من الطقوس المعروفة في شمال أفريقيا بمختلف أنحائها ومناطقها سواء الناطقة بالأمازيغية أو بالعربية العامية، الطقس المعروف بـ(تاغنجا) أو تاسليت أونزار (بزاي مفخمة) أي عروس المطر الذي يعد من أقدم الشعائر الاستسقائية، ويهدف إلى استمطار السماء حين تكون الأرض والمحاصيل مهددة بالجفاف والتلف وشح المياه. وتتشابه طريقة ممارسة الطقس بعناصرها الرئيسية في مختلف المناطق، ولم يتم تسجيل إلا اختلافات شكلية طفيفة جدا في ما بينها.
عموما حسب العرض المفصل الذي قدمه عنها المستمزغ الشهير إميل لاووست Emile laoust في مؤلفه القيم: Mots et choses berbères حيث أفرد قسما مهما من هذا الكتاب لكيفية أداء شعائر (تاغنجا) عبر بلدان وقبائل شمال أفريقيا، وهو ما سنقدم عنه ملخصا موجزا، محاولين إبراز السمات المشتركة بين هذه الطقوس، ومساءلة رموزها، وبحث دلالاتها والميث Mythe المفسر لها بهدف استخلاص الرؤية التي تنطوي عليها:
طقوس (تاسليت أونزار) أو تلغنجا :
تتمثل طقوس (تاسليت أونزار) أو تلغنجا/ تاغنجا في التطواف بمغرفة (أغنجا) مكسوة بزي عروس «تاسليت» في موكب تشارك فيه النساء والأطفال، يرددون الأهازيج والأدعية، ويطوفون عبر الدواوير والقرى والأضرحة، وفي الطريق يتم رش الدمية بالماء من أعالي البيوت من قبل السكان، ويتم تحصيل واستلام العطايا والصدقات من الأهالي، حيث تخصص موادها لتهيئة مأدبة طقوسية تقام قرب مجرى نهر أو على بيدر، أو في مزار، أو على قمة مرتفع حسب المناطق. هذه هي الخطوط العريضة لهذا الطقس، لكن بالطبع هناك اختلافات ضحلة في شكل الدمية والمواد التي تتخذ منها العروس أو كسوتها، أو في لقبها والأهازيج التي يتم ترديدها، ومن أمثلة ذلك أنه في (أيت بعمران) بجنوب المغرب تحمل الدمية المسماة تلغنجا من قبل فتاة متبوعة بأخريات يرددن بالأمازيغية (البربرية): أتلغنجا نومن س ربّي والّي إيزكان أد اغ إيغيت (يا تلغنجا نؤمن بالله القادر على إغاثتنا)، فيرش السكان الدمية والموكب بالماء، وفي (أيت بوزمور) تحمل النساء المغرفة متقاطعة مع قصب ومزينة بعقد حيث تتخذ هيئة عروس1. وفي غرب الجزائر ترسم امرأة ملامح وجه الدمية/المغرفة بواسطة الكحل على ظهرها المقبب، وتزينها بأثواب وحلي، فتسند مهمة حملها إلى امرأة مسنة في طليعة الموكب الذي يردد الأهازيج أثناء طوافه، ويسكب عليه السكان الماء، ويقدمون لهم العطايا. وتسمى الدمية في القبايل بالجزائر بالاسمين معا (تاغنجا أو تاسليت أونزار).
ورغم أن الدمية تتخذ في الغالب من المغرفة (أغنجا) مكسوة بزي العروس، أو قد يكتفى بمغرفة أو ملعقة مطبخ بسيطة أثناء التطواف (كما هو الحال بتونس في جربة، أو مزاب بالجزائر…)، فإنه قد يستعاض عن المغرفة بأشياء أخرى كالقصب أو القمع، أو المسحاة2، ولكن هذه الدمى ورغم اختلاف ما صنعت منه، فإنها تظل تحمل إسم غونجا أو تلغنجا أو تاسليت أونزار.
ففي أيت سغروشن بالوسط المغربي تصنع الدمية من قمع فوق قضيب، ويغطى بغطاء الرأس، وقلادة تحملها أثناء التطواف. وفي منطقة الريف بالمغرب الشمالي يتم إلباس مسحاة على شكل عروس تسمى (تاسريت أونزار)3، وبإيبقّوين بنفس المنطقة تحمل الدمية إلى عين ماء، حيث تسقى من قبل أعضاء الموكب مرددين׃ «أربّي ارحم أغ س وامان أونزار» بمعنى يا ربّي ارحمنا بغيثك، ويتم في النهاية تجريدها من ثيابها، وغرسها في ركام الأزبال، حيث تظلحتى يبللها المطر.
الميث المرتبط بطقوس تاسليت أونزار׃
كل الباحثين الذين عرضوا لهذه الطقوس ووصفوها لم يوردوا في سياق دراستها، أو التعليق عليها أي ميث (أسطورة) مؤسس لها، باستثناء جونوفوا Genevois الذي عثر على رواية شديدة الأهمية دونها من قبيلة أيت زيكي منطقة القبايل الجزائرية، رغم أن بعض من كتب في الموضوع لمح إلى إمكانية أن يكون قد وجد ثم ضاع.
فهذا لاووست Laoust المعروف ببحثه الاتنوغرافي المطول في هذا المجال يدرك أن هذه الطقوس الزراعية المقترنة بالتجدد والبعث، تأتلف فيها عناصرميث لم يتمكن الأمازيغ حسب رأيه من بلورته، إذ يذهب إلى أن «الشعوب الأخرى غيرهم، قد تمكنت من أن تستخلص من طقوسها الزراعية المرتبطة بنمو النبات والخصوبة شخوصا رمزية بارزة جليلة على غرار IsisوDemeter وOsiris و eus وغيرها»4، وهو نفس الرأي يشاطره تقريبا هنري باسي Henri Basset، إذ يذهب بدوره إلى أن الطقوس الزراعية من مثل زواج تاسليت/الأرض بـ(إيسلي أنزار) لدى الأمازيغ قد «أفسح المجال للميث على نحو مثير (لدى شعوب أخرى طبعا)، إذ أبدعت مصر وسوريا واليونان وآسيا الصغرى حول موضوعات من هذا الصنف أعظم وأكثر الدورات الميثية (الأسطورية) اكتمالا مما نقلته إلينا العصور القديمة. أما لدى الأمازيغ، فلا ميث، لا شيء سوى الطقس، إنهم لم يعرفوا- حسب اعتقاده- كيف يستخلصون من هذه الممارسات السحرية المحاكاتية التي يعينون بها قوى الطبيعة على إتمام عملها التخصيبي والبعثي إلها أو آلهة أو بطلا يمتلك فعليا شخصيته المحددة أو أسطورته..».5، لكن هذا الرأي لم يمنعه من القول بأن ورود بعض عبارات أو كلمات في اللغة، من مثل تاسليت أونزار (وهو الاسم الذي يطلق على الطقس المذكور كما يطلق على ظاهرة قوس قزح في لغة الأمازيغ) قد يشير إلى ميث لم يتح له التطور، أو بالكاد ولد ثم اختفى، وهو ما يجعله يتساءل׃ هل تكون تاسليت أونزار(أي قوس قزح) هي الطريق الذي يسلكه أنزار للالتحاق بعروسه الجديدة؟
غير أن هنري باسي H.basset يسقط في فخ الأحكام القيمية التبخيسية، فيصرح بأن «الأمازيغ ومع كل ما لديهم من عناصر بناء الميث، إلا أنهم لم يتعدوا أساسات البناء، وتركوا الحجارة مبعثرة.»6.
أما قريبه روني باسي René basset فهو ينطلق بدوره من أسماء قوس قزح لدى الأمازيغ، وهي تاسليت أونزار مع اختلافات فونيطيقية طفيفة من منطقة إلى أخرى، والتي تعني بالعربية (عروس المطر)، ويرى فيها أثرا لميث مفقود، إذ يقول: «فقوس قزح ينظر إليه على أنه عروس المطر، وهذا الميث يرتبط بالكيفية التي يتم بها استثارة المطر لدى الأمازيغ بالمغرب الكبير»7 أي طقوس تاغنجا التي استعرض شعائرها لدى بعض القبائل.
فهؤلاء الباحثون يكادون يتفقون على أن طقوس تاغنجا تنطوي على عناصر الميث Mythe، لكنهم عوض الإقرار بمحدودية مسحهم الاثنوغرافي، وتجشم مشقة البحث عن بقاياه التي توحي بها المعطيات اللغوية كما لاحظوا ذلك، أطلق بعضهم العنان للتهم المتسرعة التي يجدر بالباحث الاثنولوجي أن ينأى عنها قدر المستطاع.
أما الميـث المعــني الـــــــــذي دونه Genevois فهذا نصه׃
«في قديم الزمان، كان شخص اسمه أنزار، وهو ملك (سيد) المطر، أراد الزواج من فتاة رائعة الجمال تتألق حسنا على الأرض كالقمر في السماء، وكان وجهها ساطعا وثوبها من الحرير المتلألئ، وكان من عادة هذه الفتاة أن تستحم في نهر فضي البريق، وكان ملك المطر كلما هبط إلى الأرض، يدنو منها فتخاف، ثم تعود إلى السماء، لكنه ذات يوم قال لها׃
ها أنا أشق عنان السماء
من أجلك يا نجمة بين النجوم
فامنحيني من الكنز الذي وهبته
وإلا حرمتك من الماء
فردت عليه الفتاة ׃
أتوسل إليك يا ملك المياه
يا مرصع جبهته بالمرجان
إني نذرت نفسي لك
بيد أني أخشى الأقاويل
وبعد سماع هذه العبارات قام من عليها، فأدار خاتمه، فنضب النهر على الفور، وجفت آثار الماء. فأصدرت الفتاة صيحة وتفجرت عيناها بالدموع، فالماء هو روحها، فخلعت ثوبها الحريري وظلت عارية، فخاطبت السماء قائلة׃
أنزار يا أنزار
يا زهر السهول
أعد للنهر جريانه
وتعالى خذ بثأرك
في تلك اللحظة بالذات لمحت ملك المطر، وقد عاد بهيئة شرارة برق ضخمة فضم إليه الفتاة، وعاد النهر إلى سابق عهده في الجريان، فاكتست الأرض كلها اخضرارا».
ويضيف المخبر في سرده للميث׃ «هذا هو أصل تقليد (تاسليت أونزار)، ففي ظروف الجفاف يتم الاحتفال بانزار، والفتاة التي تختار له كعروس بالمناسبة تقدم له عارية»8.
هذه الأسطورة أو الميث يثير بعض الملاحظات نوردها كالتالي:
1- أولا طبيعة العلاقة بين الميث والطقوسrites التي يفسرها، إذ تجعلنا نتساءل أيهما أسبق، هل الميث Mythe سابق و الطقوس تجسيد له، أم الطقوس سابقة والميث جاء لشرحها، بمعنى هل وجد ميث (تاسليت أونزار) أولا، وشخص من قبل الأفراد في شكل طقوس هي عبارة عن لوحات من أدوات وحركات تهدف لإعادة بناء علاقة وجدانية مع أنزار في الظروف التي تستدعي تدخله أو استعطافه، عبر تقديم فتاة عارية تحاكي عروسه الميثية، أم أن الطقوس سبقت، وحيكت الأسطورة لترجمتها إلى مقولات، بحيث تشكل مجرد انعكاس إيديولوجي يوفر مستندا و أساسا له.
إننا هنا في الواقع نثير قضية طالما شغلت الكثير من الباحثين الأنتربولوجيين منذ لانغ حتى مالينوفسكي، مرورا بدوركايم وبرول وفان درلوي، وقدموا بشأنها وجهات نظر مختلفة، لكنها تدور حول محورين رئيسيين يختزلهما السؤالان اللذان طرحناهما آنفا، لذلك فإنه من الصعب إيجاد جواب لهذه المسألة التي باتت مسألة عقيمة، مثلها مثل السؤال ما هو الأول׃ الدجاجة أم البيضة بتعبير أحد الاثنوغرافيين.
2-في تعريفه للميث ذكر ميرسيا إلياد Mercea Eliade أنه يتكون من׃
أولا من رواية أفعال قامت بها كائنات عليا (أنزار والفتاة الأرضية في نصنا).
هذه الرواية تشكل قصة حقيقية بإطلاق (لأنها تتعلق بحقائق يؤمن بها الأفراد أو المجتمع الذي يتداولها).
وتتعلق دائما بخلق شيء جديد، فهي تحكي لنا كيف جاء شيء ما إلى الوجود، وكيف وضعت قواعد لمسلك معين أو مؤسسة معينة أو طريقة معينة لأداء عمل، إن هذا «الخلق» لهو السبب الذي من أجله تكون الأساطير النموذج المثالي لكل فعل بشري محمل بالمعنى.
وإننا إذ نعرف الأسطورة (الميث) فإننا نعرف أصل الأشياء، وتبعا لذلك نصل إلى السيطرة عليها، والتحكم بها حسب إرادتنا: «أصل المطر، هوية البرق…في نصنا»، لكن هذه المعرفة ليست مجردة، بل يمكن أن تعاش طقسيا، إما برواية الميث احتفاليا، أو بأداء الطقس الذي يعطيها المبرر9.
وميث تاسليت أونزار الذي نحن بصدده تنطبق عليه كثير من عناصر هذا التعريف، إذ يعبر عن حقيقة مطلقة بالمعنى الإليادي، ويعتبر نموذجا قابلا للتكرار، لأنه يشكل مثالا للأفعال الإنسانية، لذا يعاش طقسيا بواسطة شعائر (تاسليت أونزارأو تاغنجا) التي يشرحها، أو يفسرها، ويشكل خلفيتها الميثية.
3- يتقاسم البطولة في هذا الميث شخصان׃ أنزار ذو الأصل السماوي الذي يتم تشخيصه في الميث على أنه ملك أو رب المطر، والذي يتم التوجه إليه بتلك الصفة في الأهازيج المؤداة في موكب (تاسليت أونزار) كما سنرى لاحقا في طقوس أيت زيكي (مصدر الميث). الشخص الثاني في الميث هو الفتاة الحسناء التي تتوقف حياتها على الماء الذي يجود به الملك أنزار (أكلّيد أنزار) وتمثل عروس المطر (تاسليت أونزار)، كما ترمز للأرض «الأم» التي يخصبها مطر السماء حسبما وصفت به في إحدى الأغاني التي ترددها النساء في طقس أيت زيكي حين ينهين طوافهن بالعروس حول الضريح׃
أيها الملك المطر
انهارت الأرض الأم
من أجلك تمسكت بالصبر
أو تمثل صنوها أو بالأحرى ضرتها، كما يرد على لسان الفتاة المجسدة لها في نفس الطقس׃
أنا والأرض ضرتان
تزوجنا برجل دون أن نراه
أثداؤنا جافة
فكيف بامكانها أن تدر؟
فاتصال أنزار السماوي والفتاة الأرضية هو المسؤول عن الخصوبة والاخضرار، بما يعني أن هطول المطر إنما ينجم عن زواج كوني بين أنزار، الماء المطري السيد الملك (وضمنيا الإله)، ذي القدرة على الإخصاب كما يوصف في نفس الأغنية الطقسية، وعروسه (الأرض) ׃ تاسليت أونزار، أو ما يتماهى معه.
4-وفي قبيلة أيت زيكي المشار إليها، وهي المنطقة التي التقط منها هذا الميث بالقبايل بالجزائر، يتم الاحتفال بطقوس تاسليت أونزار بهذه الطريقة التي وصفها جونوفوا Genevois10׃
تقوم سيدة مسنة من القرية تحظى بالهيبة والحب بين قومها بتزيين فتاة على أنها عروس أنزار تاسليت أونزار، وتسلمها مغرفة أغنجا، وطيلة مراحل التطواف تردد العروس صيغا وأهازيج مطالبة بتدخل أكليد أنزار، منها׃
أيا أنزار المغرفة يبست
اختفت علامات الخضرة
عروسك تتوسل إليك
أيا أنزار لأنها ترغب بك
وخلال الجولة يتم رشها بالماء، ومنحها عطايا، ويتوجه الموكب الذي يكبر بانضمام أعضاء آخرين خلال تطوافه إلى أحد الأضرحة والمزارات، وهو يردد׃
أنزار!أنزار!
أيها الملك كف عنا الجفاف
كي ينضج المحصول على الجبل
وينمو منتوج السهل
وفي المزار يتم تهييء طعام من المواد المحصلة، وبعد ذلك تجرد المرأة المسنة العروس من ثيابها، وتلفها عارية بإحدى الشبكات المستخدمة لنقل ضمات السنابل والعلف للدلالة على أنه لم يعد هناك في الأرض أثر لعشب أخضر، حيث تطوف الفتاة حول الضريح سبع مرات، وهي تمسك بالمغرفة في يدها، بحيث يكون رأس المغرفة (أغنجا) أمامها كما لو أنها تطلب ماء، ثم تردد واهبة نفسها لرب المطر׃
يا سيد الماء، امنحني الماء
إني أهب روحي لمن يريدها
وتنتهي طقوس (تاسليت أنزار) باجتماع الفتيات البالغات سن الزواج حول الفتاة المجسدة لعروس أنزار، ويبدأن بلعب ما يشبه لعبة كولف أمازيغية يعرف باسم زرزاري، أو تاكورا، أو شيرّا، أو أوجّا في مناطق أخرى. وهي لعبة جد منتشرة بوطن الأمازيغ (بشمال أفريقيا)، وهي ذات طابع طقوسي مرتبط بالمطر والخصوبة، ويتم فيها اللعب بكرة من الفلين، أو من عظم، أو خشب، أو صوف، بمضارب وعصي، حيث يتم التنازع عليها حتى يتمكن أحد اللاعبين أو اللاعبات (في هذا الطقس) من إسقاطها في حفرة، إذ تمثل الكرة المرمية في الحفرة البذرة المزروعة11، فإذا حدث ذلك (دخول الكرة إلى الحفرة) تردد العروس والفتيات أهازيج أخرى.
وتختم الطقوس واللعبة بدفن الكرة حيث الحفرة، وتولي النساء أدراجهن إلى بيوتهن قبل غروب الشمس.
وكما يتضح، يمثل الطقس محاكاة فعلية للميث السابق، إذ يهدف إلى استمطار أنزار، وإثارة فعله المخصب عبر التأثير فيه جنسيا، وتقديم عروس عارية له تمثل العروس الميثية التي يحكي عنها الميث.
وفي هذا الطقس بالذات يلاحظ اقتران تاغنجا (المغرفة) بالفتاة العروس التي تطوف بها، غير أن التركيز يقع على الفتاة أكثر مما يقع على المغرفة، وهذا يعزز الافتراض بأن الدمية المحمولة «تاغنجا» ربما تكون مجرد صورة أو تمثال يراد منه أن يحل محل عروس حقيقية يمثلها، وتقدم إلى سيد المطر كما يؤكد الميث، ومما يدعم ذلك، الطقس المعتمد في إيبقّوين بجبال الريف المغربي الذي تقدم عرضه، والذي يتم فيه في نهاية أدائه تعرية الدمية العروس (تاغنجا)، وغرسها في مزبلة حتى يبللها المطر (أنزار)، بينما تعمد مناطق أخرى إلى توظيف فتاة حقيقية في شعائرالاستمطار، كما هو الحال في إيساكن12 بجنوب المغرب مثلا، حيث يتم الاستعاضة عن المغرفة بما تمثله أي صبية يتيمة يتم التجوال بها منسدلة الشعر، ومقيدة اليدين خلف ظهرها إذ تتقدم بها النساء مرددات׃ أمان، أمان أونزار أي الماء، ماء المطر، وتعملن على إبكائها كما بكت العروس في الميث لاستثارة المطر (أنزار)، وفي منطقة تامجيلت، وهي منطقة جبلية بجبل بويبلادن التابعة لفيدرالية قبائل أيت جليداسن بوسط المغرب يؤدي السكان بعد منتصف النهار من رأس السنة طقس «تيسليت ن واسيف» (أي عروس النهر) حيث تختار أجمل بنات القبيلة، لتقوم بقطع الوادي خمس مرات وشعرها مكشوف، يرافقها الناس بدعوات للاستمطار، وتجدر الإشارة إلى أن النساء في نواحي أكادير بجنوب المغرب كن يذهبن في الماضي أثناء الجفاف إلى ضفة واد سوس، وهن يرددن الأهازيج، ويتجردن من ثيابهن، ويظللن عاريات، حيث يحاولن استثارة المطر، فهن بذلك يعشن طقسيا الميث، ويكررن فعلا أسطوريا قامت به عروس المطر المستحمة في النهر عارية في الميث، حيث أثارت غريزة الملك أنزار الذي أغدق عليها من سائله، فاخضرت الأرض. إنهن يتخلصن بالميث المستبطن، وعن غير وعي، من الزمن الكرونولوجي، ويستعدن الزمن الميثي الذي جرى فيه الحدث البدئي׃ أي الزمن الأسطوري المقدس.
لقد أجمع كل الباحثين على الوحدة المثيرة لطقوس الاستسقاء (تلغنجا) بشمال إفريقيا، لأنها ترتبط بنسق رمزي واحد ومتشابه، وتستند إلى خلفية ميثية قديمة، ورؤية كونية أمازيغية واحدة لعلاقة السماء بالأرض، ولموقع الإنسان في هذا العالم، وهي طقوس تتفق كلها على إضفاء مواصفات العروس على الشخصية المركزية فيها سواء أكانت فتاة أم بديلا لها (المغرفة) بتزيينها بالحلي، وتشخيصها برسوم بشرية، وحملها كعروس حقيقية في موكب مناظر لموكب الزفاف الإنساني نحو زوجها أنزار، ويتم رشها في الطريق بالماء كما يتم بالنسبة لعروس حقيقية في احتفالات الزفاف الأمازيغية. وما يزيح الشك تماما هو كون أنزار ذاته يحضر في موكب الدمية، ويحمل اسم أركاز ن تلغنجا (زوج تلغنجا) في طقوس إينفضواك، ففي قرية تاسمسيت13 بالمغرب تطوف عجوز بدميتين تمثل الأولى (تلغنجا) العروس، وتصنع من مغرفتين متقاطعتين، والثانية زوجها (أركاز ن تلغنجا)، وتصنع من مدق يتم إلباسه خرقا سوداء تشبها بالسماء السوداء الملبدة بالغيوم، وخلال التطواف تردد بعض النساء׃ أتلغنجا ماكّم إيلان ؟( أتلغنجا من تزوجك؟) فيرد البعض الآخر׃ أمان أونزار أكّم إيلان (ماء المطر تزوجك). ويمثل المدق الذي يستعمل في هيكل زوج تلغنجا صورة للقضيب Phallus وعلامة ذكورته، إلا أن «العضو الجنسي ممثل ومستعمل طقوسيا في هذه الحالة لا باعتباره عضوا تناسليا، بل باعتباره عضوا مفرزا للسائل الذي يتماهى رمزيا مع المطر»14 إذ ينظر إلى المطر «أمان أونزار» على أنه سائل ينجم عن التقاء أنزار سيد المطر أو السماء أو زيجته المقدسة مع الأرض الأم، كما يفرز الزوج السائل المنوي بعد اتصاله بالعروس، لذا وجب محاكاة هذه الزيجة الكونية المقدسة (hiérogamie)׃ (سماء- أنزار/ أرض- تاسليت أونزار) طقوسيا لاستسقاء الأرض بالسائل المطري بواسطة إتاحة اقتران تاغنجا ممثلة عروس المطر وبديل المرأة والأرض العذراء غير المخصبة، بزوجها «أنزار» سيد المطرالمشخص للمبدأ الذكوري السماوي المخصب.
إن هذه الزيجة الكونية كوسموغونيةCosmogonie، وبيوغونية Biogonie15 في الآن ذاته، حيث تجدد خلق الحياة عبر سقي الأرض، وإخصابها، وتحقيق تواصل سماء- أرض مجسدا بقوس قزح الذي يسمى عموما في أغلب المناطق الأمازيغية باسم تاسليت أونزار (عروس المطر) والذي يعتقد في (إيمسكّينن) بنواحي أكادير مثلا أنه ملتقى الأرض والسماء. فقوس قزح (تاسليت أونزار) بألوانه المتعددة كألوان ثوب العروس، وكما يدل على ذلك إسمه، يمثل في الكوسموغونية الأمازيغية القديمة الأرض، وقد زفت لأنزار الذي خصبها.
وتجدر الإشارة إلى أن قوس قزح يعرف في العربية العامية المغربية باسم (عروسة الشّتا)، وهو ترجمة حرفية لتسمية (تاسليت أونزار)، وهو تركيب لا يمكن فهمه استنادا إلى خلفية ثقافية أو أسطورية عربية، بل إنه يحيل على المتخيل الأمازيغي، والجذور الميثولوجية الشمال إفريقية، مما يؤكد كون الثقافة الشعبية المتداولة لدى الناطقين بالعامية العربية في المغرب، بل وفي المغرب الكبير بأكمله في كثير من عناصرها، إن لم نقل في أساسها الانثروبولوجي تمتح من المطمور الميثي الشمال الإفريقي القديم.
ميث تاسليت أونزار والزواج البشري:
بما أن كل ميث كوسموغوني يعتبر ميثا نموذجيا بامتياز، فإنه يشكل نموذجا للسلوكات والأفعال البشرية كما بينا أعلاه حسب ميرسيا الياد، لذا اعتبر القران البشري بمثابة محاكاة للزواج الكوني المقدس16، وطقوس الزواج والسلوك الجنسي للبشر تصبح ذات بنية كونية لأنها تعيد إنتاج الزواج المقدس، وتحديدا اتحاد السماء (ممثلة باله المطرأنزار) والأرض، حيث يتماهى الزوج والزوجة بكل من السماء والأرض، فيصير العريس سماويا والعروس أرضية، وهذا يتيح لنا فهم الكثير من المسلكيات والطقوس المؤداة في احتفالات الأعراس الأمازيغية والتي منها «رش العروس بماء العيون المكرسة لذلك أو جعلهن يستحمن في الأنهار، وهي طقوسيات تؤدى في نقاط كثيرة من بلاد الأمازيغ، ويعرف يوم ممارستها في حفلات الزفاف في الجنوب بـ(أسّ ن تاركا ׃ يوم الساقية) حتى في الأنحاء التي اندثر فيها هذا التقليد تقريبا(مثل ايحاحان)، ففي ايداوكنسوس (بسوس جنوب المغرب) مثلا تصل العروس ليلا إلى بيت زوجها، وفي الفجر تقاد نحو ضفة الساقية «تاركا» فيدخل العريس يديه في الماء، ويسقي عروسه ثلاث مرات ثم يرشها على صدرها بذلك الماء17، وتفعل العروس نفس الشيء، وفي إيمجّاض (تيزنيت) تؤدى نفس الشعيرة وأثناء العودة يتم رش العروس بالماء من قبل الأطفال، وفي تاناتامت (ايداومارتيني بسوس)18 يستحم العرسان الجدد في الساقية، ويتراشون بالماء كذلك. في بعض مناطق الجنوب الشرقي يسمى هذا التقليد باسم أسّ ن تيسّي (يوم الارتواء)، ويسمى في الأطلس المتوسط أسّ ن ييكم (يوم الاستقاء) حيث «تخرج العروس في موكب نسائي وتقصد مكانا ما، وبعد الرقص والغناء تدخل العروس رجلها في الماء.. وتستقي الماء لتأخذه إلى المنزل، وترمي حبات اللوز إلى السماء لتسقط كحبات المطر، فيتخاطفها الأطفال»، وهو طقس مماثل لما يتم في القبايل أيضا، إذ تقصد العروس في اليوم الثالث أو السابع ينبوع حيها «تالا» حيث تغرف الماء وترمي الفول إيباون19.
كل هذه المعطيات والأمثلة تؤكد أن الطقوس المؤداة تندرج في نفس نسق الخصوبة والإحياء مع طقوس تاسليت أونزار، فكما أن سكب الماء على تاغنجا في طقوس الاستمطار على سبيل المثال يؤدي إلى استنزال المطر، فإن رش العروس يهدف إلى إخصاب العرائس والأرض معا، بل إن في بعض مظاهر احتفالات الزفاف ما يوحي أن العريس يتماهى مع أنزار السماوي، كما ورد في ميث تاسليت أونزار، ففي إيحاحان، وإيمي ن تانوت، وأركانا بالجنوب المغربي حين تصل العروس إلى باب بيت الزوجية قادمة من بيت ذويها يتم ترديد׃ لوح لّوز أيسلي (ارم حبات اللوز أيها العريس)، فيطل العريس من سطح البيت، فيطلق عيارا، ويلقي بنثر من اللوز من الأعلى نحو عروسه في الأسفل20، ذلك أن إطلالة العريس من شرفة المنزل يجعله يتمثل بأنزار الذي يطل من قبة السماء على عروسه الأرضية في النهر (الأسفل)، وإطلاقه للعيار الناري تأكيد لرجولته، وقد يكون محاكاة لصوت الرعد الذي يعقبه سقوط زخات المطر المتمثلة في هذه الحالة في اللوز׃ رمز الخصوبة الذي تلقي به العروس في طقس (أسّ ن ييكم) في الأطلس المتوسط نحو السماء كي يسقط كالمطر كما ذكرنا أعلاه.
إن زواج ايسلي (العريس) وتيسليت (العروس) يتخذ لدى الأمازيغ بعدا كونيا يناظر زواج السماء بالأرض، وزواج أنزار بتيسليت أونزار، وهو اقتران تكاملي يتم تمثيله على المستوى الرمزي أيضا بزوج (المدق/الجرن) الذي يعتقد في إحدى الشذرات الاسكاطولوجية (الأخروية، المرتبطة بنهاية العالم) بالجنوب (ايحاحان تحديدا) أنه سيتولى دفن آخر من تبقى من البشر على البسيطة حينما يفنى الجميع، إذا حلت نهاية العالم، فهذا الزوج يتخذ طابعا كوسموغونيا يمثل فيه المدق كما رأينا في طقس قرية تاسمسيت (أركاز ن تلغنجا (بديل السماء، ورمز القوى المخصبة التي بدونها لا تحمل المرأة أطفالا، ولا تنتج الأرض ثمارا، ولهذا يتم استقبال العروس على عتبة الباب من قبل أم العريس حاملة للمدق في إيمي لجامع (اينتيفن بالأطلس الكبير المغربي)21 كرمز لمبدأ الذكورة وصورة للقضيب، يؤكد ذلك ورود المدق في الأمثال والألغاز الأمازيغية ككناية عن الذكر.
أما الجرن فهو مثل المغرفة في تاغنجا، يرمز لرحم الأم والأرض معا كما يتضح في الطقوس، ومن أمثلته أن النساء في قبيلة زمور22 بالوسط المغربي إذا رغبن بانحباس المطر حين تهدد غزارته المحصول، فإنهن يعمدن إلى ملء جرن بالماء، وتغطيته بلويحة، ومواراته في التراب بعمق ضحل جدا، ثم يمررن طبقة خفيفة من الأرض فوقها، ويضرمن النار عليها، ويعني هذا أن الأرض مرموز إليها بالوعاء قد ارتوت حتى غصت بالمياه، وباتت في حاجة إلى الشمس (وبديلها النار في الطقس- الجفاف واليبس) لتجفيفها. ويؤكد هذا الارتباط بين رحم الأم والأرض والجرن طرق هذه الأخيرة إذا عسر وضع الحامل في سوس.
إن زوج (مدق/جرن) الذي لا يستغني أحد طرفيه عن الآخر، يمثل صورة للعالم
Imago Mundis 23، وضمن هذا الإطار نفهم وظيفة دفن آخر البشر التي وكلت إليه، فهو يختزل رؤية كونية تتأسس على ثنائيات ذات بعد كوني، تنبني عليها طقوس تاغنجا وأعراس الأمازيغ وميث تاسليت أونزار، وتشكل مبدأ الخلق في التقاليد الأمازبغية، وتعد بنيات راسخة في ثقافة الأمازيغ الشعبية، بحيث تنعكس على سلوكيات وعلاقات الأفراد في المجتمع التقليدي، ونجد لها تجليات في مأثوراتهم الشفوية (أمثال- أشعار-حكايات- ألغاز..)׃
ميث تاسليت اونزار ← أنزار(إله المطر)׃
تاسليت أونزار سماء׃ أرض
طقوس تاغنجا ← أركازن- تاغنجا׃
تاغنجا: ذكر ׃ أنثى
احتفال الزفاف-تامغرا ← إيسلي (العريس)׃ تيسليت أساكم׃ تافردوت
رمزية تاغنجا وطابعها المقدس:
إن اقتران طقوس الاستمطار (تلغنجا- تاسليت اونزار) بلعبة «تاكورا» أو«شيرّا» أو «أوجّا»، كما رأينا بالنسبة لطقس أيت زيكي بالقبايل، هو أمر منتشر في شمال إفريقيا كلها، وقد لاحظ ذلك كل الباحثين في هذا المجال تقريبا مثل Doutté وJouleaud وWestermark وLaoust وبعدهما Servier وCamps. فلدى أيت واراين مثلا، تقوم امرأتان، أو ثلاث نساء عاريات بلعب تاكورا لغرض الاستمطار، وفي تسول بتازة شمال المغرب يتم استعمال تاغنجاوت (مغرفة صغيرة) لقذف الكرة، وفي راس الواد بالجنوب المغربي يجتمع الناس في ساحة، وينقسمون إلى معسكرين׃ الرجال من جهة والنساء من جهة أخرى، فيمارسون اللعبة إذا هدد الجفاف المحاصيل، بينما وحدهن النساء يمارسنها، ولنفس الغرض في تاجّكالت (حوز مراكش بالمغرب)24. وتمثل الكرة (أوجّا أو تاكوركشت أو شيرّا في سوس والأطلس الكبير) البذرة والماء، والهدف هو رميها في الحفرة، لأن ذلك يعد بمثابة سقي للبذور والأرض، لذلك يصيح اللاعبون بعد أن تقع الكرة في الوقبة المحفورة في سوس والاطلسين׃ (ئسّوا تّ ينّ) أي سقاها، وفي القبايل بالجزائر يضيفون بعد صيحة (لقد سقاها)׃ عبارة (سقانا الله ماء)25، فالهدف المراد تحقيقه إذن هو السقي. ومما يؤكد ذلك أن الكرة التي ترمى في الحفرة في إيحاحان بجنوب الصويرة بالمغرب تسمى بشيرّا أو شارّا، وهو إسم يفيد أيضا بصيغة أشرّا أو أشارّا معنى حبة البرد، كما أن الحفرة ذاتها تحمل اسم تانوت (البئر الصغير) في سوس عموما وتاركا الساقية في الأوراس بالجزائر، وتملأ بالماء خلال اللعب في ايت حربيل بسوس بالمغرب. وفي بني سنوس (الجزائر) يعتبر فائزا الفريق الذي ينجح في سقي اثني عشر حمارا «إيغويّال»، ومعناه ضمان المطر والخصوبة طيلة السنة (12 شهرا)26، والملاحظ أنه حتى الآن يتم التعبير عن تسجيل الأهداف في كرة القدم العصرية ببوادي الجنوب المغربي׃ إيسّوا أغيول (أي سقى الحمار)، وهي العبارة المستعارة من لعبة (شيرّا، اوجّا..) التقليدية.
وتجدر الإشارة إلى أنه في بني سنوس دائما، ومن أجل تشكيل الفريقين اللذين سيتواجهان في اللعبة، يغمض أحد اللاعبين عينيه، فتقدم له العصي التي تستخدم في قذف الكرة الواحدة تلو الأخرى، فيعينها جزافا حين تسلمها، بلفظي «السماء» أو «الأرض»، فيتشكل المعسكران المتقابلان اللذان يحملان اسم هذين المبدأين الكونين27، وكأن المواجهة بينهما ذات بعد كوني (سماء/أرض)، هو ما يشكل أساس أو خلفية طقوس تاغنجا وميث تاسليت أونزار، ويجعل هذه اللعبة تكتسي طابعا سحريا دينيا مؤثرا على المناخ.
إن طقوس تاغنجا إذن تجمع كما لاحظ ذلك28Camps العراء المهيّج ورمز المغرفة الحاوية، ولعبة الكرة׃ صورة البذر الذي يتسرب إلى الأرض، وهو أمر يمكننا من إلقاء الضوء على جانب من أسباب اختيار المغرفة الخشبية (أغنجا) لأداء هذه الطقوس، فكما تبين فيما سبق، فإن حضور هذه المغرفة في طقوس الاستمطار بشمال أفريقيا يعتبر كثيفا وكاسحا، وتوظيفها قد يعود إلى العوامل التالية׃
كونها أداة مطبخية وعائية بطبعها، وبالتالي أنوثية، وبالنظر إلى صلتها الجوهرية بالسوائل، فهي تستعمل لاغتراف الماء أو المرق أو غيره، أو لسقي الكسكس، وتأديتها لفعل السقي قد يبرر استخدامها في الاستمطار، فهي تحمل في الطقوس الاستسقائية بأولاد يحيى بالمغرب مملوءة ماء من قبل فتيات، يطفن بها لترجمة رغبة الناس في سقيها، إذ تتحول إلى رمز أو بديل للأرض في هذه الطقوس.
لكونها مقعرة، مجوفة، مثلها في ذلك مثل الجرن ومثل الحفرة التي ترمى فيها (تاكورا أو أوجّا) أي الكرة رمز الماء والبذار في اللعبة الطقوسية المشار إليها، والتجويف عادة ما يرمز إلى عضو التأنيث ׃ أي العضو التناسلي للمرأة، فكل «فجوة يمكن أن تؤول جنسيا»29، وهو ما نلمسه من خلال ميث أمازيغي حول الجاموس البري الأول «إيزرزر» وأصل الحيوانات30، وملخصه أن «إيزرزر» وأنثاه الجذعة (تاومات) كانا أول الحيوانات على الأرض، وأنهما خرجا من باطنها المظلم، حيث اكتشفا الليل والنهار، وبالتالي الضوء لأول مرة، وبعد أسبوع من الاستكشاف والتسكع، استثارت (تاومات) رغبة «إيزرزر» الجنسية فاعتلاها لتحمل منه، وتضع لاحقا عجلا كبر بسرعة، وبعد سنة تحرش جنسيا بأمه، فصدته بعنف مستعملة قرنيها لأنها حبلت مرة أخرى، فهاجر بعيدا، وقاده التيه في الأرض لمدة ثلاث سنوات إلى ربع يقطن به أول تجمع للبشر في المعمورة، فحاولت جماعة منهم الإمساك به، لأنهم لم يروا حيوانا من قبل، فأفلت منهم ليقفل عائدا بناء على نصيحة من نملة إلى والديه، حيث وجد أمه قد وضعت عجلة، فسافدهما معا، مما أثار حمية أبيه «علي إيزرزر» لينشب بينهما صراع انتهى بانتحار الأب، هذا الأخير فر معترفا بهزيمته بسبب ضعفه، فهام في الجبال، ولما كان وحيدا بعيدا عن أنثاه التي لم يكف أبدا عن التفكير فيها، ظل يختزن سائله المنوي داخله، إلى أن لمح ذات يوم فجوة بصخرة مسطحة، فأفرغه فيها بعد أن عجز عن احتوائه، وكان يفعل ذلك كلما شعر بالرغبة في مسافدة أنثاه حتى امتلأت الفجوة، ولما لفحت أشعة الشمس الحفرة صيفا، صدر عنها زوج من الغزال، ثم حيوانات أخرى بلغ عددها سبعة أزواج تناسلت، لتتولد عنها الحيوانات التي تسكن الغابة والسهوب الآن»..يهمنا من هذا الميث أن الفجوة الصخرية تصير بالنسبة لعلي ايزرزر بديلا عن عضو أنثاه الجنسي، وممثلا لرحم الأرض الأم التي منها صدرت كل الحيوانات، بما فيها ايزرزر وتاومات اللذين انبثقا من العالم التحت أرضي، وهو ما يمكننا من فهم طقس يؤدى في ايت يوسي بوسط المغرب حينما تمطر السماء في يوم زفاف العروس (وهو أمر مستهجن) إذ تملأ هذه الأخيرة فمها زيتا، وتفرغه في فجوة صخرية31، فعلى النقيض من الماء (الذي يفرغ في حفرة لعبة تاكورا في ايت حربيل بسوس)، ومن السائل المنوي الذي يفرغه «علي إيزرزر» في الحفرة، فإن الزيت غذاء جاف حارق كالشمس كما يؤكد بورديو Bourdieu32، ويترجم الرغبة في تجفيف الأرض، وتيبيسها كما يراد من طقس زمور (إيقاد النار فوق جرن مملوء بالماء).
وللتأكيد على الارتباط بين الفجوة (التجويف) والعضو الجنسي الذي تمثله، وأهميتها في استثارة المطر في الفكر الأمازيغي التقليدي، نشير إلى طقس طريف لدى إيكلووّا33 بجبال الأطلس بالمغرب يتمثل في تجاذب فريق من الرجال وفريق من النساء (أو النساء فقط في إيكدميون بنفس المنطقة) لطرفي حبل، حيث يعمد أحد الأشخاص، ودون سابق إنذار إلى قطع الحبل، بشكل مفاجئ، فتسقط النساء وتظهر عورتهن، وهذا الطقس يعرف باسم كرّعموش لدى إيكدميون (إيمي ن تالا)34، فكيفية أداء الطقس تؤكد أن عرض وظهور العضو التناسلي للمرأة يشكل أساسا في الاحتفال، نظرا لدوره في تهييج واستثارة أنزار.
على النقيض من ذلك تتم ترجمة الرغبة في احتباس المطر بعملية كشف النساء عن مؤخرتهن، وتوجيهها صوب السماء (أنزار) في طاطا، ومناطق أخرى من الجنوب المغربي. فإذا كان العضو الجنسي الأنثوي رمزا للخصوبة والولادة، فإن قلبه سيصبح رمزا للعقم والجفاف (أي الإست الذي لا ينجب)، ويماثله طقس قلب المغرفة (أغنجا) الذي يراد منه إيقاف المطر في إيمتوكّا (بالجنوب المغربي).
إن هناك علاقة جدلية إذن بين׃
وفي المقابل فإن׃
قلب المغرفة (إبداء ظهرها المقبّب عوض المجوّف) = قلب عضو التأنيث (لإظهار الإست العقيم)
إن المغرفة تاغنجا برمزيتها للأرض المعرضة للجفاف، كالفتاة في ميث تاسليت اونزار إذا لم يغثها المطر، تتوسط في الطقوس أيضا لاستحداث السيل المائي المتأخر في المناطق الصحراوية التي لا يمكن العيش فيها إلا على ضفاف الأنهار، ففي تامكروت بالجنوب الشرقي للمغرب35 تحمل المغرفة من طرف أرملة متبوعة بنساء وأطفال يرددون أهازيج الاستمطار حين يتأخر سيل واد درعة، وحين يتحقق ذلك يتم الاحتفاء به بصيحات فرح׃ إينكي واسيف بمعنى لقد فاض النهر. وقد اعتمد لاووست على هذا المعطى اللغوي (إينكي: سال وفاض) لمقاربة ايتيمولوجيا تانكي أو تانكو الاسم الذي يطلق على الدمية التي يتم التطواف بها كتلغنجا في تونس للاستمطار. وقد طابق بين أم تانكي التونسية وتلغنجا المغربية اعتمادا على معطيات اثنوغرافية، منها أنه في جزيرة جربة يطلق اسم تونكو على الملعقة الصغيرة التي توزع على الأطفال بمثابة لعبة بمناسبة الأعياد الدينية الكبرى، خصوصا باقتراب رمضان، والتي يتم تزيينها بشكل مثير، وترسم لها قسمات وملامح فتاة، وفي تونس العاصمة يتناول الأطفال طعامهم بها طيلة الصيام، وتلعب بها الفتيات كدمية، ولا تسمى هذه الملعقة الطقوسية الخاصة مغرفة، كما تسمى في العاميات العربية المغاربية عادة، بل يطلق عليها اسم (غنجاية) الأمازيغي المعرّب.
إن المغرفة وبالنظر إلى التجسيد الكوني الذي تمثله في الطقوس، قد حظيت بقدسية خاصة حتى في المناطق التي أسلمت مبكرا كتونس، إذ ذهب لاووست Laoust إلى حد اعتبارها اسما لآلهة قديمة احتلت مكانة متميزة في البانتيون (مجمع الآلهة) الأمازيغي القديم، وظل هذا الإسم في تونس بعد خضوعه لتحوير طفيف لصيقا بصورتها الرمزية ׃ المغرفة، التي صارت دمية للأطفال تختلف باسمها وطابعها الطقوسي عن غيرها.
ويؤكد لاووست أيضا أن تلغنجا قد حظيت بشعبية كبيرة كإلهة شمال إفريقيا، كما يستخلص من تحليل الوقائع، وأنها ما زالت تحظى بهذا التقدير في الطقوس، ويفسر لاووست احتفاظ الأمازيغ بذكرى تلغنجا من دون بقية الألوهيات القديمة، بكون الظروف المناخية، وعدم انتظام الأمطار يعرض المحصول للخطر، ويستدعي اللجوء إلى الطقوس والألوهيات، غير أن هذا الرأي ينطوي على الكثير من المبالغة في اعتقادي، فتاغنجا ليست إلهة للمطر، ولكن تدخلها يستمطر السماء، ويؤدي إلى فيض الأنهار، فهي عروس لأنزار وتشخيص للأرض، عذراء، وأم، وسيدة للسماء، ورغم تعدد أسمائها واختلافها حسب المناطق (أم تانكي- تانكو- تونبو- تاطامبو (تونس وليبيا)- تسليت أونزار- تلغنجا- تاغنجا- تنغنجا- أولتلغنجا- بلغنجا..مانطا أو ماطا بالمغرب والجزائر، فهي تكتسي طابعا مقدسا.
نخلص من كل هذا إلى القول بأن رواسب المعتقدات الأمازيغية القديمة، وعناصر الميطولوجيا الشمال إفريقية مازالت مستمرة مستبطنة تقبع في سلوكات المغاربيين، وطقوسهم، وعاداتهم، بل تهجع في لاوعيهم الجماعي حتى حين تندثر، وتنسى تماما، إذ تترك بصماتها في اللغة والسلوك، ورغم أن الإسلام يفرض نفسه كواقعة كبرى وأساسية في الثقافة المغاربية، إلا أن انخراط الأمازيغ فيه يتخذ أحيانا تلوينات تصدر عن ميثولوجيا قديمة، تستمد جذورها من رصيد متوسطي عريق. لذا لا يمكن أن نفهم بعض المواقف والمسلكيات الاجتماعية المعاصرة بالمغرب الكبير دون الاستناد أو الاستنجاد ببعض ما تبقى وقاوم النسيان من عناصر هذه الميثولوجيا التي يساهم جمعها وتدوينها ودراستها في إزاحة النقاب عن كثير من أسرار ومعتقدات وطقوس وتقاليد الأمازيغ، وإلقاء الضوء على كثير من جوانب الثقافة المغاربية الشعبية بشقيها الأمازيغي والعربي، كما تمكننا من تحليل وشرح الرموز والموتيفات الموظفة التي تتواتر وتتردد في الشعائر والوشم والنسيج والاحتفالات والأغاني والأهازيج والأشعار، وإذا كانت الميثولوجيا الأمازيغية قد فقدت الجزء الأكبر من نصوصها وعناصرها أو تعرضت لتحوير وتغيير لأسباب يطول شرحها في هذا المقام، فإن الطقوس مازالت تقاوم الاندثار، وتتميز بالتنوع والكثافة رغم بداية انحسارها في الآونة الأخيرة، لكن يصعب تفسيرها وفهمها دون الاستناد إلى الميثولوجيا، لأن الطقوس في بعض الأحيان ليست إلا إحياء للميث واحتفالا بأحداثه الأسطورية. والطقس يعيد تأكيد الميث كما يرى Gusdorf بل إن الطقس هو الميث في إطار الحركة كما يرىVan Der Lew.
الإحالات:
1 – E.Laoust – Mots et choses berbères- p. 206.
2 – المسحاة أيضا رمز خيري باعتبار وظيفتها المرتبطة بالمحصول الزراعي، والقمع هو أيضا مثل المغرفة نظرا لعلاقته بالسوائل، أما القصب فرمز للخصوبة وللفتاة العذراء، لذلك يحضر بكثافة في حفلات وطقوس الأعراس الأمازيغية بالمغرب والجزائر معا.
3 – E. Laoust -Mots. p. 213.
4 – Laoust -Noms et cérémonies des feux de joie chez les berbères du haut et de l’Anti-Atlas- Hesperis- p. 419.
5 – H .Basset- Essai sur la littérature des berbères- pp.178-179.
6 – R. Basse t- Recherches sur la religion des Berbères , pp. 16-18.
7 – ibidem.
8 – Genevois-Un rite d’obtention de la pluie : la fiancée d’anzar-actes du 2’eme congrès International d’étude des cultures de la meditterannée occidentale II, SNED, Algérie 1978.
9 – ميرسيا إلياد- مظاهر الأسطورة- ترجمة׃ نهاد خياطة- ص.ص. 9-10.
10 – Genevois – نفس المرجع السابق.
11 – Encyclopédie berbère -TomeVI-Edisud-Aix en province-1989-pp. 795-797.
12 – Laoust- mots et choses berbères p. 246-247.
13 – -216Laoust-Mots et choses berbères p. 215.
14 – ibidem- pp.216-217.
15 – الكوسموكونية cosmogonie هي الميث المرتبط بخلق الكوسموس (الكون)، والبيوكونية biogonie هو المتعلق بخلق الحياة.
16 – Mercea Eliade, Sacré et profane – p. 126.
17 – E. Laoust -idem – p. 238.
18 -Narjys El Alaoui,Le soleil,la lune et la fiancée végétale, p. 70.
19 – انظر دراسة( من الفول اإلى النجوم) ضمن هذا الكتاب.
20 – E.Laoust, Noces berbères- p. 156.
21 -Laoust -Noces berbères- p. 82.
22 -Archives Berbères 1915-1916, Ed Alkalam-Rabat-1987 p. 157.
23 – لدى السارا Sara في تشاد ميث خلق حول أصل الشعوب والأعراق مرتبط بالمدق والجرن ، حيث تحمل أم فتاة ميتة رأس ابنتها إلى الخالق، وتتوسل إليه أن يعيد إليها الحياة، فيدق هذا الأخير بمدقه الجرن، ومع كل دقة تخرج جماعة أو حشد من الناس من أعراق وملل مختلفة (زنوج، اوروبيون، مسلمون..)، وفي الدقة الأخيرة فقط تخرج الفتاة حية. وفي رواية أخرى يوحي شحرور إلى توأمين بأن يأخذا قطعة من تمرة الدباء، ويسحقاها في جرن، وخلال الدقة الأولى خرج البيض ثم السود في الثانية، وفي الأخيرة خرج أبوهما وأمهما ( أنظر Paulme, La Mère dévorante 1-Gallimard – 1978, p. 304- Denise).
24 – Laoust – Mots et choses berbères pp. 242-243.
25 -Jean Servier- tradition et civilisation berbères -portes de l’année- p. 291.
26 – Jean Servier- Traditions et civilisation berbères -portes de l’année – p. 292.
27 -ibidem p. 291.
28 – Encyclopédie berbère – VI, p. 797.
29 – جيلبير ديوران- الانثروبولوجيا׃ رموزها، أنساقها ، أساطيرها – ترجمة׃ مصباح الصمد- ص. 219
30 – Leo Frobenius – Contes kabyles – p.36.
31 – E.Laoust – Mots et choses berbères- p. 249 .
32 -Pierre Bourdieu – Sens pratique- p. 373 , et p. 414 .
33 – Laoust- Mots et choses berbères p. 344.
34 – Stroomer- Textes berbères des Guedmioua et Goundafa (Haut Atlas du Maroc) –p. 57.
35 -Laoust, Mots et choses berbères- p. 224.
بيبلوغرافيا:
– جيلبير ديوران- الانثروبولوجيا׃ رموزها، أنساقها، أساطيرها – ترجمة ׃ مصباح الصمد- المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع- ط 2-1993
– ميرسيا إلياد- مظاهر الأسطورة- ترجمة׃ نهاد خياطة- دار كنعان للدراسات والنشر- 1991
– Archives Berbères 1915-1916, Ed Alkalam-Rabat-1987
– Basset, René- Recherches sur la religion des Berbères -Revue de l’histoire des religions, 1910.
– Basset, Henri- Essai sur la littérature des berbères (1920)- Réédition Ibis press-awal- 2001.
– Bourdieu, Pierre – Sens pratique-Edition de Minuit Paris-1980.
– El Alaoui, Narjys – Le soleil, la lune et la fiancée végétale- Edisud-2001.
– Eliade, Mircea- Sacré et profane -folio-essai-Gallimard-1994.
Encyclopédie berbère -TomeVI-Edisud-Aix en province-1989
– Frobenius, Leo – Contes kabyles, traduction de Mokrane Fetta -Tome 1-Edisud, 1995.
– Genevois-Un rite d’obtention de la pluie: la fiancée d’anzar-actes du 2’eme congrès International d’étude des cultures de la meditterannée occidentale II, SNED, Algérie 1978.
– Laoust, Emile -Noms et cérémonies des feux de joie chez les berbères du haut et de l’Anti-Atlas- Hesperis -1920
– Laoust, Emile – Mots et choses berbères- Société Marocaine D’éditions- Collection Calques- Rabat- 1983.
– Servier, Jean- Traditions et civilisation berbères- portes de l’année -Ed du Rocher- Monaco.
– Stroomer- Textes berbères des Guedmioua et Goundafa (Haut Atlas du Maroc)- Edisud bilingues -2001
المصدر: مجلة “الثقافة االشعبية” البحرينية . عدد 14