بقلم : د. رامي ناصر
إن الخوض في غمار تراثنا الخصب مسألة مشوقة ، ضرورية رغم صعوبتها . فهي مشوقة لما يحتويه تراثنا من رموز تشكل هويتنا
، صعبة نظراً لقدم وتشابك تلك الرموز بحيث أنها في الكثير من الأحيان تختلط فيصعب إستسقاء مصدرها الأساسي والوقوف على التحولات والتغييرات التي لحقت بها عبر السنين . وما رمزية الحيوان إلا إحدى أهم اللبنات التي شكلت ثقافة القرية وذلك لأهمية الحيوان في حياة وإستمرارية القروي . يقول جيلبير دوران “إن كل دراسة للأنموذجات الرمزية يجب أن تفتتح بقاموس الحيوان ، وأن نبدأ بتأمل عالمية وشعبية الرموز الحيوانية”[i]
نتطرق اليوم في مقالتنا هذه إلى رمزية الحيوان في تبصير الفنجان.
داخل فنجان القهوة الناشف تظهر تكتلات البن الجاف على عدة أشكال ، يراها البعض عادية والبعض الآخر يحلو له أن يفسرها للآخرين ، فإذا بهم يصدقون التوقعات والإفتراضات، ليبنوا تصرفاتهم ومواقفهم على أساسها . إنه التبصير الذي يعتمد على طرفين : قارئة الفنجان الخبيرة في طرح التأويلات وترجمة خطوط القهوة المتشكلة في الفنحان ، والشخص الذي يسعى إلى معرفة مستقبله بلهفة الباحث عن المواقف الإيجابية.
إن مرحلة قراءة الفنجان تبدأ بطريقة صنع القهوة ، ثم كيفية تركيز الأفكار عند شربها (تحديد الأفكار وحصرها بالأمور التي نرغب بالإطلاع عليها ، لذلك يجب التنفس بهدوء ، فالتنفس هو عنصر ضروري) ، وطريقة طب الفنجان ، مروراً بتحديد الأشكال والمعالم المكونة فيه.
- تصنع القهوة خصيصاً للشخص الذي ننوي التبصير له.
- عدم إضافة سكر أو أية مواد أخرى للقهوة.
- غلي القهوة لمدة دقيقتين.
- توجيه الفنجان لجهة اليسار أثناء طبه.
- عدم صب القهوة في الفنجان المراد التبصير فيه إلا مرة واحدة فقط.
- بعد طب الفنجان الإنتظار أربع دقائق قبل تحريكه.
يجب التنفس بهدوء ، فالتنفس هو عنصر ضروري لظهور الرموز والصور في الفنجان ، فارتباط تفاعلات الإنسان مع محيطه ، تنتقل من خلال ملامسة الفنجان وعبر الشهيق والزفيرأثناء شرب القهوة ، وهو الموجه الأساسي لتكوين الأشكال والصور فيه.
وما يهمنا في مقالتنا هذه الأشكال الحيوانية وتفسيراتها المختلفة وتحليل التفسيرات ومقارنتها مع خصائص كل حيوان ومدى تأثيراتها في المجتمع المدروس.
إن حلقة الفنجان هي نقطة الإنطلاق لقراءته ، بحيث توجه الحلقة إلى جهة اليسار ويُقرأ الفنجان من الشمال إلى اليمين ثم يقرأ قعره.
إن إيجابية الأفكار ضرورية ، فالقراءة تعتمد على الحدس المرتبط كل الإرتباط على حل الرموز المتشكلة في الفنجان.
هناك عدة إعتبارات تتداخل لتحدّد عملية قراءة الفنجان (تؤخذ بعين الإعتبار عند القراءة( :
- لون الفنجان:
- الفاتح:يعني الايجابية والقلب النقي
- اللون العادي:الحياة الهادئة.
- الغامق اللون:يعني الحزن.
- أقسام الفنجان ودلالاتها:
- قعر الفنجان:يرمز الى المنزل او مكان العمل.
- جانب الفنجان:يرمز الى المحيط الاجتماعي.
- حلقة الفنجان:ترمز الى توقيت الاحداث.
- خطوط الفنجان:
- الخطوط الثعبانية:تعني الاحباط.
- الخطوط العشبية:تعني الحيرة.
- الخطوط المختلفة الملامح:تعني تنوع الحياة.
إن طريقة تحليل الرموز تبدأ بتصنيف لون الفنجان بعدها تحديد موقع الأشكال ثم بتعين الخطوط. إن تشخيص الفنجان أساساً ناتج عن عملية إندماج بين تفل القهوة وذرات الإنسان ينتج عنها أشكالاً ورموزاً وخطوطاً ما هي إلا رموز شارب الفنجان .
إن هناك شبه بين ميزات وجه الإنسان وخطوط وجه الحيوان ، وبما أنهما يتشابهان في غرائزهما ، فإن الجزء الكبير من قراءة الفنجان يركز على تشخيص أشكال الحيوان .
فالحيوانات ذوات الجباه العريضة كالأسد والنمر هي مفترسة ومن طبيعتها الهجوم و التعدي . نلاحظ أن الأشخاص ذوي الجباه العريضة في معظمهم هجوميين وأقوياء.
والحيوانات ذوات الجباه الضيقة كالخراف والحمير فإنها ضعيفة وجبانة ، تماماً كما هو حال الأشخاص ذوي الجباه الضيقة ، معظمهم منطوين على ذاتهم والخوف يتملكهم .
وهكذا في قراءة رموز الفنجان ، تشبّه صورة الحيوان بشخصية إنسان شبيهة له ، ويوصف تبعا لشخصيته ولغرائزه الحيوانية المعروفة.
إن قراءة الفنجان هي أمر وراثي ينتقل من إلى ، فالبنت كما يقال في مجتمعنا سر أمها ، تحمل ما تحمل وتقلد ما تراه من تصرفاتها ، تحفظ ما تسمعه فيأتي التطبيق جبلة من مكنونات ماضية وحقائق وتجارب آنية . فكما يقول المثل الشعبي (طب الجرة عَـ تمها بتطلع البنت لَـ إمها) . فالإبنة التي تساعد أمها في أعمال المنزل وأعمال الضيافة وتشاركها مجالس النسوة ، صفحة بيضاء يحط فيها ما يدور وما يجري في هذه الإجتماعات .
ومن خلال العلاقة الحميمة مع أمها و/أو جدتها ، مصاغة بأسلوب محيطها الاجتماعي ، يعطيها ويوجه جزءاً من إهتماماتها إلى قراءة الفنجان ، كعادة متوارثة من جيل إلى جيل . فمن دون نكهة قراءة الفنجان وتحليل رموزه لا تحلو الصبحية أو السهرية ، وقراءة الفنجان لا تكتمل إلا بالرموز الحيوانية ، فيطيب الحديث واللقاء حول تفسيرات الفنجان وتأويلات القارئة والكشف عن الأمور التي تثير إهتمام النسوة : كالأزواج ، صحة الزوج ووفائه ، والوضع المادي ، وغيرها من الأمور التي تهم النسوة . فيكون له الوقع المميز على المستمعات ، إذ ترتبط هذه الرموز الحيوانية بمخيلتهن بأمور شديدة الشبه لما يفكرن به ولما يظننه أو يتوقعنه من كل حيوان (فالكلب = صديق ، مثلاً ، والعقرب = عدو) .
ولا بد لقارئة (أو قارىء الفنجان – الذي بات ظاهرة شائعة في أيامنا –) القدرة على :
- تشخيص الشكل أو التشبيه : فالشكل الذي تراه في الفنجان يحتاج إلى دقة لإستبيان مدى مقاربته لشكل الحيوان الحقيقي . ومن الملاحظ أن الحيوانات التي تختارها القارئة هي حيوانات مشهورة ومعروفة في البيئة والمحيط الذي تعيش فيه القارئة والمستمع صاحب الفنجان . وإن خصائص هذه الحيوانات موجودة في ثقافته ويملك حيالها المستمع قرباً إنفعالياً وجدانياً واحداً. إن هذا البعد الوجداني في الذاكرة الجماعية الشعبية ، قريب إلى درجة أن تفسير الرموز الحيوانية وما تدل و تشير إليه ، يبقى واحداً عندهم ، وذلك أن المسافة بين القارئة والمستمع من جهة ، وما يشير إليه الرمز الحيواني من جهة أخرى هي واحدة ، أي أن الرمز يولّد نفس الشعور وله ذات الوقع في نفوسهم .
- تفكيك الرموز إلى كلام يتوافق وسياق الشرح العام ويراعى فيه نفسية وبيئة الفرد . وتجدر الإشارة إلى وجود توافق في المجتمع المحلي حول بعض الرموزوالأشكال الحيوانية المستخدمة وتفسيراتها . ففي البيئة نفسها أو المحيط تتبادل البصارات المعطيات الرمزية نفسها وذلك بما يتوافق وثقافة المكان . ولكننا نرى الإختلاف في دلالات بعض الرموز الأخرى ، كما الإختلاف في القراءة بين البصارات على إختلاف إنتمائهن البيئي ، وبالرغم من وجود بعض الرموز الحيوانية التي يجوز فيها الجنسين ، نلاحظ أن معظم الرموز الحيوانية أنثوية ، وكأن الأمر يرتبط بما تعيشه المرأة
بشكل عام ، أو كأنه يرتبط بالنظرة إلى المرأة (نظرة المجتمع إليها) وكيفية ربطها مع هذه الرموز الحيوانية الأنثوية . فالأمر يعود إلى مجرد رغبة نسوية بالسيطرة على هذا المجال ، ومن خلاله وبطريقة غير مباشرة ، محاولة لإسترجاع سيطرتها المفقودة في المجتمع . فالمسألة تختصر بوجود إمرأة في جلسة ثرثرة نسائية تقرأ فناجين صاحباتها . وقد أسرّت لي إحدى القارئات بأن فنجان القهوة العربي أفضل في عملية التبصير ، لأنه (حسبما قالت) “بيطلع حكي أكتر” ، وهذا له إرتباط بالأصول العربية وإعداد القهوة ومجالس النسوة.
كاتب المقال : د. رامي ناصر : باحث أنثروبولوجي من لبنان ، خبير في دراسة الواقع وإعداد خطط التنمية الإستراتيجية ، مسؤول فريق إعداد الخطط في وكالة التخطيط والتنمية – البقاع (لبنان) ، مشارك ومعد لأكثر من ورقة بحثية في الأنثروبولوجيا الثقافية وفي التاريخ الريفي ، مهتم بمواضيع التراث الشعبي والتراث الثقافي اللامادي .
الهوامش :
[i] أنظر جيلبير دوران ، الأنثروبولوجيا (رموزها ، أنساقها وأساطيرها) ، ترجمة مصباح الصمد ، دار مجد ، بيروت ، ط1 ، 1991 ، ص45 .