذه الدراسات العلمية (الأكاديمية) حول موضوع الثقافة و الشخصية، في البلدان العربية لم تبدأ الاهتمام بها إلا مؤخرا (فيما هو معلوم)، مما يبعث على التأكد بأن القيام ببحث مماثل حول الثقافة و الشخصية في أحد البلدان العربية يعتبر شيئا جديدا قد يكون ذا أهمية علمية تتلخص أهم جوانبها في الآتي:
1- لقد ظلت الأنثروبولوجيا عموما و الأنثروبولوجيا النفسية على وجه الخصوص (إلى وقت قريب) حكرا على الباحثين الأجانب في المنطقة العربية، و كانت تطبيقاتهم في معضمها تهدف إلى خدمة الأغراض الاستعمارية في الأقطار العربية التي بقيت إلى وقت قريب ـ أيضا ـ خاضعة للسيطرة المباشرة للاحتلال الأجنبي، و حتى إذا استثنينا الباحثين الأجانب الذين استهدفوا تكريس الاحتلال الأجنبي للأقطار العربية، فإن الباحثين الآخرين الذين قاموا بدراسات تستهدف العلم لذاته (على قلتهم) كانوا ينطلقون من بعض المسلمات الخاطئة عن الواقع الثقافي للمجتمعات العربية، إلى جانب عدم خلو أذهانهم من بعض الأفكار المسبة عن المجتمعات العربية، مما يحجب عنهم رؤية جزء هام من الحقيقة، يحول دون التوصل إلى نتائج مطابقة للواقع المدروس.
و على الأساس يكون البحث المقدم مفيدا لكونه يتم بواسطة باحث ينتمي إلى نفس المجتمع المدروس، و توفر على إمكانيات للبحث قد لا تتوفر لدى من سبقوه، و بالتالي ينتظر أن يسفر البحث على نتائج، تؤكد أو تصحح المفاهيم السائدة في بعض المؤلفات حول الثقافة و الشخصية العربية بصفة خاصة، و ذلك انطلاقا من أن النظرية في حد ذاتها (أية نظرية) ليست إلا مجموعة من الفرضيات التي تتأكد صحتها كلما كثر اختبارها في الواقع العملي الذي يعتبر المحك الأول و الأخير لقياس مدى صحة أية نظرية علمية.
2- إن أهم دعامة للبحث الأنثروبولوجي منهجه الذي يعتد على الملاحظة بالمشاركة و هو منهج لا يسعف الباحث فيه إلا العيش داخل الجماعة موضوع الدراسة، وكسب ثقة أفرادها، و هذا ما يتوفر إلا لفرد من نفس المجتمع موضوع الدراسة،و ذلك لأن أفراد مجتمعاتنا في معظم الأقطار العربية (و خاصة في الجزائر) هم حديثو العهد بالاستقلال عن السيطرة الأجنبية، و بالتالي ما يزال شبح الاستعمار أمام أعينهم مما يجعلهم يتهيبون من أي شخص أجنبي يحاول الاختلاط بهم لمعرفة أي شيء عنهم، فالأجنبي دائما مشبوه لديهم و لا يأمنون جانبه مهما تحايل عليهم. و إذا كان هذا هو موقفهم فلا يمكن أن تكون نتيجة أي بحث يقوم به الأجانب في أقطارنا العربية مطابقة للواقع بالكيفية التي تجعلنا نثق بصحة تلك النتائج العلمية.
3- كما أنه بحكم حداثة عهد هذا الفرع من الأنثروبولوجيا الثقافية، انعدم وجود الأبحاث الأكاديمية المنطلقة من الواقع العربي لبحث الثقافة و الشخصية العربية دون التحيز لخدمة أغراض سياسية بعيدة عن العلم، و على هذا الأساس يكون تناول موضوع الثقافة و الشخصية في الجزائر أول منطلق علمي أكاديمي، من شأنه أن يفتح المجال لأبحاث أكاديمية مماثلة حول الشخصيات المركزية (الإقليمية) للمجتمعات الأخرى في الأقطار العربية.
إن الأهمية العلمية لموضوع البحث مهما تكن كبيرة من الناحية الأكاديمية الصرف، تبقى مرهونة من الناحية الوطنية بالفائدة العلمية التي تعود بها على المجتمع المدروس، و ذلك انطلاقا من أن الموضوعات الأكاديمية التي تبحث من أجل العلم في ذاته هي ضرب من الترف الثقافي الذي لا يلاءم المرحلة الحضارية التي تجتازها مجتمعاتنا العربية في الوقت الحاضر، و لاشك أن القيام ببحث أكاديمي حول الشخصية الجزائرية لا ينتهي عند جوانب الفائدة العلمية المذكورة فحسب، بل يتعداه إلى تحقيق فوائد علمية في غاية الأهمية لمجتمع الجزائري يمكن قصر أهمها في الآتي:
1- بحكم وقوع المجتمع الجزائري تحت السيطرة الكاملة للاحتلال الفرنسي (الاستيطاني) لمدة طويلة، لم تجر فيه أية أبحاث علمية موضوعية حول الشخصية الجزائرية ككيان مستقل (بمقوماته الثقافية) عن الشخصية الفرنسية، و ذلك لأن المحتل الفرنسي كان يعتبر البلاد جزءا من فرنسا ترابا و شعبا، و بالتالي ظل يحظر على الباحثين الخوض في دراسة موضوع الشخصية القومية الجزائرية إلا من زاوية إثبات الأصل الأوروبي (الغالي) للمجتمع الجزائري، قبل اختلاطه بالعنصر العربي بعد الفتح الإسلامي… و ذلك بهد إبقاء المجتمع الجزائري غير شاعر بشخصيته المتميزة التي تؤكد لديه الشعور القومي، و تدفعه بالتالي إلى طلب الاستقلال، وهو ما كان يتفاداه المحتل الفرنسي بكل الوسائل، و قد انطلى الأمر حتى على بعض الجزائريين أنفسهم، من المتعلمين باللغة الفرنسية حيث صرح أحدهم بأن المجتمع الجزائري لا يعدو كونه أشتاتا من الشعوب المختلفة (بربرية و فينيقية و رومانية و عربية و تركية و فرنسية) لا تربط بينها رابطة ثقافية تجعلها ذات شخصية متميزة بخصائص معينة.. و هذا ما كان يهدف المحتل الفرنسي إلى تأكيده دوما في أذهان الجزائريين، و ما يزال حتى الآن.
و إذا كان الاستقلال السياسي قد تحقق بجلاء المحتل عن الأرض فلا يستبعد أن تبقى مثل هذه المفاهيم راسبة في أذهان بعض المتأثرين بالثقافة الفرنسية من أفراد المجتمع الجزائري في الوقت الحاضر، و من ثمة تبدو لنا أحدى الفوائد الهامة للبحث المقدم حيث تصحح بعض المفاهيم الخاطئة التي ورثها بعض أفراد المجتمع من لغة و ثقافة الاحتلال الفرنسي
2- من المبادئ التي كان يقوم المستعمر الفرنسي بتطبيقها في الجزائر هو محاولة التفرقة العرقية بين أفراده، و هو اعتبار أن المجتمع الجزائري مكون من عنصرين أو عرقين مختلفين كل الاختلاف، و هما العنصر البربري الذي يمتد بجذوره ـ حسب الزعم الاستعمار ـ إلى العرق الآري الذي استوطن بلاد الغال في أوروبا و وفد منها إلى شمال إفريقيا، و العنصر العربي الذي يعتبرونه وافدا على البلاد في غزوات همجية ما انفكت تتلاحق بعد الفتح الإسلامي، و استوطنت البلاد لتنافس أهلها الأصليين لقمة العيش، إلى أن جاء الفرنسيون (أبناء عمومة البربر) ليخلصوهم من وطأة الاحتلال العربي (…!) و من المؤكد أن هذه النزعة العنصرية ما تزال سائدة ـ إلى الآن ـ لدى بعض المثقفين المتأثرين بتلك الدراسات التي كانت تكرس هذا المفهوم لدى الجزائريين، و لم يدرس المجتمع الجزائري قط (في مقابل) كوحدة متكاملة انصهرت أجزاؤها بفعل عوامل فيزيقية، و اجتماعية، و ثقافية، صيرتها مجتمعا واحدا ذا ثقافة متجانسة العناصر في ثوابتها العامة، بحيث لم يعد فيها للأصل العرقي أي أثر بعد امتزاج ثقافي و اجتماعي ثم بنجاح باهر بفضل الإسلام الصادق للسكان منذ قرون عديدة و حتى الساعة.
من هنا يمثل هذا العمل أول محاولة علمية تتناول المجتمع الجزائري كوحدة ثقافية يفترض أن تكون ذات سمات مشتركة تطبع الشخصية الجزائرية بطابع خاص بقطع النظر عن الأصول العرقية لبعض أفراده، و ذلك انطلاقا من أن بحث الشخصية القومية عن طريق الثقافة لا يدخل في حسابه إلا العوامل الثقافية المكتسبة، أما العوامل العرقية فهي غير مكتسبة و بالتالي فهي غير ثقافية، و تسقط من حساب الباحث في الأنثروبولوجيا الثقافة.
3- من الأمور التي لا جدال حولها في الأنثروبولوجيا هو أن الثقافة هي المسؤول الأول على تحديد الشكل الرئيسي للشخصية القومية في أي مجتمع، و بالتالي يكون من الحتمي أن تختلف الشخصيات في بعض خصائصها باختلاف الثقافات، و طالما أن المجتمع الجزائري لم يعرف ثقافة واحدة طوال وجوده، فيكون من الأهمية بمكان تحديد السمات الأساسية للثقافة الغالبة التي كان لها دور الرئيسي في تشكيل الشخصية الرئيسية للمجتمع، و هي كما يقول رالف لينتون (Linton.R.) مجموعة من السمات الأكثر تكرارا بين أفراد المجتمع الواحد(1) ، و قد ميز الشكل الرئيسي للشخصية بأنه طابع يميز معظم أفراد المجتمع، و يتمثل في مجموعة من القيم و الاتجاهات العامة التي تتمركز في المستويات العميقة في شخصية الفرد، و تؤسس تلك القيم و الاتجاهات في الشخصية أثناء مرحلة الطفولة عن طريق اتصالات الطفل المستمرة و القوية بأعضاء أسرته ثم بأعضاء مجتمعه.
كما تؤكد العلامة روث بندكت (Ruth Benedict) أن النمط الثقافي يكون له رد فعله العميق في تركيب سمات الشخصية، و قد تعتري الشخصية بعض الأمراض و الانحرافات السلوكية نتيجة عدم التكيف مع الأوضاع الثقافية الجديدة أو المغايرة لثقافة الفرد، مما يحدث خللا حتميا في التوازن الاجتماعي(2) .
و انطلاقامن هذه المسلمة تتأكد لنا أهمية دراسة الشخصية الجزائرية في الوقت الحاضر، لما طرأ على الثقافة الجزائرية من تغيرات أهمها مرحلة الاحتلال، و الحروب التي تخللها، ثم مرحلة الاستقلال التي تشكل انتقالا كليا أعقبه تغير ثقافي كبير، و لاشك أن لتلك التغيرات أثرا على السمات الرئيسية الشخصية الجزائرية، ذلك أن الشخصية ليست شيئا ثابتا أبد الدهر، بل هي عرضة للتطور و التغير بنفس النسبة (التقريبية) التي تتغير بها الثقافة السائدة، طالما أن الشخصية منتوج ثقافي بالدرجة الأولى كما هو معلوم.
4- و لاشك أن إنجاز بحث علمي باللغة العربية حول الثقافة و الشخصية في بلد عربي كالجزائر، يعتبر (لإلى جانب كونه يخدم عملية التعريب المتواصلة في ا البلد منذ استرجاع الاستلال السياسي) إنجازا ثقافيا يضاف إلى رصيد الأبحاث العلنية باللغة العربية التي أخذت تتجه إلى التأصيل، و الاستقلال بموضوعاتها الخاصة، كما أكد على ذلك علماء الاجتماع العرب في مؤتمر النهوض بعلم الاجتماع في الوطن العربي المنعقد في الجزائر سنة 1973.
و يتبين مما حاولنا إثباته لأهمية دراسة الثقافة و الشخصية أن معالجة هذا الموضوع لا تترك مندوحة للباحث من التعرض له كسلسلة مترابطة من المسائل التي تتردد في علم النفس و علم الاجتماع و الأنثروبولوجيا على اعتبار أن مسائل الثقافة تضطر الباحث إلى الخوض في ميادين علم الاجتماع و الأنثروبولوجيا، في حين أن تناول الجانب المتعلق بالشخصية يدخل بالضرورة في نطاق (علم النفس الفردي)، و (علم النفس الاجتماعي).
و لذلك يمكن القول أن دراسة الثقافة و الشخصية تتكامل فيها هذه العلوم الإنسانية الثلاثة تكاملا كبيرا، و لعل هذا ما حدا ببعض العلماء أن يطلقوا على الثقافة و الشخصية كفرع جديد من فروع الأنثروبولوجيا الثقافة اسم (الأنثروبولوجيا النفسية) ذلك أن الشخصية هي مجموعة من الدلالات التي تكشف عن طبيعة الأفراد في أي مجتمع من المجتمعات، و لاشك أن طبيعة مرنة و متغيرة و قابلة للتبدل بفعل العديد من العوامل الاجتماعية و التاريخية، و من المجتمع التاريخ تنبع المصادر الثقافية لمكونات الشخصية القومية. فالإنسان حين يولد يجد نفسه مضطرا للتكيف مع بيئات فيزيقية و أخرى اجتماعية و ثقافية، و عليه أن يعايشها و يتلاءم معها، و لذلك يستند التفسير في تحليل الشخصية إلى تلك المكونات الثقافية على اعتبار أن البيئة الفيزيقية و الاجتماعية و الثقافية هي خصائص عامة يخضع لها سائر الأفراد في المجتمع، و هي القضية الأولية أو المسألة الجوهرية في نظرية الثقافة و الشخصية.
و لما كانت دراسة (الثقافة و الشخصية) تلتقي فيها الأنثروبولوجيا و علم الاجتماع و علم النفس، فيبدو أن صعوبة كبيرة تعترض طريقها، و تتمثل فيما يفرضه هذا الاتجاه الثقافي النفسي الجديد من ثنائية منهجية تطرح على الباحث تساؤلا لا مناص من تحديد الإجابة عليه، و هو؛ هل تبدأ الدراسة من الثقافة ثم تنطلق إلى معرفة السمات الأساسية للشخصية القومية أو الوطنية المتأثرة بتلك الثقافة.. أم على العكس من ذلك أي تبدأ الدراسة بالشخصية أولا ثم تنتقل إلى معرفة السمات الثقافية التي تكون الشخصية المشتركة و تطبعها بطابعها الخاص؟
و لذلك علينا منذ البداية أن نحدد المدخل الذي ننطلق منه لدراسة الثقافة و الشخصية، و هو الانطلاق من الثقافة لفهم الشخصية و ليس العكس، ذلك لأن الثقافة بعد رئيسي من أبعاد الشخصية، و في هذا الاتجاه يرى كلوكهون (klukhohn. C.) إننا إذا توصلنا إلى معرفة أنماط الثقافة السائدة، فإننا نحرر بالضرورة كسبا كبيرا و تقدما معتبرا في معرفة الشخصية.
و يقوم منهج دراسة الشخصية من هذه الزاوية في نظر هذا العالم على تحديد المادة الثقافية التي يمكن للباحث أن يصل إليها بدراسة القيم و فهم المنبهات و الدوافع الاجتماعية المختلفة(1).
و يدرس موضوع الثقافة و الشخصية كأحد فروع الأنثروبولوجيا الثقافية، و يتبع هذا الفرع المنهج العام للعلوم الاجتماعية و هو المنهج الذي يضفى خاصية العلم على فرع المعرفة الذي يتبعه، و يتميز المنهج العلمي، كما هو معلوم، بخصائص توجد في العلوم الطبيعية و العلوم الاجتماعية (و لو بكيفية نسبية) كالموضوعية و الدقة، و إمكانية التنبؤ، إلا أنه على الرغم من وجود هذه الخصائص المشتركة التي تميز المنهج العلمي عامة، تنفرد العلوم الاجتماعية بخصائص منهجية تفصيلية تجعلها تختلف عن العلوم الطبيعية، كما تختلف العلوم الاجتماعية بعضها عن بعض، في نوع و تطبيق البحث التي تستخدمها كل منها في أبحاثها. و فيما يتعلق بموضوع هذا الكتاب (الثقافة و الشخصية) فإنه يجمع بين طرق بحث الأنثروبولوجيا الثقافية، و طرق بحث علم النفس الشخصية، و تتخلص أهم تلك الطرق في ملاحظة السلوك، و دراسة سير الحياة، و تفسير الأحلام و الاختبارات الاسقاطية، و دراسة الأدب الشعبي… و تمشيا مع طبيعة المدخل المحدد لدراسة الشخصية الوطنية للمجتمع الجزائري من خلال الأنماط الثقافية السائدة، و اتبعنا المنهج التحليلي لمضمون الأمثال الشعبية و ذلك للأسباب التالية:
1- إن الأدب الشعبي من أبرز مظاهر الثقافة في المجتمع و أهم سجل لها رغم حركتها و تغيرها المضطرد، و هو نابع من واقع البيئة التي يعيش فيها المجتمع، و محفوظ، (في الذاكرة الشعبية) بلغة المجتمع المدروس، و بالتالي فهو يحافظ على السمات الأساسية لشخصية المجتمع، رغم كل التغيرات التي تطرأ عليها نتيجة العوامل المختلفة التي يتعرض لها.
2- للأدب الشعبي علاقة قوية بالنظام التربوي السائد في المجتمع، و الذي بفضله تنتقل الثقافة بكل مظاهرها المعنوية (كاللغة و الدين و أنماط السلوك الخلقي و ظواهر الفكر العليا بتصوراته و مقولاته..) و المادية (كالتكنولوجيا و المعارف العلمية و المهارات اليدوية و كيفية المعيشة) .. من جيل إلى جيل.
3- و للأدب الشعبي أيضا علاقة عضوية بلغة المجتمع المدروس، و اللغة كما يؤكد مالينوسكي (Malinowski. B.) هي أهم الظواهر الثقافية باعتبارها خاصية إنسانية، و من ثمة فهي مفتاح الثقافة في أي مجتمع، و معرفة الباحث للغة الأدب الشعبي في الجزائر بلهجاتها المختلفة تجعله يتفادى الخطأ الشائع الذي يقع فيه الكثير من الأنثروبولوجيين الذين يعتمدون على المترجمين و الشارحين(1) ذلك أن علم اللغة يثبت أن الكلمة ليست مجموعة من الحروف الجامدة و الأصوات الجوفاء، و إنما هي كائن حي يحمل الكثير من المعاني، و لا يؤدي الاعتماد على الترجمة الحرفية إلى التوصل إلى مضامين الكلمات، و فحوى اللهجات المتداولة داخل الوطن، و خاصة البربرية أو الأمازيغية منها.
4- إمكانية جمع اكبر رصيد ممكن من مادة الأدب الشعبي المتداول في المجتمع المدروس و تحليله، و إجراء المقارنة لملاحظة مدى التطابق في الواقع العلمي بين القيم المتضمنة في الأدب الشعبي، و القيم السائدة في أنماط السلوك المختلفة لأفراد المجتمع.
و فضلا عن الأسباب المذكورة فقد تبين أن أكثر الاتجاهات انتشارا في أبحاث الثقافة و الشخصية هو الاتجاه التحليلي للأدب الشعبي في مجتمع ما، و يقوم هذا التحليل على افتراضين اثنين:
أ- وجود شخصية رئيسية في المجتمع قيد البحث.
ب- إن التكامل الثقافي يميل إلى تأكيد نوع من الثبات، و لتماسك في الأدب الشعبي، و بالتالي يمكن لباحث استنتاج بعض السمات و خصائص الشخصية للمجتمع قيد البحث عن طريق تحليل المضمون لأدبه الشعبي.
و الخلاصة أن الأدب الشعبي يعبر ـ إلى حد بعيد ـ عن قيم و شخصية المجتمع صاحب الثقافة قيد البحث، و هي حقيقة أكدها الكثير من العلماء و منهم الأنثروبولوجي الكبير بواز (Boas. F.)(2) في كتابه (ثقافة كيوكيوتل ممثلة في الأساطير) و العلامة مارقوريت لانتيس (Marguerite L) في دراستها لبعض جماعات الإسكيمو في ألاسكا(3) و قد توصلت هذه العالمة إلى نتائج هامة تحدد السمات الرئيسية لشخصية تلك الجماعة، من خلال تحليل الأدب الشعبي السائد بين أفرادها، و هناك دراسات مماثلة كثيرة حول هذا الموضوع.
و بناء على تقدم فإننا التزمنا منهجين متكاملين في هذه الدراسة:
أولا: منهج تحليل المضمون الأمثال الشعبية ذات الطابع الشمولي المعبر عن القيم السائدة في مجتمع البحث و العاكسة ـ بشكل واضح ـ للسمات الأساسية للشخصية القومية لهذا المجتمع.
ثانيا: منهج الملاحظة المباشرة لسلوكات الأفراد داخل المجتمع داخل المجتمع باعتباره من أفضل المناهج المستعملة في الدراسات الأنثروبولوجية لمعرفة مدى مطابقة الموضوعات التي تتضمنها الأمثال الشعبية مع الحياة العملية و أنماط السلوك العام للأفراد الذين يمثلون تلك السمات الأساسية المراد اكتشافها و تحديدها في المجتمع الجزائري، و هو الهدف الأساسي من هذا الكتاب الذي يحتوي في قسمه الأول على دراسة نظرية للمنظور الأنثروبولوجي للثقافة و الشخصية، و تتناول في مجموعها: المفاهيم، و العلاقة الترابطية بين الثقافة و الشخصية، و ظروف النشأة التاريخية للأنثرويولوجيا النفسية و استقلالها كتخصص علمي قائم بذاته في إطار الدراسات الأنثرويولوجية المعاصرة، و استعراض أهم النظريات العلمية في دراسة الثقافة و الشخصية. كما يتناول في قسمه الثاني دراسة الشخصية الوطنية (أو القومية) للمجتمع الجزائري، و يحتوي على أربعة فصول تعالج في مجموعها المحددات الثقافية للمجتمع الجزائري كجزء أصلي و أساسي من المجتمع العربي الإسلامي. و كذا التراث الشعبي كمادة علمية لدراسة الشخصية القومية و حصر سماتها الأساسية، مع تحديد عناصر التراث الشعبي، و قيمتها العليمة في دراسة الأنثرويولوجية للثقافة و الشخصية.
إلى جانب معالجة الأمثال الشعبية لتحديد السمات الأساسية للشخصية (الوطنية) للمجتمع الجزائري، و إثبات شواهدها الثقافية، من خلال تحليل المضمون للأمثال الشعبية، و الملاحظة المباشرة لسلوك الأفراد الذين يمثلون هذه السمات. و قد توصلنا من خلال التحليل و الملاحظة المباشرة إلى حصر أهمها في أربع و أربعين سمة و هي مرتبة على النحو التالي:
1- الصراحة
2- حب الوضوح.
3- الصدق.
4- التمسك بالأصول (العرف المستقر).
5-الواقعية.
6- مقت الإدعاء و التظاهر.
7- القناعة.
8- سرعة التكيف مع الأحول المستجدة.
9- نشد الكمال و الحلول الجذرية.
10- المثابرة.
11- الجد.
12- سرعة المبادرة.
13- الإهتمام بجواهر الأمور.
14- التحدي.
15- المعاملة بالمثل.
16- التكتم و العمل في صمت.
17- مقت الثرثرة و الكلام الزائد.
18- الانطواء على الذات.
19- كره التطفل و الفضول.
20- الاعتماد على النفس.
21- الصبر.
22- عزة النفس و الأنفة.
23- الشعور بالمسؤولية و تقبل نتائج الأفعال.
24- التخطيط للمستقبل.
25- الاتعاظ من دروس الماضي.
26- الاتزان في إصدار الأحكام على الغير.
27- تقدير العامل المادي (المال) في حياة الإنسان.
28- التعاون على أساس المصالح المشتركة.
29- التدين.
30- الإيمان بالقضاء و القدر.
31- الاعتقاد في الحظ.
32- حب العدل و المساواة.
33- الوفاء و الاعتراف بالجميل لأهل الفضل.
34- المحافظة على السمعة و الاستماتة في الدفاع عن الشرف.
35- التأسي بالقدوة الحسنة.
36- التمسك بمطابقة الأقوال للأفعال.
37- حب العلم و المعرفة.
38- استحسان الكلام الطيب و التأثر به.
39- الحساسية، و عدم تقبل النقد.
40- العصبية (النرفزة) و سرعة الانفعال.
41- الاندفاع.
42- التعصب للرأي و الموقف.
43- الغرور.
44- حب الإشراف و الاستنكاف عن العمل اليدوي.
هذا و أملنا في الأخير يجد القارئ المثقف الوطني فيه ما يجلو عنه بعض الغموض حول بعض المفاهيم المتداولة في مجال الثقافة و السمات الوطنية العامة للشخصية. فالله نسأل التوفيق و هو خير معين.
الجزائر في : 10/04/1992
(1) Linton.R. the Culture bqckground of personality Appleton century Crofts Ins.N.Y.(1) 1945 p.123.
(2) Benedict. R. Pattems of culture. Pinguin N.Yn 1946 p.39.
(1) Klukhohn. C. and Murray. H. culture and personality a conceptual scheme. Reprinted from American anthropology. Sts. Vol 46.1944
(1) Miner. H. and Dovos. G. Oasis and casbah. Algerian culture and personality in change anthropological presse. Univ of Michigan N 0 5 1960
(2) Boas, F. Kwakiutlculture as reflected in thr mythology, memoirs of the american folklor society N.Y. 1935
(3) antrhopo- Lantis, M. Nunivak Eskimo personality as revealed in mythology logic papers of the Univ. of Alaska vol. 2, 1953
المصدر: موقع الدكتور أحمد بن النعمان