د. عبدالرحمن بن عبدالله الشقير
منذ أن كنت طالبًا في الجامعة وأنا أتابع إصدارات عالم الاجتماع اللبناني فردريك معتوق؛ وذلك لقدرته الفائقة على تأسيس منهجية بحثية تعالج كل ظاهرة من أربعة محاور هي: التراث العربي، والتراث الشعبي، ونظريات علم الاجتماع الحديثة، وأخيرًا إنتاج سوسيولوجيا جديدة لا تشبه غيرها، وقد تجلت هذه المنهجية بوضوح في كتابه “معجم العلوم الاجتماعية” (1993)، و”مدخل إلى سوسيولوجيا التراث”، و”سوسيولوجيا الحضارة الكنعانية” (2014)، و”سوسيولوجيا الفن الإسلامي” (2016)، و”العادات والتقاليد الشعبية اللبنانية” (1986).
يمتاز معتوق بأنه لا يقدم نقدًا لآليات فهم التراث ولا يرسم خارطة طريق، وإنما يؤمن بأهمية التراث في الواقع المعاصر، ثم ينصهر في داخل التراث ويعيد إنتاجه تطبيقيًا، كما أنه يركز بوعي وإدراك تام على بعث الروح في النص التراثي، وهذه مهمة نادرة أمام الكم الهائل الذي يثني على التراث ويطالب بالمحافظة عليه معلبًا كما وصلنا.
وقد استهوتني هذه المنهجية؛ لأني كنت مهتمًا بالمحاور الأربعة وأكتب فيها، وكان هذا التقارب سببًا في نشأة علاقتي الشخصية بأستاذي معتوق، وخاصة أن عالم الاجتماع الفرنسي الكبير بيير بورديو كان أستاذ معتوق في جامعة باريس، كما أنه كان موضوع أطروحتي للدكتوراه، ومن يعرف بورديو سيعرف أن له علم اجتماع خاص به يعرف بعلم اجتماع بورديو؛ وذلك لأنه أعاد صياغة جديدة لكثير من مفاهيم علم الاجتماع التقليدية، كما أن بورديو مولع بإنتاج سوسيولوجيا من التراث الشعبي والأنثروبولوجيا، حيث درس مجتمع القبائل الجزائري عندما كان مقيمًا بها، كما أن كلانا متخصص في علم اجتماع المعرفة.
والدكتور معتوق وإن كان ينتمي إلى جيل أساتذة أساتذتي إلى أنه من التواضع والسخاء العلمي بمكان يوصله إلى فتح قنوات تواصل علمية مع جميع أجيال علم الاجتماع.
وقد صدر كتابه “إنصاف التراث العربي” (2021) متضمنًا عشرة موضوعات، بدأها بمقدمة نقدية لاذعة، ولكنها صادرة من محب غيور، للتراثيين التقليديين الذين ينتجون المخطوطات ويجمعون دواوين الشعر العربي مكتفين بشرح معاني الكلمات والتعريف بالأعلام والمواضع، دون الغوص إلى فهم بنية الفكر العربي الذي أنتج فيه النص، أو علاقته بزمننا الحاضر، وقد تبين منهجه منذ المقدمة؛ حيث كانت جوهر فكرة الكتاب لتأكيد أن التراث لم تنقع صلته فكريًا بالواقع الآن، وأن المنتج العربي يحمل في طياته فكر رصين ونظريات راسخة، وقابلة للديمومة.
حمل الكتاب هم آليات فهم التراث والتعامل معه، بدأ بالقسم الأول بسؤال: كيف تعامل أصحاب التراث مع التراث؟ وبدأه بالتأكيد على أهمية التراث بوصفه منتجًا حضاريًا، وأنه منتج فكري وتاريخي في الوقت نفسه، وأنه علم نافع للاستعانة به حتى الآن، وأن رؤية بعض المثقفين والتراثيين الضيقة للتراث هي التي أساءت للتراث، وقدم نموذجين من التراث يراهما جامعين بين الفكر والتاريخ، هما:
الأول: كتاب “مشاكلة الناس لزمانهم وما يغلب عليهم في كل عصر” لليعقوبي؛ إذ يرى أن اليعقوبي عالم تراثي من جهة، ولكنه أيضًا: منتج مفعم بالحيوية، وأن اليعقوبي من أصحاب الفكر الجدلي العقلاني الذي يرى في كل موضوع أبعادًا نسبية اجتماعية مختلفة، كما هو الحال في مناهج العلوم الإنسانية المعمول بها الآن، وأنه مجدد للمعرفة العلمية؛ حيث يعتمد على بناء المعايير والاختبار على ملاحظاته ومعلوماته، وأخيرًا يصفه بأنه مبدع لا مقلد؛ وذلك لأن اليعقوبي استطاع أن يفرق بين الظاهرة الاجتماعية المتمثلة في أنها واعية وملاحظة المجتمع لها ومرتبطة بالمؤسسات، مثل الظواهر الاجتماعية المرتبطة بالتعليم والزواج والطلاق، وبين الظاهرة المجتمعية، وهي التي تتميز بتقبل المجتمع لها دون اشتراط لجوء الأفراد إلى تحكيم قرارهم لغير التقليد الاجتماعي، وجاء كتاب “مشاكلة الناس” لالتقاط ظاهرة مجتمعية دقيقة؛ وذلك لأن تقليد عامة الناس للنخب الاجتماعية غير المشروط كان قانونًا اجتماعيًا، ومن هنا استحق اليعقوبي لقب عالم حي بيننا، وليس علم تراثي، حيث أن نظريته صالحة للاختبار في كل مكان وزمان. وأخيرًا أشار مؤلف الكتاب إلى أن الكتاب حقق مرات عديدة بوصفه كتابًا تراثيًا، إلا أن تحقيق عبدالرحمن الشقير هو الذي أعطاه حقه من الدراسة ووضعه في سياقه التراثي والفكري الحديث.
والثاني كتاب “المقدمة” لابن خلدون، حيث وصف ابن خلدون ملاحظاته الاجتماعية بأنها “عمران” ويقصد به الثقافة بمفهومها الشامل للسياسة والاقتصاد والاجتماع والدين، وقد كان مبدعًا في التقاط البنية الذهنية وللمعرفة العادية غير العلمية للشعوب، وأن الشعوب تمتلك ما يسميه معتوق “العقل الجديد” الذي يولد المعرفة باستمرار وعبر الأجيال، وهذا الملحظ الدقيق لم يتنبه له كثير ممن أشاد بالمقدمة.
ويؤكد الكتاب على أن مفهوم “العصبية” عند ابن خلدون يشكل منظومة تفكير وقاعدة سلوك في الوقت نفسه، وهي تنطوي على منافع كثيرة، كما أنها تنطوي على مفاسد؛ وذلك بحسب موقعها في المجتمع والجماعة واستخداماتها السياسية والدينية.
وسؤال القسم الثاني: كيف يتعامل الغربيون مع تراثهم والمستشرقون مع تراثنا؟ وذكر فيه الأهمية السياسية والاستعمارية لكتاب “روح الشرائع” لمونتسكيو؛ وذلك لأنه يربط بين المناخ وعلاقته بنظام الحكم الرشيد أو المتخلف، وجاءت نظرياته مبررًا للاستعمار الغربي الذي قدم نفسه بأنه جاء لتطوير الشعوب المتخلفة وإنقاذها من تبعات التخلف السياسي والاقتصادي والحضاري.
ويقارن معتوق بين كتاب مونتسكيو (المتوفى عام 1755م) الذي ما يزال يدرس في جامعات الغرب بوصفه من التراث الفكري، وكتاب “طبقات الأمم” لصاعد الأندلسي (المتوفى عام 1070م)، الذي يعد عند العرب من كتب التراث، رغم أنه يحمل منهجية روح الشعوب التي حللها مونتسكيو بعده بسبعة قرون.
وفي فصل “عمى ألوان: عربي بعيون غربية تغريبية، يؤكد على أن تراثنا العربي ينطبق عليه المثل الشعبي “المال السايب يعلم السرقة”؛ ويقصد أن إهمال العرب للتراث العربي، ورؤيتهم المنقوصة له، جعلته مادة يدرسها الغرب، ثم يقدمها للعرب كما يراها هو، ثم نراها نحن بعيون غربية. ثم دخل معتوق في اشتباك نقدي ممتع مع بعض المستشرقين المعنيين بالفن الإسلامي ومحاولاتهم لطمسه، مثل: بازيليو مالدونادو، وأوليغ غرابار.
وينتقل الكتاب لعقد مقارنة منهجية معقدة بين موسوعتين ثقافيتين شهرتين، هما: الإنسكلوبيديا الفرنسية التي كتبها مجموعة من التنويريين في القرن الثامن عشر، وبتمويل من اكتتاب جمهور القراء الذين دعموا هذا المشروع ماديًا ومعنويًا، وبين “دائرة المعارف” التي أعدها المعلم بطرس البستاني في القرن التاسع عشر بدعم من الخديوي إسماعيل. ولكن تنتهي المقارنة بينهما بالعودة إلى منهج الكتاب، المتمثل في تأكيد أن الموسوعة الفرنسية استمرت كمشروع تراثي وفكري، بينما دخلت الموسوعة العربية ضمن دائرة التراث وصارت أثرًا بعد عين.
ثم ينتقل الكتاب إلى مسألة الهوية الإسلامية والعربية في الأندلس، والتي يتفاخر بها كل العرب والمسلمين، إلا أنهم، حكومات وشعوب وشركات ورجال أعمال، لم يقدموا ما يمكن تعزيزه من مراكز دراسات عربية في إسبانيا، أو دعم ترجمة التقارير والنشرات والمؤلفات عن الحضارة الإسلامية والعربية في الأندلس إلى اللغة العربية.
وفي آخر الكتاب يقدم المؤلف نموذجين درسا التراث بأدوات منهجية حديثة، وكانت صادمة لكثير ممن تلقوها، هما: دراسة طه حسين للشعر الجاهلي، ودراسة سحر مواس عن ثقافة القرن الثامن عشر.
ختام
التراث العربي عند معتوق، جزء لا يتجزأ من الحاضر، وهو جزء من الوعي الاجتماعي والسياسي، وهو أنموذجًا مثاليًا أعلى ومنارة هدى للفرد والمجتمع. رغم أن واقع التعامل مع التراث العربي ما يزال منفصل عن العرب فكريًا وملتصق بهم تراثيًا، ويشمل ذلك المشتغلين بالتراث أنفسهم، فهم أحد أسباب الأزمة بسبب دخولهم للتراث بفكرة مغلوطة.