مشهد 5 – الجزائر 2007
فجأة، كنت على موعد مع الجزائر بعد انتظار طويل، فقد بدأت رحلاتي إلى بلاد المغرب العربي منذ عام 1993، وتعددت زياراتي إلى ليبيا وتونس والمغرب، إلا الجزائر؛ حيث ظلت عصيَّة على رغبتي الحميمة في ارتياد مسالكها الثقافية والاجتماعية الغنية والمتنوعة.
لم أكن واثقًا في إمكانية المشاركة في إحدى الورشات التدريبية حول “الإدارة الثقافية” التي تنظمها مؤسسة “المورد الثقافي”، رغم إدراكي لأحقيتي التاريخية في الانضمام إلى ورشة تدريبية في هذا المجال، لكني لا أعرف أحدًا في “المورد الثقافي”، ولم أحاول الاتصال بأحد لكي يؤمِّن مشاركتي. وكنت أعلم – خلال سنوات طويلة – أن كثيرًا من المشاركات يعتمد على هذا الشرط: أن تكون “مسنودًا” بالعلاقات، وبالصلة المباشرة مع المؤسسة الممولة أو بعض القائمين على النشاط، ولم أكن أمتلك هذا الشرط أو جزءًا منه على الأقل، لكني اعتدت على الإقدام وممارسة فعل المحاولة دون يأس، فأرسلت أوراقي للمشاركة في ورشة التدريب حول “الإدارة الثقافية” التي ستنعقد في رحاب المكتبة الوطنية الجزائرية في الفترة من 26 إلى 31 سبتمبر/ أيلول 2007 .
كان دافعي للمشاركة في هذه الدورة يتمثل في مروري – منذ منتصف التسعينيات من القرن العشرين – بتجارب متراكمة في مجالات متعددة ومتنوعة من العمل الثقافي (الإشراف على تحرير سلاسل الكتب المتخصصة، إعداد الفعاليات البحثية الوطنية والدولية، إدارة الأنشطة الثقافية والفكرية والفنية الشبابية، إعداد وتقديم العروض الفنية الفولكلورية، الموسيقية والغنائية على وجه التحديد، وخصوصًا عروض السيرة الهلالية، إدارة وحدات الدراسات والنشر والثقافة الشعبية بعدد من المؤسسات غير الحكومية). وأتاحت لي هذه التجارب أن أكتسب قيمة العمل الجماعي، والانتماء إلى روح الفريق. كما أصقلتني بخبرات راسخة؛ لأنها اعتمدت على ثراء الخيال الجماعي في التفكير والتصورات، وارتكزت على أسلوب التعلم الذاتي، ونبعت من الرغبة الدائمة في الاكتشاف.
وفي اللحظة التي أشعر فيها باتساع تجاربي، يتسع تأملي من جديد في أفق قادم، وتزداد رغبتي في التعلم من تجارب أخرى متميزة. فلا أزال أتوق إلى مجهول لم أعرفه، وإلى معارف خبيئة لم أدركها، وإلى تجارب ملهمة أخرى لم أمر بها.
هذه هي الروح التي أجدها تدفعني دومًا إلى المشاركة في أية فعالية. لكن ثمة دافع رئيس وراء طلبي الانضمام لورشة الإدارة الثقافية، يتمثل في العودة بمهارات وخبرات جديدة تساعدني على تصميم البرامج الثقافية، والمشاركة في رسم سياسات ناجعة، في إطار مهمتي الجديدة كمنسق للبرامج الثقافية بالمركز القومي لثقافة الطفل بالقاهرة.
كما قدمت ضمن أوراق طلب انضمامي لورشة الإدارة الثقافية مشروعًا يتصل بعملي في مجال جمع وتوثيق سيرة بني هلال، حيث عكفت، منذ مطلع التسعينيات من القرن العشرين، على جمع الروايات المصرية لسيرة بني هلال. وقد اتسع اهتمامي بهذه السيرة ليشمل بلدان شمال أفريقيا، فقمت بتجارب ميدانية محدودة في تونس وليبيا (1993 و 2006)، فضلاً عن اطلاعي على الجهود السابقة التي بذلها عدد من المهتمين بالهلالية. وقد تدربت – منذ مطلع التسعينيات أيضًا – على إدارة الفرق الشعبية الحرة التي تنشد السيرة الهلالية، وذلك من خلال مرافقتي لأستاذي د. أحمد شمس الدين الحجاجي.
تعرفت إلى شعراء محترفين يجتهدون في أداء الهلالية بمستويات فنية متميزة ومتنوعة، منهم: عز الدين نصر الدين (توفي عام 2009)، وعلي جرمون (توفي في 1 يناير 2000)، وعنتر رضوان، وجمال زكي (توفي عام 1999)، وسيد الضوي. كما تعرَّفت من بعد (عام 1998) إلى الشاعر محمد اليمني، وقمت بتسجيل ساعات عدة معه، ثم رافقته لفترة أطول خلال عام 2005. وفي العام نفسه، التقيت الشاعر عبدالباسط السيد نوح الذي كشف لي الكثير من أسرار الفروق الأدائية بين شعراء الهلالية.
أدهشني عز الدين نصر الدين بأدائه الممتع وقدراته الفنية العالية، كما أن سنه الصغيرة – حيث لم يتجاوز عامه السابع والعشرين عندما استمعت إليه للمرة الأولى عام 1992 – بشَّرت بمستقبل يعوضنا عن غياب الشاعر الشعبي المصري جابر أبو حسين (توفي 1986). يدين عز الدين بفضل كبير لأستاذه جابر ولأبيه نصر الدين ولجده نوح، لكن الشاعر الشاب ظل يحرص على تأكيد تميزه واختلافه عنهم جميعًا، وعلى مواصلة الاجتهاد في شؤون الهلالية، وعلى التساؤل الدائم عن دروبها الخفية، ومراجعة بعض التفاصيل والأحداث الدقيقة في بدنها، والتي يراها عز غير مفهومة أو غير منطقية، بينما استقر عليها الشعراء المهرة، وعلى رأسهم جابر أبو حسين. كل ذلك – وأكثر – جعل من عز الدين شاعرًا شعبيًّا يمتلك وعيًا رصينًا بفن السيرة، ينافس به – عن جدارة – وعي الأكاديميين الأفذاذ.
توثَّقت علاقتي بعز الدين وبأفراد فرقته منذ عام 2005. فتحوا لي أبواب جماعات الغجر الموصودة. اقتربت من عالمهم الساحر. دخلت بيوتهم، وتعرفت إلى عائلاتهم. أكلت من طعامهم، وشاركتهم تفاصيل حياتهم اليومية. قمت بمرافقتهم في عشرات الليالي التي أحياها “الريِّس” عز الدين في قرى محافظتي سوهاج وقنا. سجلت له ما يربو عن مئة ساعة مرئية وصوتية. فضلاً عـن عروض “فـن الموال” التـي يؤديها شقيقـه عزت نصر الدين. ولعل أكثر هذه العروض التي أشرفت عليها تنظيمًا وتماسكًا تلك التي أقيمت في ليالي المحروسة التي ينظمها – خلال شهر رمضان من كل عام – إقليم جنوب ووسط الصعيد الثقافي التابع للهيئة العامة لقصور الثقافة.
في نوفمبر عام 2006، أسَّستُ مجموعة شبابية باسم “الجازية للثقافة والفنون والتنمية”، ومثَّلت التجربة مبادرة جماعية لعدد من الشباب من بلدان عربية عدة، تشكل وعيهم من إحباطات ذاتية وإخفاقات عامة متنوعة، كانت دافعًا لهم لخوض تجارب فردية ملهمة في مجال المبادرات الشبابية داخل مجتمعاتهم. استعملوا مختلف وسائط الاتصال الحديثة لضمان استمرار تجاور تجاربهم وأفكارهم، واعتمدوا آلية “التشبيك” بين التجارب الفردية والجماعية بهدف تبادل الخبرات والمعارف المستقاة من الواقع الشعبي المحلي. والتقى كثير منهم في سلسلة لقاءات شبابية إقليمية متعددة الموضوعات، وناقشوا عددًا من الأفكار التي استهدفت إبداع طرائق جديدة وخطاب جديد في مجالات الثقافة والفنون والتنمية، بحيث تعود للثقافة الشعبية والفنون التقليدية والخيال الاجتماعي أدوارها المفقودة أو المهمشة في عملية رسم السياسات والبرامج التنموية، وهو ما يعني أيضًا انضمام جهودهم إلى الجهود المتعددة التي تعمل على حماية الثقافة الشعبية وفنونها وقيمها الرمزية ومعارفها التقليدية ومأثوراتها المعنوية اللامادية، وقبلها حماية عناصرها البشرية لاسيما المبدعين الشعبيين والفاعلين الاجتماعيين، لضمان استدامة أدوارهم في مجتمعاتهم المحلية.
ويحمل اسم “الجازية” المعاني الرمزية التي جمعت شباب المجموعة من الفنانين والباحثين والميدانيين، حيث أرادوا أن تكون تجربتهم فضاءً للتنوع والخيال والإبداع والفن والأساطير والمعارف الشعبية والتاريخ الشفهي. و”الجازية” إحدى شخصيات سيرة بني هلال، يراها الناس في المنطقة العربية المرأة النموذج للبصيرة والقوة والحكمة والسياسة والتدبير والفن والجمال، مما يجعلها – في وجدان شبابها – قيمة رمزية وجمالية في مجال التنمية البديلة.
أهداف المجموعة:
حماية المأثورات الشعبية غير المادية بجمعها من ميادينها الاجتماعية والثقافية الحية وتوثيقها.
تنمية الحرف الشعبية والصناعات التقليدية.
تبني برامج حماية الحقوق الثقافية والاجتماعية والاقتصادية.
تبني برامج تعزيز التنوع الثقافي، وحماية أشكال التعبير الثقافية، وحماية الملكية الفكرية للمعارف التقليدية.
تنمية الحلقات الاجتماعية الضعيفة كالمرأة والطفل والجماعات المهمشة.
أنشطة المجموعة
تدريب مؤسسات المجتمع المدني على العمل الميداني وفق أساليب وطرائق ملائمة لطبيعة المجتمعات المحلية وثقافتها الشعبية.
إقامة العروض الفنية الفولكلورية.
تدريب الشباب على الحرف الشعبية المعرضة للانقراض.
تحسين أوضاع الفنانين الشعبيين والعاملين في الحرف الشعبية، عن طريق إنشاء نقابات وجمعيات أهلية خاصة بهم.
عقد الورش والدورات التدريبية والمؤتمرات في مضمار الثقافة والفنون والتنمية.
تصميم البحوث والدراسات التي تعزز دور الفنون والثقافة في التنمية الاجتماعية والاقتصادية تقديم الدعم الفني للمؤسسات في مجال الإدارة الثقافية، وجمع الثراث الثقافي وتوثيقه، والثقافة الشعبية بوصفها مدخلاً للتنمية، وتعلم الأطفال من خلال الفن.
جمع المأثورات الشعبية التي تخص النساء وتعبر عن صوتهن.
وحدات المجموعة
وحدة العمل الميداني.
وحدة التوثيق والأرشفة.
وحدة التراث المخطوط.
وحدة المأثورات الشفهية.
وحدة التاريخ الشفهي.
وحدة برامج التنمية.
وحدة التدريب.
وحدة فنون الميديا.
وحدة فنون الفرجة الشعبية.
وحدة الاتصال والعلاقات الخارجية.
وحدة الدراسات والبحوث والنشر.
كان ضمن أهم أنشطة المجموعة إقامة العروض الفنية الفولكلورية، وتمثل المشروع الذي تقدمت به في عرض مسلسل لسيرة بني هلال على مدار أسبوع في مدينة غدامس الليبية. حيث يحكي عز الدين على ربابته وقائع الرحلة الهلالية راسمًا جغرافيا ساحرة لشمال أفريقيا، ووقائع وعادات وتقاليد وقصص حب وصراعات… وغير ذلك. ويتحدث عن بعض المدن دون أن يعرف أية تفاصيل تتعلق بحاضرها أو بموقعها على الخارطة، مثل مدينة “غدامس” التي مكث فيها الهلاليون طلبًا للراحة قبل أن يدخلوا تونس، وتركوا فيها دياب بن غانم ليحرس أموالهم وممتلكاتهم.
تعد “غدامس” استهلالاً ملهمًا لتجوال فرقة السيرة الهلالية في مواقع متعددة من بلاد المغرب العربي. من شأن هذا العرض أن يربط – بصورة وثيقة – بين الشاعر الشعبي المصري وأفراد فرقته الموسيقية الذين يتصلون بسيرة بني هلال على الصعيد الفني الموسيقي والغنائي، وبين المتلقين المغاربيين الذين يتصلون بالهلاليين على الصعيد الاجتماعي والتاريخي والجغرافي.
اقترحت أن يتم إقامة العرض بالمشاركة مع المركز الوطني الليبي للمأثورات الشعبية بمدينة سبها الذي يرأسه صديقي العزيز الدكتور علي محمد برهانة.
أرسلت أوراقي، وانتظرت…
سعدت باستحقاقي المشاركة في ورشة الإدارة الثقافية، ضمن سبعة عشر مشاركًا من العالم العربي، وكانت سعادتي أكبر بالنزاهة التي اتسمت بها مؤسسة “المورد الثقافي”، وبالمستوى الرفيع للبرنامج التدريبي الذي أداره الدكتور مخلوف بو كروح أستاذ الإعلام والاتصال بالجامعة الجزائرية، ومعه المخرجة المسرحية الفلسطينية الجميلة مارينا برهم.
وبينما أنا مستغرق في فرحتي بالانخراط في ورشة “الإدارة الثقافية”، تزايد قلقي على نجاعة زيارتي للجزائر، دون أن أمارس عملاً ميدانيًّا على الأرض وبين الناس… في أماكن بعيدة عن العاصمة التي ستعقد فيها الورشة.
كانت مؤسسة سفر (صندوق تجوال الشباب العربي المبادر) ذات فضل كبير في إتاحة الفرصة لي للمضي خطوات في مبادرتي التي أطلقت عليها “طريق الهلالية”، من خلال منحة المشاركة في الدورة الخامسة للجامعة المفتوحة، ثم أعلنت “سفر” عن فرصة للشباب الذين سبق لهم الحصول على منحة سابقة للحصول على منحة أخرى. ومن منطلق هذا الإعلان، تقدمت لطلب منحة تزاور للمؤسسات المعنية والأفراد المعنيين بحماية التراث الثقافي غير المادي، في الفترة التالية لانعقاد ورشة “الإدارة الثقافية”. وبعد اتصالات عدة، تمت الموافقة على المنحة. لن أنسى الجهد الكبير الذي بذلته الصديقة مروة سعودي (المنسقة الإقليمية لسفر آنذاك) في مساعدتي – خلال فترة زمنية ضيقة – على إنجاز هذه الرحلة الممتعة، وتحقيق هذا الحلم الكبير.
ربحت الوقت قدر الاستطاعة، حيث صمَّمت برنامجًا – خضع لتعديلات عدة – لزيارة بعض الجامعات الجزائرية، والشخصيات المهمة في مجال جمع ودراسة الأدب الشعبي.
بدأت مهمتي بُعَيد انتهاء أعمال ورشة “الإدارة الثقافية” مباشرة في نهاية شهر سبتمبر/ أيلول، وانتهت قبيل مغادرتي في الخامس من شهر أكتوبر/ تشرين الثاني 2007 بسبب عطلة الجزائر في أول أكتوبر، قمت بإجراء اتصالات هاتفية مكثفة لترتيب زياراتي، وانتهزت فرصة العطلة لزيارة معرض الجزائر الدولي للكتاب، وهناك رتبت للقاء الباحثة الجزائرية حسناء سعادة، ودار بيننا نقاش جيد حول أطروحتها في الماجستير، وموضوعها “شخصيـة الجن والعفاريت بين القرآن الكريم وألف ليلة وليلة (دراسة سيميائيـة موازنة)”، وحول عملها الراهن في الدكتواره، وموضوعه: “تأثير البيئة البدوية على تطور شخصية البطل الشعبي من خلال السيرة الهلالية وسيرة عنترة”، وكلاهما بإشراف الأستاذ الدكتور عبدالحميد بورايو، أستاذ الأدب الشعبي بالجامعة المركزية بالجزائر العاصمة. كما دار نقاش موسع حول المشروع الذي تشارك فيه حسناء ضمن مجموعة من الباحثين الجزائريين لجمع روايات سيرة بني هلال ودراستها برئاسة الأستاذة الجليلة الدكتورة رزولين ليلي قريش. وقد حاولت لقاء الدكتورة رزولين، لكنها أبلغتني في اتصال هاتفي بسفرها المرتقب لباريس لأسباب صحية.
في صباح يوم 2 أكتوبر/ تشرين الثاني، بدأت رحلتي إلى ولاية بسكرة (500 كم جنوب شرق الجزائر العاصمة).
مررت بولاية البليدة، ثم حي تدارنت، قبل أن يمضي بي السائق في طريق جبلية بديعة، طريق التفافية صاعدة إلى ارتفاع شاهق، تمتعت عيوني باللون الأخضر، وبعدد قليل من البنايات التقليدية في منطقة “الحوضان” و “صوحان” و “أولاد مسعود”. تذكرت المنطقة الجبلية شمالي غرب تونس التي زرتها في زيارتي الأولى لتونس عام 1993، إنها امتداد جغرافي طبيعي لهذه الجبال العظيمة في الجزائر؛ إنها جنة خضراء فوق الأرض وتحت السماء.
انتهت الطريق الجبلية بوصولي إلى “العزيزية” و “ذراع عائشة” بولاية المدية. وتبدو مدينتي “سور الغزلان” و “بو سعادة” كبرى المدن التي مررت بها خلال عشر ساعات استغرقتها الرحلة. وعندما وصلت إلى ولاية المسيلة الجميلة، بدت شهرتها بإنتاج أجود أنواع التمور واضحة، حيث دخلت عددًا من المحال التي تبيع تمور دقلة الشهيرة. لم يطل مكوثي في المسيلة كثيرًا، حيث رتبت لزيارة جامعتها بعد زيارة جامعة بسكرة.
وصلت إلى مدينة بسكرة في العاشرة مساء، وتوجهت إلى دار المعلمين للإقامة حتى الصباح.
في الصباح، اصطحبني الأستاذ الطيب الوردي – الذي ينتمي إلى ولاية باتنة – بسيارته إلى جامعة بسكرة. وأتاحت خبرة السيد الوردي في مجال الإنشاء والمقاولات أن يحكي لي حكايات البنايات الجديدة في بسكرة. خاصة المنشآت الجديدة في جامعة بسكرة (المعروفة بجامعة محمد خيضر) وهي المنشآت التي يشرف عليها الوردي بنفسه.
توجهت إلى كلية الآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية في جامعة محمد خيضر ببسكرة، حيث التقيت بالدكتور صالح مفقودة رئيس قسم اللغة العربية، حيث عرفني إلى القسم الذي أنشئ في عام 1987، وتناقشنا حول أهمية إدراج موضوع “الأدب الشعبي” في أطروحات الماجستير والدكتوراة، حيث لاتزال مادة مقررة في مرحلة الليسانس فحسب، رغم أهمية هذه المنطقة على الصعيد الثقافي الشعبي، خاصة منطقة “سيدي خالد” التي تبعد 80 كم من ولاية بسكرة.
اصطحبني الدكتور صالح إلى مكتب عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية، حيث التقيت الدكتور عمار شلواي نائب العميد، لم تمض دقائق ليزول الأسلوب الرسمي، ويتحول اللقاء إلى حالة حميمية بين أصدقاء، فخرجنا من بين الحوائط والمكاتب الجامعية إلى الفضاء الاجتماعي الطبيعي داخل مدينة بسكرة، تناولنا طعامًا تقليديًّا تشتهر به منطقة بسكرة يُعرف بـ “الشخشوخة”. ثم مضينا إلى مدينة سيدي عقبة (18 كم من بسكرة)، حيث زرنا المسجد القديم لسيدي عقبة بن نافع والتي تقول الحكايات أنه استشهد في هذا المكان. ثم مررنا على مشارف الذاب الغربي، والذاب هو واحة من النخيل، ويبلغ طول الذاب الغربي 110 كم من بسكرة إلى سيدي خالد.
في طريق عودتنا إلى مدينة بسكرة، مررنا على وادي زرزور، نسبة إلى سيدي زرزور، وهو الولي الصالح لهذه المنطقة الذي تدور حوله حكايات شعبية جميلة تكرس لكراماته ودوره في تقسيم الوديان، حيث تشتهر هذه الرقعة الجغرافية بالوديان وكنت قد سجلت خلال رحلتي العلامات الدالة على هذه الوديان (وادي البِلّ، وادي البيض، وادي الملح، وادي برابرة، وادي العرايب). ويقع مقام سيدي زرزور في قلب وادٍ مائي (جاف). وتقول الحكايات إن اسم زرزور يعود إلى حكاية تقول إن الزرازير (العصافير) حطَّت على جثة هذا الولي الصالح بعد موته لكي تحميه من الانتهاك.
عدنا إلى مكتب العميد، حيث التقيت عددًا من الباحثين الشباب في مجال “الأدب الشعبي”، وقد تمت هذه اللقاءات بالتنسيق مع الدكتور عبدالحميد بورايو. بدأت اللقاءات بالباحث عاشور أحمد، حيث دار النقاش حول موضوع بحثه في الماجستير بإشراف الدكتور بورايو والمعنون بـ”التناص في الشعر الجزائري”، معتمدًا نماذج من الشعر الشعبي جمعها من منطقة سيدي خالد. وكان لحضور الدكتور عمار شلواي أثر في ثراء المناقشة حول منهجية التناص، كما أضفى موضوع الباحث عبدالقادر رحيم المعنون بـ”سيميائية العنوان في شعر محمد مصطفى غماري” نقاشًا متعمقًا حول منهجيات دراسة الأدب العربي عمومًا. التقيت كذلك الباحث أحمد قنشوبة الذي أنهى لتوه زيارة بحثية في مصر، ويدور عمله أيضًا على موضوع الشعر الشعبي الجزائري.
غادرت مدينة بسكرة حاملاً امتنانًـا كبيـرًا لصديقيّ العزيزين د. صالـح مفقودة و د. عمار شلواي.
توجهت إلى ولاية المسيلة (350 كم من العاصمة)، حيث كان بانتظاري الدكتور علي بُولَنْوَارْ أستاذ الأدب الشعبي بقسم اللغة العربية بجامعة محمد بوضياف، قادمًا من مدينته الجميلة “بو سعادة”، وكان في معيته د. عمار بن قريشي رئيس قسم اللغة العربية، ونائبه د. موسى عتيق، والأستاذ ختيم عزوز الباحث في اللسانيات.
بعد أن تناولنا العشاء، قضينا الليلة في حوار مفتوح حول عدد من القضايا بدءًا بمناقشة تاريخ دراسات الأدب الشعبي بالجزائر الذي استهله الضباط الفرنسيون إبان الاستعمار، مرورًا بجهود الجزائريين التي بدأت مع التلي بن شيخ رائد دراسات الأدب الشعبي الجزائري، وانتهاءً بالجهود الراهنة التي اتسعت بها مساحة الاهتمام بهذا الفضاء الأدبي الشعبي المهم. كما تعرفت عن قرب على دراسات د. بولنوار، ومنها دراسته للشعر الشعبي في منطقة بو سعادة، ومقاربته للمكون الجمالي للقصيدة الشعبية. ودار حديث غني بالمعلومات حول الآثار الأدبية والاجتماعية للهلالييين في الجزائر، وعن البقايا المعمارية الدالة على الوجود الهلالي في هذه المنطقة، ومنها قصر جازية، وهو بقايا قلعة تتكون من غرف مبنية بالحجارة. وعن جبل ذياب بمنطقة عين الديس، قرب مدينة بو سعادة.
امتدت زيارتي للمسيلة حتى صباح الثالث من أكتوبر/ تشرين الأول 2007، وكان عليّ توديع أصدقائي والتوجه إلى مدينة الجزائر، للوفاء بموعدي المهم في اليوم التالي بالجامعة المركزية. حيث بادر صديقي الدكتور عبدالحميد بورايو بالتنسيق لعقد سيمنار علمي لمناقشة كتابي “سيرة بني هلال، روايات من جنوب أسيوط”. وكنت قد أهديت نسخة منه للدكتور بورايو أثناء لقائنا بالقاهرة عام 1996، على هامش مشاركته في الملتقى الدولي للمأثورات الشعبية المنعقد بالمجلس الأعلى للثقافة.
عبدالحميد بورايو واحد من أهم باحثي الأدب الشعبي في الجزائر والوطن العربي، له دور بارز في مقاربة أنواع الأدب الشعبي – لا سيما الحكاية الشعبية – وفق مناهج النقد الحديثة. من كتبه:
البطل الملحمي.
الأدب الشعبي الجزائري.
في الثقافة الشعبية (القضايا، التاريخ، التجليات).
الحكاية الخرافية للمغرب العربي (دراسة تحليلية في معنى المعنى لمجموعة من الحكايات.
القصص الشعبي في منطقة بسكرة.
المسار السردي وتنظيم المحتوى.
الكشف عن المعنى في النص السردي.
عيون الجازية.
قام د. بورايو (الأستاذ الذي يزيده التواضع بهاء) بنسخ الجزء النظري من دراستي، ووزعها على عدد من الباحثين المتخصصين في الأدب الشعبي، منهم الأستاذ محمد الأمين أستاذ الأدب الشعبي بالجامعة الجزائرية، والذي عُرف بدراسة رائدة حول الشعر الشعبي في منطقة سيدي خالد، وتتضمن إضاءة بحثية لـ “قصيدة حيزية” للشاعر محمد بن قيطون، وهو شاعر شعبي جزائري عاش في القرن التاسع عشر، وتسرد القصيدة قصة سْعَيِّدْ وحَيْزِيَّة، وكان لهذه الملحمة الشعرية أثر كبير في الشعر الشعبي الجزائري ذي الجذور البدوية. ولايزال الباحثين الشباب في الجزائر يستكملون حلقات البحث في هذه القصيدة، ومنهم الباحثة نعيمة العقريب التي حضرت اللقاء. كما حضره باحثون متميزون بدراساتهم في موضوعات متنوعة من الأدب الشعبي: د. عزي بو خلفة الذي أنجز دراسة حول “الروايات الشفهية للسيرة الهلالية، دراسة ميدانية في ولاية المسيلة”. والباحث عبدالحميد بو سماحة الذي أجرى دراسة موضوعها “المسير في تغريبة بني هلال، 2006). والباحث حميد بو حبيب الذي أنجز دراسة متميزة بعنوان “الغجري الأخير: دراسة نقدية تحليلية على شعر سي محند أومحند”، ويقوم بتهيئة دراسة أخرى حول الأشكال الشعرية الشفوية والبنيات الاجتماعية، دراسة ميدانية في منطقة القبائل. والباحثة فاطمة الزهراء حمادي التي أنجزت دراسة حول القصص الشعبي المنشور الموجه للطفل. ود. مصطفى قيصر الذي أنجز دراسة حول “الأدب الشعبي اللبناني”. والباحثة حسناء سعادة التي أشرنا إلى دراساتها سابقًا. فضلاً عن حضور بعض الطلاب والعاملين بمكتبة قسم اللغة العربية.
استهل اللقاء الدكتور عبيد رئيس قسم اللغة العربية، حيث أعرب عن ترحيبه بي في الجامعة المركزية، وتحدث – ببلاغة – عن أهمية الدراسات التي تهتم بالجانب الشفهي في حضارات الشعوب. ثم تحدث د. بورايو مضيئًا عددًا من القضايا التي أثارها الكتاب، ومنها:
قضية المصطلحات والمفاهيم في دراسة الأدب الشعبي.
مشكلة المنهج: أهمية الدراسات البينية في معالجة أنواع الأدب الشعبي.
المعالجة الإعلامية للفنون الأدبية الشفهية.
وضعية سيرة بني هلال بين الشفهي والمكتوب وما بعد المكتوب.
أهمية دراسة الأداء (الحركة والإيماءات).
ثم فتح د. بورايو الباب للنقاش لمدة ساعتين ونصف الساعة. انطوت المداخلات على أفكار ملهمة أفدت منها كثيرًا.
تركت د. بورايو وصحبه، ثم مشيت وحيدًا بوجه مبتسم، وبقلب تملؤه الشجون، وبعينين تغالبان الدمع، فها هي الرحلة توشك أن تنتهي، تمتعت فيها بحفاوة وكرم لن أنسى أصحابهما، وحظيت أعمالي باهتمام وعناية لم أنتظرهما.
لم أكن أحسب أنني على موعد آخر مع الجزائر بعد مرور أسبوعين على زيارتي الأولى لها، حيث أرسل لي الدكتور بورايو دعوة للمشاركة في ملتقى دولي حول الشفاهية والمنطوق والمكتوب، ينعقد في المركز الوطني لبحوث ما قبل التاريخ والأنثروبولوجيا والتاريخ. لبيت الدعوة الكريمة، وحضرت وزيرة الثقافة الجزائرية خليدة تومي جانبًا من مداخلتي حول حس النساء في سيرة بني هلال.