عرض كتاب الأنثروبولوجيا اللغوية
تأليف: أ.د عبدالعزيز راغب شاهين
إن الوافد الجديد لحقل الأنثروبولوجيا كطالب مبتدئ أو كهاو، والذي أصبح مهتمًا بالأنثروبولوجيا من خلال القراءة عن الشعوب التقليدية، وثقافتها، أو عن ثقافات ما قبل التاريخ، أو بالمشاركة في التنقيب عن الآثار أو بزيارة المتاحف والمناطق الأثرية، غالبًا ما تكون لديه فكرة غامضة أو جزئية عن الرؤية العامة لهذا الحقل. فالباحثون في هذا الميدان العلمي يخبرونا دائمًا، من حيث التعريف بالمقررات الدراسية للأثروبولوجيا، أنه يوجد خمسة فروع رئيسية لها، الأنثروبولوجيا البيولوجية، وعلم آثار ما قبل التاريخ، والأنثروبولوجيا الثقافية، والأنثروبولوجيا الإجتماعية والأنثروبولوجيا اللغوية. هذه الفروع الخمسة غالبًا ما تأخذ نفس القدر من الإهتمام في المقررات الدراسية .
أما الأنثروبولوجيا اللغوية يتم تجاهلها أحيانًا، وتبدو شديدة الخصوصية والهامشية بالنسبة لمجالات الإهتمام الأنثروبولوجي .
وعلى أي حال، فإنه من الملاحظ الآن، أن الإتجاهات المعاصرة في الأنثروبولوجيا تعطي أهمية متزايدة لدراسة اللغة، حيث تعتبر الأنثروبولوجيا حقلاً شاملاً للدراسة، وحيث تتعامل مع الجنس البشري في مظاهره البيولوجية، ومع الإطار العام للسلوك الاجتماعي للإنسان، كما تتعامل أيضًا مع إفرازات ومخلفات السلوك الإنساني المادي وغير المادي، ومع المفاهيم التي تشكل وتنظم سلوكه، وإذا تساءل الأنثروبولوجيون اليوم عن مكانة اللغة وسط كل هذا، فإن الإجابة يجب أن تكون أنها موجودة في كل مكان. وعندما يتحدث البشر، نرى في هذا الحديث نوعًا فريدًا واحدًا، والحيوانات تشمل على نوعًا آخر من الاتصالات البدائية، ولكننا، نحن البشر، عادة ما نستخدم كلمة “اللغة” عند وسيلتنا نحن في الاتصال.
فدراسة اللغة بوصفها مكونًا من مكونات الثقافة قد حظيت بنوع من الإهتمام الخاص، وأصبح لها علم مستقل يعرف بإسم “الأنثروبولوجيا اللغوية” ذلكالعلم الذي يدرس اللغة في علاقتها بالثقافة والمجتمع، وطرائق إستعمالاتها التي ترتبط بوظائفها الاجتماعية والثقافية، وفي علاقتها بالأنماط الثقافية ومعتقدات الناس بوجه عام.
كما تدرس الأنثروبولوجيا اللغوية، كيف يمكن للظواهر اللغوية أن تكشف عن هوية الفرد أو تنسبه إلى عضوية دائرة اجتماعية، أو جماعة دينية أو قرابية معينة، كما تكشف عن ثقافته بطبيعة الحال. وكما تركز أيضًا على دراسة التنوعات اللغوية ومشكلاتها، وموقع هذه التنوعات من اللغة النموذجية المشتركة، ومشكلات التواصل اللغوي بين الجماعات والمجتمعات التي تستخدم لغات مختلفة، والمشكلات التي تسببها الثنائية أو التعددية اللغوية في المجتمع الواحد، ومشكلات تعامل الأفراد لغويًا طبقًا للظروف والمناسبة والحالة( ).
ومن هنا إهتمت الأنثروبولوجيا اللغوية بدراسة السلوك اللغوي للجماعات الاجتماعية والثقافية في ضوء التفاعل بين المجموعات اللغوية والإجتماعية. وبهذا إستطاعت الأنثروبولوجيا اللغوية أن تشير إلى ظاهرتين مهمتين، تتمثل الأولى في إختلال الدور الوظيفي للغة في المجموعات اللغوية المختلفة، والثانية في إستعمال معايير لغوية متعددة في المجموعة الواحدة. وقد عبر “هاميز” Hymes عن ذلك بقوله: “إن اللغة ليست بحالة مماثلة في أي مكان في دورها التواصلي، وقيمتها الإجتماعية، ليس هناك إنسان عادي أو مجموعة إجتماعية عادية محصور مخزونها اللغوي في نوع واحد من المعايير أو ثابت ثبوتًا لا يتغير”.
ويشير الأنثروبولوجيون باستمرار إلى أن اللغة هي شكل أو نمط من أنماط السلوك المتعلم أو المكتسب، ولهذا فهي تعرف دائمًا بأنها مظهر من مظاهر الثقافة، لأن الأشخاص لا يمكنهم معايشة مدركات ومضمون الثقافة المحلية إلا عن طريق تعلمهم للغة الكلامية، والإشارات والمعاني المتضمنة في نسق الاتصال الخاص بجماعتهم المحلية وبنفس اللغة السائدة.
ويحاول هذا الكتاب أن يجيب عن التساؤلات المتعلقة بالأنثروبولوجيا اللغوية، والتي تتبادر إلى الذهن هنا، ومن أهمها، ما هو وضع اللغة في التراث الأنثروبولوجي؟ ، ما هي المدارس اللغوية التي إهتمت بدراسة اللغة في ضوء مضمونها الثقافي/ الاجتماعي؟ ، وما هي المدارس الأنثروبولوجية التي إهتمت بدراسة علاقة اللغة بالثقافة؟ ، هل البنائية منهج وأسلوب للدراسة والبحث يمكن تطبيقه على كل الظواهر الثقافية/ الإجتماعية؟ ، كيف إستطاع ليفي ستراوس تطوير منهج اللغويات البنائية لدراسة الثقافة، وخاصة عند تحليله لنسق القرابة ؟ ، ما هي أهم الإتجاه ات النظرية الحديثة في تحليل الإرتباطات بين اللغة والمضمون الثقافي؟ ، وما هي أهم مجالات الدراسة في الأنثروبولوجيا اللغوية؟ ، وما هي الطبيعة الإجتماعية والإقتصادية للغة والنقود كوسائل للتفاعل الاجتماعي؟ ، وما علاقة علم العلامات بالعالم اللغوي “دي سوسير ” ، ” وكلود ليفي استراوس ” ؟ .
وقد جاء هذا الكتاب في ستة فصول، تناول الفصل الأول دراسة المدارس اللغوية الإجتماعية والأنثروبولوجية ، ويتعلق الفصل الثاني ، بدراسة البنيوية كنظرية في المعاني العامة ، أما الثالث ، يتناول التحليل البنيوي لدى “كلود ليفي ستراوس ” ، أما الفصل الرابع يبحث الإتجاه ات النظرية والمجالات الدراسية الحديثة في تحليل الإرتباطات بين اللغة والمضمون الثقافي ، بينما يبحث الفصل الخامس ، الطبيعة الإجتماعية والاقتصادية للغة والنقود كوسائط للتفاعل الاجتماعي ، ونخصص الفصل السادس ، لدراسة موضوع علم العلامات في المدرسة الأوربية والأمريكية ، أما الفصل السابع فيختص بتحليل ودراسة التيارات الحديثة في مناهج التحليل الرمزي في درسات الأنثروبولوجيا اللغوية.