شاهد على الفقر .. يوميات أنثروبولوجي داخل شوارع الأردن
محمد تركي الربيعو
على امتداد عقدين تقريبا، والأنثروبولوجي الأردني أحمد أبو خليل، مشغول ومهموم بحياة الفقراء في الأردن، فخلال العقود الأخيرة أخذت عمان، وغيرها من المدن تشهد انقسامات طبقية، وجغرافية، وحتى انقسامات على مستوى الأذواق والطعام، ولذلك سيدفعه هذا الانقسام إلى أخذ قرار السير في أحياء ومناطق العشوائيات والفقراء في مدن الأردن؛ في كل صباح، كان هذا الأنثروبولوجي الأصلي، وفق تعبير حسن رشيق، يركب سيارته (البيك آب) القديمة، ليسير في طرق الأردن، يوما في الزرقاء، وآخر في معان، وأحياء أخرى على أطراف عمان. وستمكنه هذه الأسفار من رسم صور دقيقة عن مجتمع الفقر، وأهله، وأعمالهم، ونكاتهم وغيرها من المسائل في عدد من الدراسات والمقالات.
مؤخرا، نشر أبو خليل مجمل ما كتبه في مؤلف بعنوان «شاهد على الفقر»/الآن للتوزيع والنشر. ولعل أول ما يلفت نظر القارئ وهو يتصفح هذا المؤلف، أننا لسنا أمام باحث كلاسيكي، يغرف قليلا من النظريات، ليطابقها مع مشاهداته المبعثرة هنا وهناك، وإنما نعثر على باحث أقرب ما يكون للروائي، يرسم لنا صور الحياة اليومية داخل هذه الأماكن المهمشة، وينقل لنا كلامهم، وأحيانا ما تقوله عيونهم، ولذلك فهو لا يشغل القارئ بنظريات ومقاربات لا يفهمها أحيانا حتى المثقفون، بل نراه يتسلح بوظيفة الإثنوغرافي الأساسية، وهي الوصف، والقرب من المشهد، ومراقبة القصص الصغيرة، ونقلها لنا بعفوية وحرارة.
بدأت رحلة أبو خليل منذ عام 1998، كانت أقرب إلى الهواية، كما يقول، وربما الهوس، إذ كان مولعا بها سعيا وراء التعرف على الاستراتيجيات الذاتية عند الفقراء الأردنيين لمكافحة فقرهم. ستكشف له هذه الجولات أن فقراء الأردن ليسوا كسالى ومحبطين، ومنتظرين لما تخطط له الحكومات، بل نراهم يندفعون لاستراتيجيات متعددة للبقاء على قيد الحياة.
يبدأ فصول كتابه من وسط العاصمة، عند نهاية القرن العشرين، من خلال رصد حياة البسطات والعاملين عليها؛ فخلال السنوات التي مرت منذ ذلك الحين، تغير وسط عمان كثيرا، من جميع النواحي، حتى في مفردات اللغة التي يستخدمها الناس. فعلى مقربة من مجمع رغدان، يلاحظ أبو خليل مجموعة من البائعين وهم يبيعون الدخان؛ يتميز سلوكهم بالعنف تجاه بعضهم، أما كلامهم وصراخهم فيتميزان بتدني المستوى الأخلاقي، وبعضهم يعمل مع أبيه، ومع ذلك، فالولد يعامل أباه كما يعامل زميله، ويخاطبه بلغة الشارع التي تعود عليها، فهناك تفكك اجتماعي واضح، إضافة إلى الحديث عن سرقات تحدث، بعكس بائعي البسطات، الذين تتميز علاقتهم بشيء من الاستقرار والتعاون والاحترام، خاصة في ما بين المجموعة التي اتخذت من «التبسيط» مهنة دائمة، ويحدث في بعض الأحيان أن يترك أحدهم بسطته لبعض الوقت، فيقوم جاره بالإشراف عليها، بما في ذلك البيع لصالح زميله الغائب. يقوم هذا التضامن على معادلة شبيهة بالقاعدة التي حدثنا عنها مارسيل موس في كتابه «الهبة» إذ يقوم أفراد القبائل بتقديم الخدمات والهدايا لبعضهم، مقابل الحصول عليها لاحقا، وعلاقات أصحاب البسطات شبيهة، فهم يحفظون بسطة جيرانهم ومقتنياتها من السرقة، خلافا للصورة الدرامية التي تظهرهم أحيانا عبارة عن مجرمين أو محتالين، وفي المقابل سيحصلون على الخدمة ذاتها لاحقا.
ومما يلفت النظر هنا، أن التضامن لا يقتصر على هذا الجانب، بل نراهم يتكاتفون عند مداهمة دوريات أمانة عمان، فوسط هذا الاكتظاظ والصراخ والمناداة، ينطلق من بعيد صوت: «إرفع..إرفع.. إرفع.» وإذ بالسوق ينتفض مرة واحدة.
ويبدو أن جوا وديا يسود السوق، فهناك ممازحات دائمة في ما بين الباعة، ويختار كل منهم عبارات ذات سجع وموسيقى خاصة للمناداة على البضاعة، مثل: «البس يا لبيس من كندا ومن باريس». بعد التجوال في عالم البسطات، يصطحبنا أبو خليل إلى وسط مدينة عمان، ليلاحظ ما حدث في المدينة من انقسامات طبقية على مدار العقود الأخيرة، كان الروائي الراحل عبد الرحمن منيف، في روايته «سيرة مدينة.. عمان في الأربعينيات» قد كتب عن ذكرياته عن تلك الفترة، ومما يذكره أن الطلاب الذين كانوا يذهبون للمدرسة بالسيارات غالبا ما كانوا يشعرون بالحرج، إن لم يكن من زملائهم فمن الأساتذة، ولذلك كانوا يخرجون بسرعة، أو يتأخرون لكي يتفادوا النظرات. وهنا، يلاحظ أبو خليل أن الحرج الذي كان يشعر به أثرياء عمان بالأمس اختفى إلى حد التلاشي، وأخذ الأثرياء بسلوكهم الحالي يتسببون بالحرج للجميع حولهم. إذ بين منيف مثلا أن تأسيس سوق اليمانية، وهو أول سوق متخصص في بيع الملابس المستعملة، شكّل ظاهرة تمييز بين الفقراء والأغنياء في العاصمة، بيد أنه لم يكن تمييزا فاحشا، وقد عاشت ظاهرة الفقر في عمان زمنا طويلا، متخفية إلى أن اتضحت وغدت بارزة للعيان منذ نهاية سبعينيات وبداية ثمانينيات القرن العشرين، حينها اشتهر تعبير «عمان الغربية» و«عمان الشرقية» وكان ذلك يجري همسا بين الناس في الفترة الأولى. ومما يلاحظه كذلك أنه بات يراد لوسط العاصمة أن يتحول إلى ما يشبه الفلكلور، ولكن غير المتقن في كثير من الأحيان، إذ يجري الدفع بالأوساط الشعبية إلى مواقع أخرى، ومؤخرا، نفذت عدة خطوات خلخلت السلوك التنقلي للناس، خاصة القادمين منهم من شرق عمان وجنوبها، فقد نقلت مواقف السيارات إلى مواقع أخرى تحت شعار تحديث وسط العاصمة، وتحويله إلى نقطة جذب سياحية، وبقدر من التعالي، صدرت «مواقف رسمية» طالبت أن لا يكون وسط العاصمة مجرد ممر لركاب المواصلات، لأنهم يتسببون بأزمات واختناقات مرورية.
الأسواق الشعبية
نعثر في فصل آخر على سيرة الأسواق الشعبية في المدن الأردنية، فهذه الأسواق قد كونت ما يعرف بالقطاع «غير الرسمي» إذ يخلق الناس فرص عملهم بأيديهم، بعيدا عن القطاع الرسمي بشقيه العام والخاص، وهو الآن يمتلك خبرة عملية تمتد لعقود في مجالات من الصنف ذاته تقريبا. يتناول أبو خليل تواريخ بعضها مثل سوق الخميس، الذي كان يقام عند الدوار الثالث بعمان، قبل أن يتأسس سوق العبدلي الذي سمي «سوق الاثنين» ثم سمح لهم بيوم الأربعاء في المكان، وسمي «سوق الأربعاء» وكان يقام في الموقع الذي يشغله الآن، أحد مباني شركة الاتصالات في الجزء الشمالي من منطقة مجمع العبدلي للنقل، قبل أن يمتد على كامل مساحة مجمع العدلي للنقل، خلال أكثر من ثلاثة عقود من عمر الأسواق الشعبية، أقيم 46 سوقا في مناطق متعددة شملت عمان وسحاب والجيزة، أغلق بعضها، وبعضها ما يزال قائما، بيد أن الملاحظ أن اختيار الباعة بأنفسهم لموقع السوق يكون في العادة خيارا موفقا، بينما لم يحالف النجاح أغلب المواقع التي كان اختيارها مكتبيا من قبل المسؤولين بعيدا عن معرفة واقع المنطقة ذات العلاقة وحركة السكان فيها.
وخلافا لما يتوقعه بعض المشاهدين من الخارج، تتوفر داخل هذه الأسواق درجة عالية من تنظيم السوق، حتى يكون ذلك مناسبا للتسوق، فالجهة على اليمين يحتلها باعة الخضار بينما باعة ملابس البالة إلى الداخل.
عمان بعيون عامل نظافة
من الدراسات الطريفة والجريئة في الكتاب، دراسة لحياة عمال المراحيض العامة ورؤيتهم للمدينة، إذ لم يعتد مستخدمو المراحيض على النظر إلى وجه ذلك العامل الذي يفتح يده لكي يقبض قطعة النقد تلك، فالمشهد المعتاد هو أن يلقي الزائر بقروشه في اليد المفتوحة ويندفع مسرعا إلى الداخل، وهنا سيقرر أبو خليل التوقف قليلا عند أحد هؤلاء العمال، ليكشف لنا أن للمدينة مفهوما آخر، إذا ما نظر إليها من موقع ثابت على باب أحد مراحيضها. سيتطرق لحياة سامي (أحد العمال) الذي يحمل شهادة بكالوريوس في الشريعة من جامعة بغداد، وسبق أن عمل في التدريس على حساب التعليم الإضافي. لا يقل يوم العمل عند سامي عن 14 ساعة يوميا، ويتلقى مقابل ذلك مبلغا صغيرا قيمته 175 دينارا (250 دولارا تقريبا) ولا يتمتع هو وزملاؤه بأي نوع من الضمان أو التأمين، ويتسلم راتبه الشهري بعد أن يوقع على ورقة أنه قبض كامل حقوقه. ينتقل سامي بين المراحيض المتعددة المتوزعة في كافة أنحاء العاصمة، ولكنه يقول إنه لو خير بينها لاختار مراحيض المجمع الجنوبي الواقع قرب دوار الشرق الأوسط. فعلاقة المواطنين بالمراحيض لها خصائصها، وتختلف من موقع لآخر، كما تختلف بين فصول السنة، وبين الأوقات المتعددة في الشهر الواحد، مثلما تختلف حسب المواطنين. هنا أيضا يزداد العمل مع بداية الشهر عندما يقبض الناس رواتبهم، بينما ابتداء من أواسط الشهر، يبدأ الناس بالضغط على أنفسهم، وفي أيام الذروة تختلف من مرحاض لآخر، ففي مرحاض وسط البلد، يوم الجمعة هو يوم ذروة، بينما في مرحاض العبدلي يعتبر يوم الجمعة يوما ضعيفا، أما في مرحاض مجمع الجنوب فإن يوم السبت يوم جيد بالنظر إلى قدوم الناس والطلاب إلى العاصمة في ذلك اليوم.
ويتنوع سلوك الزبائن قبل الدخول وبعده؛ هناك زبائن دائمون من المتواجدين وسط البلد، وهؤلاء يلتزمون بالدفع، ويحرصون على نظافة المرحاض، بينما هناك من يحاول التملص من الدفع.
وفي دراسات أخرى يدرس حياة العتالة، وكيف أن العتالين أخذوا يتحسرون على قطاع عمل أسسوه ونظموه ذاتيا، ثم خسروه نتيجة لضعف مركزهم تجاه الجهات الرسمية ذات الصلة، والتي أعادت تنظيم هذه المهنة في بعض المناطق تحت عناوين التطوير والمأسسة، وفي أماكن أخرى نراه يراقب حياة التوتر بين المولات ودكاكين الحارات، ففي المفرق، يقول له أحد البائعين أن زبائنه يشترون حاجياتهم كل يوم بيومه، بل كل وجبة بوجبتها، وقلة منهم الذين يتمكنون من التبضع لشهر أو أسبوع، كما أنهم اعتادوا الشراء بالدين، أو «الشراء على الدفتر». مع ذلك يلاحظ أبو خليل أن فتح المولات أخذ يؤثر في استراتيجيات مئات المتقاعدين أو كبار السن، إذ يعتبر «فتح دكان» من مجالات العمل التي لا تحتاج إلى مهارات كبيرة، أو إلى أموال كثيرة، وهذا ما يزيد من حالة الفقر داخل المدن الأردنية.
حياة في العراء
ومن الفصول المفاجئة والمؤلمة، فصل عن وادي الحدادة وسط العاصمة، الذي يعد من أقدم أحياء عمان الشعبية. يقطنه عشرات الآلاف من الفقراء القادمين إلى عمان من شتى مدن الأردن وفلسطين، ولعل مصدر المفاجأة هنا، أن القارئ قد يتوهم للحظة أنه أمام مشهد من مشاهد الأحياء العشوائية، التي عادة ما تعرضها لنا السينما المصرية، بيد أنه سرعان ما سيكتشف أنه أمام صورة قد تكون أكثر قتامة من عالم السينما، ففي هذا الحي تتكدس مئات البيوت، لا يفصل بينها سوى أدراج متنوعة. سنرى أن السكن حول الأدراج يعني أن هناك نمطا خاصا للحياة بالنسبة للساكن، كما يغيب هنا مفهوم الشارع، ولا وجود لحيز عام باستثناء الدرج والجامع، ويعتبر هذا الحيز المكان الوحيد لالتقاء الناس معا. من ناحية أخرى غدت المنطقة، كما يقولون، مرغوبة من قبل المغتربين الذين يقصدونها لاستئجار بيوت فيها، بعد أن عرف أنها تؤجر البيوت «للعزاب» من العمال المصريين والسوريين والعراقيين. ولا توجد في هذا الحي وسائل للتخلص من نفاياتهم سوى بإلقائها على الدرج مباشرة، ولا يعتبر المرور بالدرج آمنا في ساعات الليل، فمن النادر أن تخرج سيدة أو بنت إلى الدرج ليلا، وحتى الشرطة إذا أرادت ملاحقة شخص من أبناء الحي، فإنها تجد صعوبة في ذلك.
وفي الهاشمية الواقعة في شرق شمال مدينة الزرقاء، سرعان ما ستصاب بالدوار والتعب، أثناء حديث أبو خليل عن الرائحة التي تداهمك في هذه المنطقة، بسبب المعامل. وما يلفت النظر هنا، أن عمارة المنازل قد تأثرت بعض الشيء بهذه الروائح، إذ غالبا ما يبني الأهالي بيوتهم آخذين بالاعتبار اتجاه الريح. وأمام هذه الصور القاتمة، يحاول المؤلف أن يهون علينا قليلا من خلال حديثه عن بلدة المزار في الشمال، وعلاقة أهلها بالنكتة؛ ولعلهم وجدوا في عالم النكتة بعض الفسحة، التي تسمح لهم بمواجهة ظروفهم الصعبة والمؤلمة.
وفي الكتاب تفاصـــــيل عديدة عن حياة الأحياء الهامشية ومشاهد من الفقر مخيفة، ولا نبالغ في هذا الوصف، لدرجة أن القـــارئ قد يتوصل في نهاية قراءته لهذه الوثيقة الاجتماعية، إلى أن الأردن يقف على تلة رخوة، وأن السياسات الحكومية قد ساهمت أحيانا في تفاقم هذه الهشاشة، وأنه لا بد من التحرك، وإعلان الطوارئ، لا لإغلاق المنظمات، كما يجري عادة، بل للدفع بالجميع للبحث عن حلول واقعية، في وقت تشهد فيه المنطقة موجة من العنف والفقر، واللجوء غير معروف نهايتها وآثارها…
المصدر:القدس العربي
الرابط: t.ly/IzOq