موقع أرنتروبوس

ظاهرة العنف في المجتمع الجزائري

ظاهرة العنف في المجتمع الجزائري

د. علي سموك

جامعة باجي مختار عنابة/ الجزائر

مقدمــة:

في حرب دامت أكثر من عشر سنوات، خلفت الآلاف من القتلى وتدميرا طال مختلف بنى المجتمع الجزائري،تداخلت فيها الأسباب التاريخية بالأسباب الداخلية المتمثلة في بنية المجتمع الجزائري المفككة و القائمة على توازنات داخلية هشة، لتؤشر للممارسة العنفية على أنها نتاج البنية الاجتماعية الجزائرية ذات القابلية على توليد تلك الممارسات.    إن الطرح الفج لإشكالية العنف في المجتمع الجزائري أدى إلى مألات سلبية تجلت في الترويج لدوغمائية تبسيطية واهمة أوقعت الكثير من المهتمين في تحريفية فجة وساذجة للواقع طالت النظر و التصور، كما اخترقت مجال الممارسة العملية.

و مع إن جميع المناهج تلتقي حول توصيف المجتمع الجزائري و الدولة و المؤسسات الناتجة عنه، بأنها حشد من جماعات المصالح و عصبيات متعايشة تحكمها أعراف وتقاليد. لكن وصف الممارسة “العنفية” و تحديد أولويات الأسباب فيها مسالة معقدة جدا، و هي

حقل خصب للاجتهادات المنهجية على مختلف الصعد.

أولا: في إشكالية الفهم

إن التغيرات المتلاحقة في المجتمع الجزائري فرضت علينا ظاهرة التفكير و النشاط النقدي و هنا لا أضع خطا فاصلا بين الاجتماع و السياسة و التاريخ.

إن ولوج الباحث في ظاهرة العنف من باب علم الاجتماع يمكن أن يلقي بأضواء جديدة على طبيعة هذه الظاهرة و يبرز جانبا من سماتها التي يمكن أن تكون قد غابت عن نظر المتخصصين الآخرين. و بالتالي، إن الأمر قبل كل شيء، هو أن إشكالية العنف لا تحمل طابعا أكاديميا فقط و إنما سياسيا أيضا، ففيها تتقاطع و تنعكس أكثر المواضيع السياسية حدة في السياسة و الاقتصاد و الأخلاق و القانون و التاريخ و علم النفس و الموازين العالمية و الثورة العلمية و التكنولوجيا. (1)

وترتبط إشكالية العنف في المجتمع الجزائري على نحو وثيق بممارسة (صراع الفئات أو العصب) و بإستراتيجية حركة التغيير الاجتماعي، و هي تمس مباشرة المصالح الأساسية للفئات و العصب، و تخص بالتالي، مصير كل شخص و المجتمع الجزائري برمته.

إن تحليل ظواهر العنف في المجتمع الجزائري، أظهر تنوعه الشديد، و طابعه المتعدد الصور، الذي يصعب رده إلى أنماط محددة و قد اتضحت ولا شك بالكثير من الأمثلة، حالات من العنف مختلفة، منها ماهو مكشوف: حروب،اعتداءات، قتل،قمع بوليسي، وحتى بعض أشكال السيطرة الاقتصادية، ومنها ماهو خفي، مراقبة الحياة الخاصة، دمج مفروض تحكم بالسلوك، ومنها ماهو رمزي اللسان و النفس و العقل.

ولكن ممالا شك فيه،أن الإشكالية أكثر تعقيدا مما تبدو عليه للأول وهلة، فالعنف يبلغ من الوضوح في فرض نفسه كأحد تواثب الفعل الإنساني، بحيث يستحيل معه اذانته المسبقة باسم طبيعة الإنسان العاقلة، و قبل إجراء فحص عميق جدا بشان منشئه و أشكاله و مغزاه.

ولا نستطيع حقيقة أن نفهم لماذا يتعين على العلم أن يتوقف عند حدود الظاهرة و يحرم نفسه اجتياز تلك الحدود في محاولة لفهم ديناميكية العلاقات الاجتماعية و السياسية و الصراعية التي تدور على مستوى المجتمع الجزائري.

فعلى العكس قد يساعد اقتراب علم الاجتماع من هذا الميدان على تحديد قضية وجود علم الاجتماع في الجزائر الذي بقي لفترة طويلة أسيرا لتأمل هذا الموضوع، و لا يستطيع المرء في مواجهة تراكم الأبحاث المخصصة لدراسة السلوك السياسي و السلطة و الدولة سوى أن يعبر عن “دهشته” تجاه الابتعاد شبه المنظم عن دراسة البعد السوسيولوجي لظاهرة العنف.

و إذا ما نظرنا في القضية من زاوية أكثر تواضعا و أكثر تحديدا في الوقت نفسه سوف نكتشف أن تطبيق علم الاجتماع على قضايا العنف يمكن أن يكون مقيدا لأنه يتيح محاولة معرفة ذلك الكم الضخم و المعقد من الأحداث و الظواهر التي لايمكن فهمها على نحو صحيح إذا درسناها بطريقة معزولة عن بعضها البعض.

و لقد طرح العلماء المعاصرون العديد من التساؤلات حول ظاهرة العنف و ماذا تمثله؟

هل تمثل قانون الحياة أم انتهاك هذا القانون؟

أهي عدوة الإنسان و التقدم و النظام أو هي على العكس أساس هذه الأمور الضرورية و مصدرها؟ أهي وسيلة عقلانية للعلاقات السياسية أم أداة إفناء ذاتي؟ أهي نتيجة العادات المكتسبة و الثقافة أم تقررها بعض الغرائز الطبيعية و الفطرية؟ هل العنف إنعكاس للمرض ام هو إرادي للسلوك البشري ؟ أم هو انعكاس عادي و واعي إرادي يستطيع فاعله أن يتحمل نتائج ما يترتب عليه؟

وهل يستطيع المجتمع أن يستدرك و يزيل أسباب و مصادر العنف من الممارسة الاجتماعية أم أنها سوف تتلاشى من تلقاء نفسها؟

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، هل العنف يشير فقط إلى انطلاق قوى أم تراه يغطي ميدانا أكثر اتساعا بكثير، حاملا أوضاعا هادئة في ظاهرها و لكنها حبلى بعنف كامن؟ أم أن العنف يعم العديد من الميادين التي يكون فيها صراع القوى المتجابهة واقعا ضاغطا، و لكن دون أن ينطلق أبدا في مجابهة جسدية؟.

هذه الأسئلة مجتمعة تؤدي إلى بروز اختلافات شديدة في الواقع النظري. و لما تتمتع وقائع بمثل ما يتمتع به العنف من إلتحاق محزن بالأحداث الراهنة، لا لأنه ظاهرة حديثة، فقد يكون أقدم رفيق عرفه الإنسان.

يرى “فولن – Wolin ” : إن الإنسان هو الممثل الوحيد لعالم الحيوان الذي يلجأ إلى العنف، لكنه الوحيد الذي ابتكر مجموعة كبيرة من مناهج ووسائل العنف و كذلك نظاما بارعا لاستخدامها بهدف السيطرة على الآخرين و ضبط سلوكهم الاجتماعي. كما استطاع الإنسان ابتكار نظام بارع من القيم الدينية و المبادئ السياسية و الخرافات التي شرعت العنف و بررت استعماله يشتي الوسائل، و على مر العصور و بمساعدة الإيمان و الأفكار المسبقة التقليدية و المعتقدات المنطقية سائرة ببراعة كل الجوانب المظلمة، و الخسارة الناجمة عن استعمال العنف(2)

و لكن، إن كانت الصراعات و الحروب و المجابهات تملأ تاريخ الجزائر، فان ظاهرة العنف في العقد المنصرم من القرن الماضي، اتخذت طابعا جديدا أو مفارقا، لايستطيع أن يغفله الأخلاقي الذي يتأمل في السلوك الإنساني و لا السياسي الذي يدعي  توجيهه.

قد لايكون الطابع الجديد للعنف الذي يعرفه المجتمع الجزائري، لم يعد يقتصر على تلك القدرة الكثيفة على الظلم، أي تلك القابلية على قهر الكائن البشري في أعمق اعماقه، تحت ستار ضرورات تقنية أو اجتماعية تبتسط أمامه و كأنها مجتمعة، بل و مفيدة و لذا فعنف الجزائري  ضد الجزائري، يضيف إلى القدرة على الظلم النزعة إلى الإذلال.

إن الأفعال العنيفة الممارسة في المجتمع الجزائري بعقائديات و معان دينية و غير دينية، تعبر هي نفسها عن الاحتجاج على عدم قدرة منظومات المجتمع الجزائري على إشباع  الحاجات الجديدة أكثر مما تعكس الاعتراض عليها كما يبدو لبعض المهتمين بإشكالية العنف في المجتمع الجزائري.

و بالتالي، يبدو لي انه يجب توجيه النظر مباشرة إلى كشف منظومات المجتمع الجزائري الانثربولوجية، الثقافية، التاريخية، الفكرية، الدينية، السياسية، الاقتصادية، و العمل على تفكيكها للوقوف على أسباب توسع دوائر الاستلاب و الإحباط المفضية إلى الممارسة العنيفة التي تبدو كظاهرة تعبر سوسيولوجيا عن تطور الاستراتيجيات المتضاربة و المتصارعة على صعيد الدولة و المجتمع معا.

فنحن هنا في مواجهة ظاهرة تاريخية جديدة تتحكم فيها بنية السلطة الحديثة في البني القديمة و تحتويها و ليس العكس.

إن منطق الاجتماع الجزائري، هو إذن منطق النبذ، منطق التعدد، فالجزائريون يريدون مضاعفة التعدد.

والآن، ماهو الأثر الأقصى الذي يمارسه نمو القوة النابذة؟.

انه يواجه بحاجز لايخترق، و بأقوى عائق سوسيولوجي ممكن، إنها القوة المعاكسة، القوة الجاذبة، و نعنى بها منطق التوحيد منطق الواحد، فليس بإمكان المجتمع الجزائري أن يكون مجتمع الواحد لأنه مجتمع التعدد.

و بالتالي ، هل العنف مجرد انزلاق يترجم فشل المنظومة(بما هي ثابتة ) أم أن المنظومة لايمكنها الاشتغال من دون عنف؟.

ثانيا : في إشكالية المنهج

إن الطرح الفج لإشكالية العنف أدى إلى مالات سلبية تجلت في الترويج لدوغمائية تبسيطية واهمة أوقعت الكثير م، الثقافية، ن المهتمين في تحريفية فجة – (يرد الظاهرة إلى حقبة تاريخية محددة مرتبطة ببداية أعمال العنف السياسي عقب توقيف المسار الانتخابي سنة 1991 )-

و ساذجة للواقع طالت النظر و التصور.

و لا جدال في أن دراسة جدية للعنف في المجتمع الجزائري تتطلب اليوم دراسات شاملة للمعارف الملموسة و جهود العلوم المختلفة. و القضية هي: أن إشكالية العنف تحتضن مجموعة واسعة جدا من المسائل، ابتداء من تحرك السلوك الإنساني وآلياته و دوافعه و توجهاته.

إن محاولات الفهم التي تتوخاها العلوم الإنسانية لمقاربة العنف مليئة بالدلالات، فهي تسعى لان تبين العنف ليس حادثا عابرا و مؤسفا من حوادث الإنسان و حسب، بل هو يندرج في وضع مالووف من التوترات و المجابهات. لان العلاقات الإنسانية تقوم عادة على ارضية من الصراع و التناقضات و علاقات القوى. فالعنف يكمن فيها كتهديد دائم.

و أننا إذ نجمع إسهام الدراسات السابقة، نسعى هنا الى اعتبار العنف في المجتمع الجزائري، يشكل حالة من الصراع الدائم، و ان ذلك تمهيد ضروري لمحاولة صياغة تعريف يكون اكبر جانب ممكن من التكامل.

ونظرا لان إشكالية العنف في المجتمع الجزائري “جدالية ”

ذات طبيعة معقدة و متشابكة الأبعاد و الإحالات و الترابطات، و بالتالي تتحكم في إنتاج الخطابات حولها مجموعة هائلة و متداخلة من الرهانات العلنية و الضمنية و بين تصارع الأدوار و المواقع السياسية و الاجتماعية و من شروط الاستفادة المادية و الرمزية.

ثالثا: بنية المقاربة المنهجية المعتمدة

من الناحية المنهجية  يمكن اعتبار هذه الدراسة من حيث نوعيتها أو نمطها type d’étude من قبل تلك الدراسات المصنفة في خانة البحوث و الدراسات النظرية التحليلية théorique et analytique

و تندرج بدورها ضمن الدراسات الأساسية   fondamentales  في مدلولها العام و حقلها الشامل و ذلك نظرا لكون هذه الدراسة  بحثا تحليليا و نقديا للأسس و الخلفيات و التصورات الفكرية و الإيديولوجية التي يتأسس عليها خطاب العنف و أفعاله في المجتمع الجزائري.

أما من حيث حدود الدراسة فيمكن اعتبارها” مقاربة استكشافية، ذلك أنها لا تنطلق من فرضيات مدققة و معلنة، بل من ملاحظات و اعتبارات موجهة للدراسة، و التساؤل و الإجابة عليها عبر الممارسة و عبر قراءة أولية لظاهرة الموضوع، بالدراسة و التحليل. هذا مع وعينا بان هذه المنطلقات لاتخلو في أي دراسة مما يمكن اعتباره

” فرضيات ضمنية أو مضمرة، أما من حيث المرجعية التخصصية المعتمدة في المقاربة فإنها تتأطر ضمن التحليل السوسيولوجي للأنساق  analyse sociologique des systèmes

المنتمي إلى الحقل التخصصي لسوسيولوجيا العنف ” و ذلك بكل مايعتمد عليه هذا النمط من التحليل من جهاز مفهومي و من توجهات نظرية و منهجية متداولة إلا أن هذه الإحاطة التخصصية نود ألا يفهم منها حصر المقاربة في زاوية ضيقة منعزلة و ربطها بأية نزعة “سوسيولوجية اختزالية و متطرفة “، ذلك إننا حاولنا أن يظل التوجه التحليلي العام لهذه المقاربة منفتحا على فضاءات معرفية نظرية و منهجية أوسع، رغم إطاره التخصصي الموجه و هو ما أطلقنا عليه “المنظور السوسيولوجي المتعدد الأبعاد”

رابعا: المنهجيات المساعدة

ا- المقاربة التاريخية

من الصعب أن ننجح في فهم مصير التحولات الراهنة التي يشهدها المجتمع الجزائري بالاقتصار على تحديد الأسباب القريبة و المباشرة، و تجاهل الأسباب البعيدة، أو مايسمى أحيانا الأسباب التاريخية. و تستدعي هذه الطريقة تجاوز وصف الحالات الفردية لمظاهر العنف في المجتمع الجزائري، بل تستدع وضع التحليل الخاص و القصير في إطاره العام و في سياقه البعيد، ففي هذا التفاعل بين الخاص و العام و بين الراهن و التاريخي حاولنا أن نميز بين العوامل المختلفة و التي تحدد  مصير الظاهرة و درجة و نوعية تأثيرها.

و بالالتفاف إلى التفسير السوسيولوجي لوقائع التاريخ و ماوراء هذه الوقائع من نظم و انساق كانت قائمة في الماضي، و لم يبق لنا سوى “بقاياها”.

و في هذا الصدد لايمكن لأي ملاحظ جدي في الأزمة الجزائرية

أن يتجاهل ما يعيشه هذا المجتمع من مظاهر العنف و غياب الحريات الديمقراطية الفكرية و السياسية دون العودة التاريخية لاكتشاف الموقع الاستثنائي الذي تحتله الدولة في الخطاب السياسي و الصراع على السلطة و السياسة معا.

و لا يعني هذا أن العقائد و القيم و الثقافات لا تلعب

دورا كبيرا في التاريخ، بل ليس من الممكن تصور الطفرات التاريخية و الثورات الكبرى من دون تطورات فكرية و طفرات روحية مسبقة، لكن هذه الطفرات الروحية و الفكرية التي عرفها المجتمع الجزائري لم تتم في فراغ.

و هكذا، يرتبط تأسيس المعني و بناء الوعي التاريخي ذاته ومرجعياته المتعددة كما يرتبط بتعيين مصدر الفعل العنفي و تحديد غايته (4).

ب- المقاربة الانثروبولوجية

تتيح لنا هذه المقاربة تحليل و تفسير طبيعة الأنساق الاجتماعية و البني التقليدية و العصبيات المتصارعة و إشكالية الدولة التحديثية و آلية اشتغالها و علاقاتها بالطوباوية الدينية و القبلية.

و لفهم أسباب استمرار البني القبلية، فالمقاربة الانتربولوجية تتيح لنا فهم استمرار النموذج القديم و إخفاق نموذج الدولة الحديثة وحلول النخبات الريفية محل النخبات التقليدية و ما قاد إليه من احتدام للتنافس و الصراع و هياج عام في المجتمع.

و في هذا الصدد تشكل مقولات “العصبية الخلدونية ” و المفاهيم الانتربولوجية المرتبطة بالأقليات المهيمنة و القبلية، أدوات لفهم البيئة السياسية العليا و الممارسات العنيفة المنجرة عنها، وتساعدنا الملاحظة إلى إكتشاف الموقع الاستثنائي الذي تحتله الدولة في الخطاب و الصراع على السلطة و السياسة معا(5) .

ج- المقاربة التحليلية

إن هذه المقاربة تمكننا من فهم بعض الجزئيات الأساسية لظاهرة العنف في المجتمع الجزائري واليات اشتغالها في تشكل الظاهرة.

و هكذا، فان اكتشاف الأجزاء المخفية من خطاب ما أو ممارسة اجتماعية أو اثر ثقافي، ليقوم بعد ذلك الباحث، بفرز الأجزاء المخفية لمعرفة كيف تمارس دورها ضمن البنية العامة للظاهرة، و عندئذ نتوصل إلى إمكانية أكبر وفعالية أكثر  لمعرفة شروط إنتاج ثقافة معينة والوظائف التي تملؤها هذه الثقافة و تقوم بها في بلورة الأفعال العنيفة و الخطاب المبرر لها .

ومن خلال تحليل الأحداث المدرجة في جداول المعلومات و التكرارات يمكن استكشاف بعض أبعاد وملامح ظاهرة العنف و تحديد أشكالها الأكثر تكرارا.

و في إطار تفسير ظاهرة العنف لجأت الدراسة إلى البحث في العلاقات بين العنف الاجتماعي و عدد من المتغيرات الأخرى، كالتنمية الاقتصادية و إشباع الحاجات المادية و الحقوقية و التعبئة الاجتماعية المرتبطة بقضايا الهوية و المشاركة في السلطة.(6)

خامسا : دلالات و ارتباطات و أبعاد العنف في المجتمع الجزائري

يمكن الإشارة من البدء إلى قاعدة سوسيولوجية قد تبدو بديهية و لكن الإشارة إليها هنا أساسية حتى نبني استنتاجا على أسس منطقية، مفادها أن سلوك الناس و قيمهم ليست معطيات مجردة، إذ هي تحدد بالوجود الاجتماعي النوعي للبشر و الذي يتحدد بمتغيرات كثيرة.

وكما سبق ان نوهنا، أننا ندرك حدود هذه الدراسة من اجل الإحاطة بإبعاد إشكالية العنف في المجتمع

الجزائري، و منه إبراز بعض أبعادها و دلالاتها و ارتباطاتها المعقدة بمجمل التغيرات التي عرفها او يعرفها المجتمع الجزائري.

يبدو والعنف في المجتمع الجزائري واقعا معقدا متعدد الأشكال يصعب تطويقه و يملك من الانتشار و الاذى أكثر مما بمكن تصديقه لأول وهلة، لان الزمن الذي ظهرت وفقه مختلف الممارسات العنيفة هو أيضا نظام منطقي.

و تأسيسا على الحيثيات الأنفة الذكر و من منطلق أسئلتنا خلال بحتنا عن الاتجاه الذي تتطور ضمنه العلاقات بن المجموعات المتصارعة داخل الحقل الاجتماعي الجزائري.

و حيث افترضنا ضمنيا في هذه الدراسة أن الحركات الاجتماعية و المحاولات التغيرية المتبلورة في أفعال عنيفة،كانت و لا تزال تظهر بمثابة إستجابات للازمات القيمية و الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية و الثقافية الحادة.و من تم، إن التحليل الدقيق للممارسة العنيفة في المجتمع الجزائري- ذلك التحليل الذي ننعته بالسوسيولوجي- يمكن أن يقودنا إلى عدد من التعميمات.

المعقدة بمجمل التغيرات التي عرفها او غرفها المجتمع الجزائري   الأول:إشكالية العنف موضوعا سوسولوجيا

إن مقاربة ظاهرة العنف في المجتمع الجزائري ليست مجالا غير قابل للإعادة التشكيل و والتغير أو شيء ثابتا متحجرا على الدوام وفق منطق معرفي تبريري لهيبة سلطة ما في الحقل الاجتماعي الجزائري، فهي في نظري في تطور مستمر مع تطور الحياة الاجتماعية ذاتها وتتنوع في محتواها و أشكال تظاهراتها الكمية و النوعية. ومن هذا المنطلق لايمكن أن نفصل إشكالية العنف في موضوع سوسيولوجي العنف، وذلك لكل ما يعتمد عليه هذا النمط من التحليل من جهاز مفهومي ومن توجهات نظرية و منهجية متداولة. ذلك أننا حاولنا أن يظل التوجه التحليلي العام لهذه المقاربة. متفتحا على فضاءات معرفية نظرية و منهجية أوسع، رغم إطاره التخصصي الموجه و هو مما سميناه آنفا، بذلك المنظور السوسيولوجي المتعدد الأبعاد.

و بالتالي، لقد ظهر لنا العنف مرتبط ارتباطا لا تنفصم عراه عن فعل الجزائريين الفردي و الجماعي. فالعنف، هو القائم في كل منها كضغط يعيق آليات تكامل الفرد مع الجماعة، و الكامن في معظم الفعاليات الاقتصادية و العنصر المحرك لكثير من حالات التحولات الثقافية أو الانتقال من نمط اجتماعي إلى أخر، هذا العنف بمختلف تجلياته المادية و الرمزية يلعب دورا لا ينكر في حياة المجتمع الجزائري و صيرورته.

الثاني: العنف كأداة لإعادة تشكيل الحقل الاجتماعي

لا يمكن رد التغيرات في المجتمع الجزائري إلى سلسلة متعاقبة و متصلة الحلقات أكثر من حدوثها في شكل أزمات وقتية تتبحها مراحل إعادة تشكيل الحقل الاجتماعي.

إن أحد مظاهر العنف في المجتمع الجزائري الخاضع لعملية  تغير و تغيير مستمرة تقع بين ذلك التماسك الضروري و الاستمرارية المحتمة و بن تجسيد و انقطاع لا يقل ضرورة عنهما من جهة أخرى. لذلك نجد مثلا، أن الفئات الاجتماعية التي اقتلعت جذورها ووضعت خارج نطاق التماسك السائد(التقليدي المهيمن) و أبعدت عن التقاليد و الماضي، لتصبح جماعات عنيفة، لان وضعها الاجتماعي يضعها بمنأى عن التماسك الاجتماعي و في حالة رفض لكل استمرارية.

و تحت ظروف التغير الاجتماعي فان التفرقة بين الوسائل و الغايات لا يمكن أن تتم بسهولة. هذا فان الفرد و المجتمع يواجهان بمشكلة الاختيار بين القيم. حينما تصبح آلة العنف المحرك للآلة الاجتماعية، و بالتالي فان هذه الفئات لا تعرف سبيلا إلى البقاء من دون عنف.

الثالث: إشكالية الأصالة المفقودة و الهوية المشتتة

لقد وجدت الحداثة في الجزائر في مهمة التنمية، أحسن سبيل لضمان هيمنتها نهائيا في المجتمع و تعزيز مواقع الدولة من خلال توسيع دائرة سطرتها لتشمل المنظومات الاقتصادية و الثقافية و القانونية و التربوية، أي كل مجالات الحياة الاجتماعية. و بالتالي تحديد وسائل السياسة للقوة المهيمنة على هرم السلطة.

لقد بات واضح أنها دولة غير تمثيلية و غير ديمقراطية، فليس هدفها الأول تمثيل مصالح أغلبية المجتمع الجزائري و ليست قادرة على الفصل في الصراع بين المصالح الاجتماعية بالطرق القانونية.

إن هذا الوضع المتزامن مع وضع اقتصادي مأزوم، بلور انقسامية اجتماعية و ثقافية من نوع جديد أفضت إلى صراع من نوع جديد بين ثقافات و هويات صريحة. و بالتالي، إن العودة النكوصية للمؤسسات السلفية بمختلف تنوعاتها الثقافية ” والخصوصية في الهوية” بينت بجلاء فشل المؤسسات الرسمية الذي أراد الفعل التحديثي إرساءها في وسط اجتماعي و ثقافي غير وسطها مستعملا إياها كأدوات لإعادة تشكيل الحقل الاجتماعي منبعها إرادة الأقلية المهيمنة على الثروة و السلطة و منفصلة اجتماعيا عن بقية الفئات الاجتماعية الأخرى.

و من تم، فإن إعادة تنشيط الثقافة السلفية و مؤسساتها يمكن أن نطلق عليها مكانيزمات للدفاع عن الهوية في مواجهة فعل الاقتصاد و كأداة للتموقع في الحقل الاجتماعي. و في ظل هذا الوضع يؤدي “المقدس” وظيفة ربط الفئات المهمشة ببعضهاالبعض في وحدة أخلاقية تتجلى في رموز و طقوس. و بواسطة وسائلها أعيد تعريف المجتمع الجزائر و تصنيفه، و منه، “ساهم في تحويل الدين إلى حالة خاصة في الايدولوجيا”، و هذا ما فسر نمو الظاهرة الدينية التي اخدت مظهرا من مظاهر الاستراتيجيات المتضاربة و المتصارعة على صعيد السلطة و المجتمع معا.

إن هذا الوضع يتيح لنا فهم أفعال الجماعات الدينية التي تسعى إلى تغيير الواقع الاجتماعي نحو”المثال الديني للمجتمع”، عن طريق إعادة تشكيله بواسطة العنف المقدس.

الرابع: إشكالية بناء المجتمع المنشود

لقد تمظهر الفعل الدولاتي التحديثي، في تلك الممارسة” الأبوية المستبدة” للإدارة الاقتصادية التي “سلبت إرادات الأفراد و الجماعات”، طرح بحدة مشكلة الديمقراطية على مستوى الاختيار الاقتصادي و كيفية توزيع الثروة الوطنية، يبين بوضوح إرادة السيطرة على الضرورة الاجتماعية الكامنة في أفعال الدولة و ما قادت إليه من احتدام للتنافس و الصراع و هياج عام في المجتمع تحول إلى الممارسة العنيفة، بلغت الحدة في التطرف و كشف بجلاء عجزها عن إشباع الحاجات و المطالب الاجتماعية و يشكل في النهاية احد دلالات ضعفها الأخلاقي و السياسي و يفسر الميل الشديد و الدائم لديها-“كنوع من التعويض و إيجاد التوازن”- إلى تطوير القوة المسلحة العسكرية المستخدمة في اللعبة السياسية. و بتعبير أدق، تعزيز مواقعها ضد المجتمع.

إن هذا الموضع يفسر العلاقة الصراعية بين الدولة و المجتمع الجزائري الذي تحول إلى عنف فاعل في الحياة السياسية و أسلوب عمل الدولة و المجتمع يحمل دلالات مادية و رمزية تحول مع تراكم التناقضات إلى عنف منظم و مخطط يندرج في إطار الفعل و الرد عليه.

و بما ان التناقض كان كليا بين الدولة و المجتمع فقد لجأت  القوي السياسية و الاجتماعية إلى التعبير خارج النسق القائم ضمنيا لتوازنها. و من تم، يظهر للفئات المتشبعة بالايدولوجيا الدينية، أن المجتمع القائم فاسد و لا مستقبل له و بالتالي، يجب إزالة هذا المجتمع”تحقيقا للأمر الديني و التكليف الإلهي”. إن هذا المسعى تبلور في خطاب أسس لنفسه مرجعية واليات تفعيله بواسطة العنف.

الخامس: أزمة الدولة العصبية و إشكالية الشرعية

لم تعد أزمة المجتمع الجزائري و شرعية السلطة و إخفاقها في بناء دولة حديثة مجرد أزمة تحول عابرة، بل كانت في الأساس أزمة تحول شاملة على جميع الاصعد السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية.

و بدل أن تقوم الدولة بدور العامل الرئيسي على تجاوز التناقضات الاجتماعية و الفصل في الصراع بين المصالح الاجتماعية بالطرق القانونية. أو تحقيق التوازن في ما بينها، عملت العصبيات المصلحية على توسيع دائرة سيطرتها، لتشمل البيئة و القانون و الاقتصاد و الثقافة و التعليم، أي كل مجالات الحياة الاجتماعية، و بالتالي تحديد وسائل السياسة للعصبة المهيمنة على هرم السلطة في الجزائر، أضحت تثير المجتمع و تحرك الفئات و الأفراد المهمشين، و تملي عليهم بوعي أو من دون وعي سلوكهم و مواقفهم السياسية لمواجهة العقيدة العصبية المطلقة للدولة، و تبرر مقابل ذلك العقيدة التمردية للجماعات المهمشةالتي أضحت تتصور نفسها خارج الدولة او مختلفة عنها، ما يخلق لديها الرغبة في قلب الأوضاع باستخدام العنف، بعد أن فشلت في استخدام الفكر او الحجة.

كثيرا ما نادت القوى السياسية بالتعددية كأحد أبعاد الديمقراطية، بعد أن أصبحت مطلبا جماهيريا  إلا أن النظام الذي قام بتسييرها و المؤسس على التحالف المؤقت للجماعات العصبية المكونة له و هو

– التحالف بن العسكريين- المستندين إلى قوة جيش تضخم  باسم الدفاع عن الوطن، و أصحاب الريع المنظمين في شكل دولة مؤسسة على موارد النفط.

و في ظل غياب قيم السياسة و انعدام الرابط السياسي بين الدولة و مختلف الفئات الاجتماعية نجد ما يفسر لجوء هذه الأخيرة إلى إعادة الاعتبار لأنماط التنظيم الثانوية و شحنت “العصبيات و التضامنات التقليدية بالحياة و المعنى” ما أدى على مستوى المجتمع الجزائري إلى انتشار الفوضى المفضية إلى العنف و هدد على مستوى الدولة وحدة السلطة ذاتها، حيث أضحت عاجزة على السيطرة عليها فعززت سبل السيطرة و الإشراف و قوة الضرب العنيفة، بغرض إخضاع المجتمع برمته”للعصبية الحاكمة”، التي أصبحت سياستها و ممارساتها البيروقراطية استجابة مباشرة أيضا لمصالح مجردة من أية عقيدة اجتماعية أو وطنية ما ساهم في نمو العصبيات كبديل عنها و كبديل عن التعددية السياسية الديمقراطية بالمعنى الحديث.

لقد عزز هذا الوضع المأزوم” العقيدة التمردية العنيفة” لدى فئت اجتماعية-مستلبة سياسيا- تجاه واقع مادي و رمزي، قائمة على تدمير الدولة و مؤسساتها و عدم الاعتراف بها.

خلاصة

من خلال مجمل العرض السابق يمكن تأكيد نتيجة هامة: انه من الصعوبة بمكان، التعرض لإشكالية العنف في المجتمع الجزائري و مقاربتها سوسيولوجيا بالاعتماد على مؤشرات واحدة. و من ثم، فلا بد في مرحلة أولى من التمييز و الضبط داخل المؤشرات بالشكل الذي يعكس اختلاف تأثيرات الظروف التاريخية و الثقافية و الاقتصادية و الاجتماعية والسياسية و النفسية…، هذا إلى جانب التمييز بين الصور و الأشكال المختلفة للعنف في المجتمع الجزائري. و من هذا المنطلق يمكن تصنيف الأفعال العنيفة”استنادا إلى عدة دلالات”:

-اولها: دلالة صورة الفعل العنيف و طبيعته.

-تانيها: دلالة أهداف الفعل العنيف، و دوافعه،إذ يمكن أن يكون للفعل العنفي هدف إجرامي أو اقتصادي أو اجتماعي أو سياسي أو ثقافي أو ديني …

-ثالثها: دلالة طبيعة القوى التي تمارس العنف و موقعها في الحقل الاجتماعي الجزائري.

-رابعها: دلالة حجم الفاعلين في أعمال العنف.

-خامسها: دلالة درجة تنظيم الفاعلين الممارسين للفعل العنفي.

ومما تقدم يمكن القول: إن ظاهرة العنف في المجتمع الجزائري مركبة و متعددة المتغيرات، و من تم فالمفاهيم الدالة عليها تتسم بالعمومية والتعقيد. و من ذاك اعتمدت الدراسة منهجية متعددة الأبعاد، و ذلك نظرا لاتسام الظاهرة بالتعقيد و التداخل و تعدد صورها و أشكالها و تنوع دوافعها و أسبابها و تعدد مستويات ممارساتها. و في مرحلة ثانية، انه لا يمكن فهم العنف في المجتمع الجزائري من دون فهم بنية الدولة الجزائرية و تاريخ نشأتها و تطورها و إشكالية شرعية السلطة و مواردها و طبيعة التحالفات المتحكمة فيها.

و من ثم لا تبدو ظاهرة العنف في المجتمع الجزائري ظاهرة استثنائية و عارضة، بل يدخل-العنف- في صميم الوجود الفردي و الاجتماعي الجزائري.و بالتالي فان هذا الوضع يكشف حدود التسويغات الإيديولوجية و تبريراتها النظرية”االدوغمائية”من جهة، يحيلنا في الجهة المقابلة إلى نتيجتين هما على طرفي نقيض:

الأولى: إن المجتمع الجزائري لا يمكن أن يتغير من دون عنف، و بالتالي فان العنف هو مولد التاريخ و الخلفية المعقولة له.

الثانية: إن العنف هو العدو الألد و الشر المتفشي و هو الذي يندلع بصورة تلقائية و فجائية، لا علاقة له ببنية المجتمع الجزائري و عقله.وقد تم تشخيصه و رسم حدوده نهائيا و الذي يتحتم مقاومته قبل كل شيء.

و تأسيسا على ذلك، يمكن القول: انه رغم محاولة بعض الباحثين بناء نماذج نظرية للعنف في المجتمع الجزائري استند اغلبها إلى الدراسة الكمية للظاهرة ألا أن تلك النماذج التي خلصوا إليها، لا يمكن ان يطلق عليها مؤشرات للعنف في المجتمع الجزائري إلى جانب عدم التمييز بين الصور و الأشكال المختلفة للعنف مرده توخي منهجية البعد الواحد لتبرير معيار أو مقياس واحد للتصنيف لأسباب لا علاقة لها بالأحداث كوقائع في حد ذاتها.

المراجــع

1-     P. ANASART : IDEOLOGIES, CONFLITS,  POUVOIRS, ED.

,P.U.F  PARIS ,1975 ,P.148.

2-               W MACKENZIE : POUVOIR, VIOLENCE D ECISION , ED ,P.U.F PARIS , 1979 ,P-P.

125-130.

3-               G.ALBERT : LES FONDENENTS  DE  RECHERCHE ENSELOGIE CONTEMPORAINE, ED PLON PARIS 2000,P.85.

4-               IBID : P.102.

5-                IBID : P.206.

6-               T.WALHAIM : LAMEHODOLOGIE EN QUESTION ED., GALLIMARD ,PARIS ,2001

,P-P.85-175.

Exit mobile version