طقوس العبور للمولود
حالة المجتمع السعودي
عبدالرحمن بن عبدالله الشقير*
يقصد بطقوس العبور: المراسم الاجتماعية والعادات والتقاليد الشعبية التي يتبعها المجتمع أو الجماعة في حال انتقال أحد أفراده من حالة بيولوجية إلى أخرى مثل: الولادة والختان والبلوغ والوفاة، أو الانتقال من حالة اجتماعية إلى أخرى
مثل: الزواج والطلاق. وبالتالي ترتبط طقوس العبور بمنح القداسة الاجتماعية لدورة حياة الإنسان، والاعتراف بكرامته، إذ إن كل حالة من هذه الحالات تعد تغيراً أساسياً في حياة الأسرة، وتؤثر في المجتمع المحبط بها، ويكون لديها مجموعة عادات وتقاليد تمارسها عند كل حالة، تسمى طقوس العبور. وقد يتوسع مفهوم طقوس العبور ليشمل المراسم والإجراءات التي يقوم بها الفرد إذا التحق بجماعة دينية مثلاً، أو إذا انتهت قرية من موسم الحصاد، أو طقوس العبور المتبعة لدى الثقافات الفرعية، مثل الممارسات الاجتماعية الخاصة بمجموعات شبابية وقبلية وبلدانية.
ارتبط مصطلح طقوس العبور (ترجمته الفرنسية الأصلية Rites de passage، ويترجم في الإنجليزية إلى طقوس التكريس أحياناً Initiation Rites) بعالم الأنثربولوجيا الفرنسي أرنولد فان جينيب Arnold van Gennep لأنه أول من سك المصطلح في كتاب له يحمل المصطلح نفسه عام 1909. وحدد فيه ثلاث مراحل لطقوس العبور هي: المرحلة الانفصالية، وفيها يخرج الفرد من حالته السابقة، والمرحلة الكامنة، وفيها يكون الفرد بين حالتين، ومرحلة الاندماج، وفيها يكتسب الفرد وضعه الجديد، وفي كل مرحلة يعاد ترتيب الأدوار الاجتماعية.
يربط “قاموس مصطلحات الأثنولوجيا والفلكلور” الطقوس بمفهوم العادات الشعبية الذي قدمه سمنر، وأكد فيه أن العادات الشعبية هي قوى أساسية في داخل المجتمع، تنمو لا شعورياً، وتتقبلها الجماعة لا شعورياً، وتتضمن اتجاهاً معيناً في التفكير والسلوك. وهذا يؤكد على أن هذه الطقوس تسير بقوة التاريخ، وأنها تفرض طقوسها على الرغم من عدم عقلانية بعضها.
من الدراسات الحديثة القليلة عن هذا الموضوع، كتاب “طقوس العبور في الإسلام: دراسة في المصادر الفقهية” (2009) لعبدالرحيم بوهاها، درس فيها خمسة طقوس من منظور إسلامي اجتماعي هي: طقوس العبور في الولادة والختان والبلوغ والزواج والموت، وهي دراسة مقارنة بين التشريع الإسلامي لهذه الطقوس والتطبيق الاجتماعي للتعرف على التدين الشكلاني في المجتمعات الإسلامية، ويرى المؤلف أن كلمة الشعائر هي المرادف الأقرب لطقوس العبور.
لماذا طقوس العبور؟
يبدو أن المجتمع يمنح بعض مراحل حياة الفرد أهمية خاصة، بحيث يقيم لها مناسبات تمارس فيها عادات وتقاليد إما بدوافع دينية أو بدوافع اجتماعية، وذلك لأن الولادة والزواج والوفاة مثلاً ذات صلة مباشرة بكرامة الإنسان، ومقياساً للتحول الاجتماعي الذي يؤكد على انتقال الفرد من مرحلة إلى مرحلة جديدة تؤثر اجتماعياً واقتصادياً على الأسرة، ومن ثم لا ينبغي أن تمر دون الاحتفاء بها أو تأبينها فيما يخص الوفاة، أو منحها حق الاعتراف من خلال طقوس تقام لهذه المناسبات.
للإنسان وظيفة اجتماعية، إذ يشعر فيها بالتضامن الاجتماعي، وأن عليه واجبات ينبغي أن يلتزم بها مع المجتمع، تتمثل في أداء الطقوس نفسها للآخرين، وقد عدها المجتمع حقاً عليه مثلما كانت من حقوقه على المجتمع، وفي حال إخلاله بشيء من طقوس العبور تجاه المجتمع، كالحضور أو تقديم الهدايا أو التهنئة أو التعزية، فإن علاقاته بمن قصر في حقهم سوف تتأثر وتتعرض للاختلالات، وتكون مهددة بالقطيعة إذا لم يبرر تقصيره ويعتذر عنه، بشرط أن يقبل اعتذاره.
سوف أشير إلى نموذج واحد من طقوس العبور، وهو طقوس العبور للمولود، واتخذت حالة المجتمع السعودي بوصفها نموذجا للدراسة، للتعرف على حجم التفاعل الاجتماعي بين شبكة العلاقات لحالة تغير بيولوجية المتمثلة في حالة ولادة للأسرة السعودية.
طقوس العبور للمولود
في المجتمع السعودي تراث ضخم من التفاعل الاجتماعي والمنتج الأدبي والمعرفي المتعلق بطقوس العبور، موثقة بتعاليم الدين وبفتاوى العلماء وبالأمثال الشعبية والشعر الشعبي والعادات والتقاليد المتوارثة، وتختلف طقوس العبور بحسب المنطقة الحضرية أو الثقافة البدوية والمناطقية، وسوف تشير المقالة إلى طقوس العبور في حالة الولادة، وهي المرحلة الأولى التي يعبر فيها الإنسان إلى الحياة مصحوباً بطقوس اجتماعية تتبع عادة مع أي مولود جديد، كما يلي:
طقوس المولود
ثمة مجموعة مستويات اجتماعية ودينية لطقوس العبور في الولادة، إذ يكون للمولود التسمية والأذان في إذنه اليسرى والإقامة في أذنه اليمنى وتحنيكه بتمرة، وختانه، وذبح عقيقة له، تتمثل في خروفين إذا كان المولود ذكراً وخروف إذا كان المولود أنثى، وشراء ملابس كالمهاد والحبل الذي يلف به المولود حتى ينام دون أن يصيب عينيه بحركة يده، وسرير وأدوات تنظيف خاصة به. وبعض هذه الطقوس المتبعة تستند إلى أحاديث نبوية صحيحة وبعضها ضعيفة من التراث الإسلامي، وبعضها تكتسب حضورها من توارثها شعبياً، وتحرص بعض الأسر المتدينة قديماً أن تعرض مولودها على عالم دين أو زاهد لتحنيكه بتمره والأذان والإقامة في أذنيه، اعتقاداً منها بأنه ينبغي أن يكون الأذان والإقامة هي أول ما يسمعه المولود، لينال البركة، ولوجود حديث يؤكد على أن الشيطان يهرب عند سماع الأذان.
تختلف طقوس العبور من مجتمع إلى آخر، إذ نجد أن كثيرًا من مناطق المجتمع السعودي لا تقيم أي طقوس ومراسم لمرحلة الختان ولا مرحلة البلوغ، وهما حالتا عبور أساسية في كثير من المجتمعات الأفريقية مثلاً، في حين تذكر “موسوعة التراث التقليدي في المملكة” بأن بعض مناطق الجنوب تقيم طقوس عبور وتقيم الاحتفالات لعملية الختان، وتوليه أهمية كبرى في حياة الطفل المختون، وتضفي على تحمله للألم معاني الشجاعة، ويبدو أن عملية الختان بهذا الشكل تتأخر إلى سنوات، مما يوحي بأن بعضها مجموعة عادات منقولة من أفريقيا، كما هو الحال في بعض الفنون الشعبية.
كان المرض يعصف بالمواليد والأطفال، لذلك تحرص الأسر على إنجاب أكبر قدر ممكن من الأبناء، وتجد الأسرة التي تتكون من عشرة أبناء وأكثر، غالباً ما يكون توفي لهم مواليد، وقد يفسر هذا ظاهرة وجود مقبرة في كل حي تقريباً في الرياض فيما مضى.
يصاب المولود بأمراض متعددة، بعضها مؤقت ويمكن علاجه بالتطبيب الشعبي، وبعضها قاتل، ولكل مرض نوع من العلاجات المتعارف عليها، ولها متخصصون فيها وغالبيتهن من النساء، ومن أشهر أمراض الأطفال المواليد: “عظيم”، وهو نتوء عظم اللهاة قليلاً، ويتم إرجاعه لموضعه بالإبهام، و”صفار” وغالباً ما يتم تعريض المولود لشمس الصباح والغروب لعلاجه.
يرتبط بالمولود مسألة تسميته على شخصية مرموقة في المجتمع، وغالباً ما يعلن الأب عن الشخص الذي سمى ابنه عليه أثناء تجمعهم على العقيقة، وبالتالي يتطلب الحال من الحضور أن يثنوا على قرار الأب، ويمدحون الشخص المسمى عليه، ومن ثم ينبغي على هذا الشخص أن يقدم هدية للأب تسمى “السماوة”، وفي حالات أخرى يسمي الأب مولوده باسم شخص يربطه به علاقة صداقة طويلة، أو رد جميل لموقف سابق.
طقوس الأم
أما طقوس الأم فتبدأ مع الحمل، إذ يراعى نفسيتها وتقلب مزاجها، وغالباً ما تشتهي أشياء لا عقلانية أو غير معتادة منها، سواء في أشياء غذائية أو اجتماعية، ولذلك يقول المثل الشعبي “شهوة حامل”، تسمى في هذه الحالة “نسو”؛ لأنها تتنسى بشيء معين ولا ترتاح حتى تحصل عليه على الرغم من بعض المشقة في بعض الطلبات. وتتمثل غالبية طقوس الأم في تغير الأحكام الدينية، إذ بعد الولادة تمنع من الصلاة أربعين يوماً، كما تمنع من الصوم والحج ومن لمس المصحف، وتسمى المرأة في هذه المدة النفساء، وشعبياً تسمى نفاس.
كما أن عليها ملازمة وليدها، وإرضاعه رضاعة طبيعية. وكان من طقوس المجتمع في المرحلة التقليدية إذا قل حليب الأم ولا يوجد بدائل صناعية، أو إذا توفيت الأم أثناء الولادة، أن تعهد به إلى مرضعة من أقاربهم أو معارفهم، ويكون الطفل المولود ابناً لمرضعته وأخاً لأولادها من الرضاعة، إذا رضع خمس رضعات مشبعات، ولهم أحكام فقهية مثل تحريم الزواج منهم، ويكون محرمًا لبناتها، وكان المجتمع بلجأ للمرضعات اضطراراً، يقول المثل الشعبي “ريح الام ولا لبن المرضعات”.
تستعد الأم طيلة مدة نفاسها لاستقبال وفود المهنئين، وهي الفترة التي تتلقى فيها هدايا للمولود تسمى “الرفاعة”، وقد كانت ملابس للمولود وأدواته، أو مبالغ نقدية كانت توضع على ملابس المولود، ثم صارت تلف مع باقة ورد. ويبدو أن سبب تمسك الزائرين بدفع مبالغ نقدية مباشرة وليس عينية، يعود لكثرة الأعباء المالية على الأبوين في المرحلة التي سبقت عملية الولادة.
تحتاج الأم إلى طقوس رعاية لها، خاصة في المولود الأول والثاني، لعدم خبراتها ولعجزها البدني والصحي، لذلك تنتقل بمولودها إلى منزل والدتها للحصول على رعاية أفضل، وتتركز طقوس الأكل في كثافة التوابل والأعشاب الطبيعية التي تؤخذ مع الأكل والشرب، ويتوفر هذا لدى محلات العطارة، التي تنتشر في المدينة، وتتمايز بالخلطات المناسبة للأمهات الجدد.
ويلحظ أن ظاهرة غذاء الأم التي وضعت مولودها حديثاً تختلف بحسب اختلاف البيئة الاجتماعية، إذ يذكر بحث عن “طقوس العبور عند عرب الرشايدة” أن الأم تغذى باللبن وبالسمن، وذلك لقداسة البقر والأغنام في حياتهم، وهذه العادة الغذائية منتشرة بين كثير من القبائل السودانية. بينما تغذى الأم بالعسل في المناطق التي تشتهر بإنتاج العسل الجيد، مثل حضرموت، فهو يدخل في كثير من طعامها وشرابها بعد الولادة.
ترتفع مكانة الأم التي تنجب مولوداً ذكر، ومن عادات المجتمع الشعبية أنهم يدعون للزوج الجديد عند إقامته لوليمة العشاء الأولى بمناسبة زواجه، يقال له بعد الانتهاء من الأكل: أنعم الله عليك، جعل فالكم ذكر. أي أول مولود لكم يكون ذكر. وذلك لارتباط الولد بالمهام الصعبة كالقتال عند التعرض لقطاع طرق ولصوص، وارتباطه باقتصاد الأسرة الذي يتطلب منه الأسفار المتكررة، وقد يفسر المثل التالي جزء من هذه الظاهرة: “البنات همهن الى الممات”، وذلك فيما يبدو لارتباطها الكبير بمسألة شرف الأسرة، ومن ثم يعفيها المجتمع من كثير من المهام التي تتطلب منها الاحتكاك بالمجتمع مما قد يزيد نسبة تعرضها لمواقف قد تخل بشرفها، حتى لو لم تكن مسؤولة عنها، ومن ثم فإن المهام التي تسند على الولد أهم من مهام الأنثى، يقول المثل الشعبي “البنت تبنة، والولد لبنة”، أي أن الولد أساسي في عملية البناء كاللبنة، بينما الأنثى ثانوية كالتبن، وهو أعواد خشبية هشة مخلوطة بطين تستخدم لردم الفراغات بين اللبن الذي يمثل البلوك للبناء.
طقوس الأب
من عادات كثير من الأسر أنه إذا كان المولود ذكراً فالذي يسميه والده، وإذا كان المولود أنثى تسميها أمها، ومن طقوس الأب أن يقدم هدية لزوجته بمناسبة طلوعها من النفاس، وتسمى “الطلاعة”، وغالباً ما تكون طقم ذهب. وذلك لأن الأم تقضي هذه المدة في بيت أهلها، خاصة عند المولود الأول والثاني، وبالتالي تتطلب العادات أن يرسل لأهل زوجته مؤنة غذائية كافية عند ذهابها لأهلها، وهدية الطلاعة عند عودتها لمنزلها.
طقوس الجيران
يتمثل في مجتمع الجيران والأقارب الذين عليهم طقوس الزيارة وتقديم الهدايا للمولود وللأم، وغالباً ما تكون الزيارات مصحوبة بقهوة مع مرفقاتها من الحلا والمعجنات، إضافة إلى وجود متعهدات بفطور يومي من بر لإعادة بناء جسد الأم، أو تقام ولائم عشاء وغداء لعدم إرهاق أهل المولود. ويلحظ وجود ظاهرة التبادلية في الهدايا والزيارات، حيث يتطلب من الأم أن ترد الزيارات والهدايا بمستوى ما تلقته من الزائرات بدقة كبيرة، فعليها أن تحفظ من زارها وعدد الزيارات وقيمة الهدايا المادية، لأنها ملزمة أدبياً برد الطقوس دون إخلال بمكانة أحد، ولا رفع من مكانة من خفض مستوى تقديرها.
التحولات في طقوس الولادة
كانت الأم تلد مولودها في منزلها بإشراف من قابلات أو نساء الحي بالخبرة، ثم صارت الولادة تتم في المشافي، وتطورت مجالات الصحة، وصارت الأم تتابع حملها من قبل قرار الحمل، مع متابعة طبية دقيقة والتعرف على نوع الجنين، وقد كان في السابق يعرف نوع المولود في لحظة ولادته. كما كان الأهالي يتأخرون في ختان أطفالهم، ثم صار يعرف جنس المولود منذ الشهر السادس، وصار ختان الذكور يجرى في المشافي بعد الولادة. وقد أسهمت متابعة الحمل في تجنيب الأسر كثير من المشكلات الخلقية للجنين. وبدأت بعض الأسر مؤخراً بإعادة إنتاج فكرة الولادة المنزلية، وذلك بعد تأكد الحامل طبياً من سلامة الولادة، فإنها ترتب غرفة خاصة بمنزلها، وتكون الولادة تحت إشراف طبيبة متخصصة.
بواقي طقوس العبور
يشهد المجتمع تحولات كبيرة وكثيرة في طقوس العبور في الميلاد والزواج والوفاة، من خلال إلغاء أو إضافة بعض الطقوس التي تناسب روح العصر والتقدم العلمي وشكل العلاقات الاجتماعية، كما أضافت الأجيال الجديدة مجالات جديدة لطقوس العبور مثل: عيد الميلاد السنوي والخطوبة أو الملكة والطلاق والتخرج الدراسي، وغالباً ما تتكون من تحديد مكان وزمان يحددها المحتفى به، ويدعو من يحب، وبدورهم يقدمون الهدايا ويشاركونه فرحته ويستعدون لذلك بلبس رسمي أو مناسب لنوع طقوس العبور التي سوف تمارس. ويبدو أن ذلك يؤكد على أن طقوس العبور مرتبطة بكرامة الإنسان، وأن عليه أن يحتفي بنفسه في كل مناسبة، فهي من أهم مناسبات دعم الثقة بالذات والشعور بالأمان الاجتماعي بقرب الأهل والأصدقاء.
*دكتور في علم اجتماع المعرفة من السعودية