مشهد 3 – القاهرة 2005
داعبت مندوبة اليونسكو “السيدة جانيت” خيالي عندما استمعت إليها بمقر الجمعية المصرية للمأثورات الشعبية شتاء 2005، على خلفية بدء مشروع جمع روايات السيرة الهلالية، حيث وجهت سؤالها للحاضرين: لماذا لا تطرقون طريق الهلالية؟
أدركت أن السيدة جانيت تتحدث من منطلق اهتمام اليونسكو بطريق الحرير منذ عام 1988، هذه الطريق التي امتدت لمسافات طويلة بعيدة تصل إلى أقاصي الشرق بما يحوي من حضارات وعمران وآثار وعطر وبخور ولبان وتوابل، إلى جانب عالم ثري من الثقافة الروحية التي أنبتتها جبال الشرق السامقة. هذا الشرق لم يبخل بثرواته على بقية أنحاء العالم، فعمل على نقلها إلى أطراف بعيدة من الأرض وعبر طريق متشعبة أطلق عليها اسم “طريق الحرير”، وكان اسمًا على مسمى، فالحرير كان ولايزال من نتاج الشرق. ودار الزمن دورته، وطُمست طرق الحرير، وأصبحت أثرًا بعد عين، وكاد العالم أن ينساها.
لسنوات، لعب سؤال السيدة جانيت برأسي كثيرًا، فقد حمل “طريق الهلالية” دلالات شخصية بجانب الدلالة التاريخية والبحثية. تذكرت مغامرتي “المريرة” في جمع روايات السيرة الهلالية من محافظة أسيوط منذ عام 1996، فخسرت فرصة تعييني في الجامعة التي ضحيت كثيرًا من أجل أن أتعلم فيها، فأعمار الوعود قصيرة، وطريق الهلالية طويلة، ولم أأسف على ما خسرت. تذكرت أبي – متعه الله بالصحة – حينما نقم على اختياراتي بعد أن استطالت سنوات العمل في السيرة الهلالية، ولم يعد يتوقع أن يراني مثلما يرى أبناء أسعدوا آباءهم بالاستقرار في العمل والزواج. تذكرت صديق عمري الفنان عبده طه الذي داهمته الأزمة القلبية الثالثة، فجأة، ونحن نراجع شرائط الفيديو التي قمنا بتسجيلها لرواة السيرة في أسيوط، فمات بين يدي وتركني وحيدًا أشعر بلعنة الهلالية على غرار أسطورة لعنة الفراعنة.
كنت قد اتصلت – أثناء سنوات بحثي الأولى – بالمعلومات القيمة التي أوردها الباحث الجليل عبد الرحمن بن خلدون حول هجرات بني هلال وبني سليم من الجزيرة العربية إلى شمال أفريقيا عبر مصر، وحول التأثير الخاص لبني هلال وشهرتهم التي فاقت شهرة بني سليم. لقد تحدث ابن خلدون بشيء من الوضوح عن القبائل التي عاشت في الشرق والشمال الأفريقي، يعد كتابه “العبر” أكثر المصادر أهمية في موضوع “هجرة بني هلال وبني سليم” والأحداث المرتبطة بها، كما يعد وثيقة شاهدة على معاصريه من قطاعات المجتمع العربي في البادية والحضر. ولم تحظَ القبائل العربية بهذا القدر من الاهتمام التفصيلي الميداني الذي أبداه ابن خلدون في مقدمته وتاريخه شطر قبيلتي هلال وسليم ومن جاورهما في الشمال الأفريقي. لقد جمع ابن خلدون عددًا من الروايات التاريخية التي وردت بألسنة الهلاليين المعاصرين له في شمال أفريقيا، والتي لاتزال تروى – حتى هذه اللحظة – على ألسنة شعراء السيرة ورواتها في مصر وليبيا وتونس والجزائر، ومنها ما يذكره ابن خلدون قائلاً: “يزعمون [الهلاليون] أن الشريف ابن هاشم كان صاحب الحجاز ويسمونه شكر بن أبي الفتوح، وأنه أصهر إلى الحسن بن سرحان في أخته الجازية، فأنكحه إياها وولدت منه ولدًا اسمه محمد، وأنه حدث بينهم وبين الشريف مغاضبة وفتنة، وأجمعوا الرحلة عن نجد إلى أفريقية، وتحيلوا عليه في استرجاع هذه الجازية، فطلبته في زيارة أبويها، فآزرها إياهم… فارتحلوا به وبها وكتموا رحلتها عنه…”.
يضع الراوي الشعبي قصة الجازية وشكر الشريف في سياق درامي ممتع، على نحو ما وجدته في الرواية التي جمعتها من الأخوين عنتر وشداد عز العرب.
كان بديهيًا – وفقًا لابن خلدون – أن يحتل المدخل التاريخي جزءًا رئيسًا من دراسات الهلالية التي أنجزت في المغرب العربي (ليبيا وتونس والجزائر، على وجه الخصوص)، حيث تتصل السيرة الهلالية بالجانب التاريخي لأقطاره. يعبر عن ذلك ما تذكره الباحثة الجزائرية د. روزلين ليلى قريش في مقدمة الطبعة الجزائرية للسيرة، حيث ترى أن السيرة “توافق التاريخ في خطوطها العريضة، لكنها تركت العنان للخيال على مر الزمان ليبدع ويخترع، إلى أن أصبحت السيرة تسجل لنا قصصًا عجيبة وجذابة في آن معًا، تبث في الأنفس الدهشة والإعجاب وتجعلنا نعيش أحداثها ونتفاعل مع أبطالها، كما تبرهن لنا السيرة من خلال مغامرات أبطالها على أنهم أجداد لأغلب أبناء وطننا، وهم يتحركون في سيرتهم المذهبة بين الأسطورة والتاريخ”.
وفي هذا السياق، أنجز فريق ميداني بجامعة عنابة الجزائرية بإشراف الدكتور محمد عيلان بدأ منذ سنوات مشروعًا لجمع روايات السيرة الهلالية في الجزائر بالوسائل المرئية والصوتية، وطرح الباحث التونسي محمد المرزوقي دراسة حول “منازل الهلاليين في الشمال الإفريقي”، والتي رصد فيها القبائل والعائلات التي تنتمي إلى بني هلال ورياح وزغبة ودريد وبطونها وغيرها في كل من تونس والجزائر والمغرب الأقصى وموريتانيا. أما الدراسة التي أعدها الباحث الليبي علي محمد برهانة، ونشرتها كلية الآداب والتربية بجامعة سبها الليبية، فتعد نموذجًا للدراسات المهمة في موضوع السيرة الهلالية، وتكمن أهميتها في جمعها لست روايات شفاهية من الرواة الليبيين، وأراد لها الباحث أن تتصل بالمدونات التاريخية التي تحدثت عن بني هلال وأشعارهم وهجرتهم إلى الشمال الأفريقي، ومرجعه الرئيس في ذلك ما ذكره ابن خلدون في مقدمته. وبجانب المدخل التاريخي، يقدم د. برهانة مدخلاً اجتماعيًا، فمدخل الدراسة الأدبية، ثم مدخل الدراسة المقارنة. ويختتم كتابه بملحق بالنصوص الستة المجموعة ميدانيًا.
وبالرغم من المجهود الطيب الذي اكتنف المداخل المذكورة، وتمثل – في تصوري -امتدادًا لعمل الدكتور عبدالحميد يونس”الهلالية في التاريخ والأدب الشعبي”، فإن الروايات التي جمعها الباحث برهانة وردت دون شرح للمفردات وللعبارات ودون أية تعليقات شارحة، مما يصعب فهمها على القارئ غير الليبي، وربما الكثير من الليبيين أنفسهم غير العارفين بلغة البدو وتراكيبها وأصواتها، وهي الملاحظة نفسها التي أكدت عليها د. نبيلة إبراهيم في تقديمها للدراسة؛ حيث تمنت لو اكتمل العمل بالاهتمام بالروايات الشفاهية شرحًا وتعليقًا.
لا يفوتنا هنا الإشارة إلى واحدة من التجارب الجادة في مجال تدوين السيرة الهلالية، وهي التجربة المبكرة التي أجراها الباحث التونسي الطاهر قيقة (1922 – 1993) على واحد وثلاثين نصًا بدويًا للسيرة الهلالية، جمعها والده عبد الرحمن قيقة عام 1927 من راوٍ ليبي كان يتردد على عمال التراحيل الليبيين بتونس، حيث قام بتدوين هذه النصوص بلهجة راويها التي يغلب عليها طابع المنطقة الصحراوية الليبية التونسية، وعمل على تشكيل حروف كلماتها، تيسيرًا على القارئ غير البدوي. كما قام بنقلها إلى الفصحى في صفحات مقابلة.
بعد أن قدم د. أحمد مرسي فصلاً ضافيًا خاصًا بالأداء والمؤدين ضمن فصول كتابه “مقدمة في الفولكلور” – وكانت الأعمال البحثية الفولكلورية العربية (الميدانية والنظرية) التي اتخذت من “الأداء” موضوعًا لها، تتسم بالندرة الشديدة – شهدت الدراسات الفولكلورية العربية في مجال تحليل “الأداء الشفاهي” اتساعًا وتطورًا ملحوظين، نخص بالذكر دراستين تخصصا في أداء السيرة الهلالية.
الدراسة الأولى، تتعامد على الأداء الموسيقي للسيرة الهلالية، وهي الدراسة الأكاديمية المهمة التي قدمها محمد أحمد عمران حول الوحدة والتنوع في طرائق الأداء الموسيقي للسيرة الهلالية، حيث تعالج مختلف الأساليب وطرائق الأداء التي ارتبطت بالهلالية في مصر (الصعيد الأعلى، الصعيد الأدنى، الوجه البحري). وهي الدراسة الأولى – والوحيدة حتى لحظة كتابة هذا المقال – التي عالجت موضوع أداء الهلالية من الوجهة الموسيقية. وتتمثل نواة هذه الدراسة في الورقة التي قدمها د. عمران تحت عنوان: “الخصائص الموسيقية لرواية السيرة الهلالية في مصر”، ضمن أعمال الندوة العالمية الأولى لسيرة بني هلال التي انعقدت في منطقة الحمامات بتونس عام 1980، ونُشرت أوراقها عام 1990، وهي نفسها الندوة التي قدم فيها الأستاذ عبد الحميد حواس ورقته المتميزة حول مدارس رواية السيرة الهلالية في مصر.
أما الدراسة الثانية، فهي دراسة د. محمد حافظ دياب المعنونة بـ”إبداعية الأداء في السيرة الشعبية”، وهي واحدة من الدراسات العربية المهمة في موضوع الأداء، حيث تتسم بالحنكة المنهجية التي أسستها خبرة صاحبها العريضة في مجال الدراسات السوسيولوجية، وعلاقاته الوثيقة بالحقول المعرفية الأخرى، كالأنثروبولوجيا والفولكلور والنقد الأدبي، مما جعل دراسته تتمتع بالاتساع النظري. أما الجانب التطبيقي، فينهض على سيرة بني هلال، حيث قام د. دياب بتجربة ميدانية لجمعها من قرية “زاوية جروان” التابعة لمركز الباجور محافظة المنوفية، غير أن الكتاب – بجزأيه – قد خلا من الروايات التي أُشير إلى جمعها كثيرًا، كما أن الاستشهاد بها كان نادرًا للغاية. وقد سبقت هذه الدراسة النظرية الموسعة، عددًا من الأوراق البحثية التي شارك بها د. دياب في مؤتمرات وندوات عدة، بدءًا من بحثه: “السيرة الشعبية؛ مقاربة في منهجية إعادة الإنتاج” الذي شارك به في “ندوة السيرة الشعبية العربية” التي عقدتها كلية الآداب، جامعة القاهرة، في يناير 1985، وانتهاءً بالورقة التي قدمها د. دياب تحت عنوان “السيرة الشعبية؛ إبداعية الأداء”، نشرت عام 1993، ولعلها حصيلة مشاركته في مؤتمر “الإبداع والحرية” (طرابلس، ليبيا، 1989).
دفعني سؤال السيدة جانيت إلى التفكير في اقتفاء “طريق الهلالية” الطويلة المتشعبة بين اليمن وعمان ونجد والحجاز والبحرين وإيران والعراق والشام ومصر وليبيا وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا وبعض مناطق وسط أفريقيا. لم يكن مدهشًا أن تختمر الفكرة نفسها في رأس صديقي “هشام عبد العزيز”، فتجربته المتميزة في مجال تحقيق التراث كانت كفيلة بأن يرتاد الطرق الغامضة والوعرة، مثلما علمني العمل الميداني ارتيادها، التقينا عند محطات عدة على طريق الهلالية، وكان علينا أن نبحث سويًا عن المجهول في هذا الطريق التي سلكها الهلاليون، إِنْ في التراث المدون الذي يعرف هشام أضابيره، أو في الروايات الشفهية التي عزم عدد من الباحثين الميدانيين على جمعها، ومثلما سلك الهلاليون طريقهم جماعة، فإننا نقتفي أثرهم الشفهي جماعة أيضًا.