موقع أرنتروبوس

رأس المال التاريخي

رأس اللا التاريخي

عبدالرحمن بن عبدالله الشقير

يقصد برأس المال التاريخي في أبسط معانيه: التعامل مع التاريخ باستخدام مفاهيم الاقتصاد، مثل: امتلاك رصيد كبير من المعلومات التاريخية وحسن إدارتها وتوظيفها، ورصد من الأحداث والمنجزات للدول وللبيوتات الحاكمة والبيوتات العلمية والتجارية…، والاستثمار فيها ومراكمتها، وتوزيع الاستثمارات ما بين كتابة وإنتاج أفلام ومسلسلات وصوتيات، بشرط التسويق لها، وأن تعرض على السوق التاريخية التي يكون لها تقييم اجتماعي، والسوق التي يعرض فيها التاريخ إما تكون مؤسسات بحثية متخصصة أو مجالس العامة ووسائل التواصل، وكل مكان يلتقي فيه ناس يتذوقون التاريخ، وأن يكون لها إما عوائد اجتماعية واقتصادية أو خسائر.
وإذا كان تخصص التاريخ لا يحظى بتقدير في سوق العمل، فإن خريج التاريخ لا يجد وظيفة تناسب تخصصه، وبالتالي فإن تقييم التاريخ في سوق العمل منخفض، وتتجه كثير من الجامعات إلى عدم تدريس التاريخ كتخصص ومسار أكاديمي لهذا السبب، ومع ذلك يحظى التاريخ القديم والآثار بتقدير في السوق الحكومي لارتباطه بالسياحة والتوثيق في المنظمات الدولية.
يوجد ثلاثة أسواق تعرض فيها المعلومات التاريخية، ويتحقق رأس المال التاريخي فيها، وبالتالي تتحقق لها عوائد اجتماعية واقتصادية على مالكها، وهي:
الأول: التاريخ الثقافي والاجتماعي للدول والمؤسسات والأسر. وقد أكدت دراسات كثيرة أن تاريخ الدول والمؤسسات والشركات له عوائد اقتصادية ناتجة من عوائد السمعة والمكانة، وتسعى كثير منها إلى أن تستمد قوتها في السوق الاجتماعي من تاريخ نشأتها، وتضع كثير من الشركات تواريخ التأسيس وربما صور الفرع الأول في منتجاتها. وسبق أن انخفضت مبيعات مشروب كوكا كولا بشكل كبير، ثم اضطرت الشركة أن تعيد إنتاج المشروب بتصميم الزجاجة التي كانت سائدة في الستينيات، فعادت المبيعات بأفضل من المتوقع، ولم يتغير إلا حسن توظيف التاريخ؛ وذلك لأن التاريخ يرمز إلى تراكم الخبرات والثبات على المنجزات وتجاوز التقلبات والتحديات.
ويعد التاريخ من أبرز محركات الذهنية العربية، وتتحقق كثير من مكانات الأفراد الاجتماعية استناداً إلى مكانة تاريخ بلدانهم وأسرهم ومؤسساتهم وحضارتها ومنجزات أهلها، وحسن إدارة المعلومات التاريخية والاستثمار فيها يحقق عوائد رمزية تنعكس تلقائياً إلى عوائد مادية غير مباشرة.
الثاني: تسليع التاريخ، ويتمثل في نظام الحكواتية قديمًا، الذي يركز على إبهار الجمهور ولو بالإضافات والأكاذيب، بغض النظر عن التوثيق والحقيقة، والذي أعيد إنتاجه بحسن توظيف المشاهير لمعلوماتهم التاريخية وسردها للجمهور عبر وسائل التواصل، التي تجذب مشاهدات عالية، ومن ثم تحقق عوائد اقتصادية كبيرة.
وتحظى قصص التاريخ المسلية بتقدير كبير في السوق الشعبي مثل المجالس ووسائل التواصل الاجتماعية ومجالس النخب الخاصة، وينجح فيه كل من يتحدث بشكل جذاب ومتماسك، وكثير من هؤلاء يحسن الاستثمار في رواية القصص، التي تعتمد على الحبكة التي تشد انتباه الناس، حتى وإن كانت لا تخضع لمعايير المنهجية ولا الدقة وتحمل في طياتها تناقضات واضحة وحبكة رديئة وبداخلها أكاذيب مؤرخين، وذلك لأن قوانين الاستثمار في المعلومات تخضع للسوق التي تعرض عليها، سوق العامة يقبل الحبكة وما ينشر الابتسامة، ولا يقبل التحفيز على التفكير والنقد.
الثالث: الاستثمار في التاريخ، وذلك بتحويله إلى إنتاج معرفي مؤسسي، له أهداف استراتيجية تصب في خدمة الهوية الاجتماعية، وقد يستخدم في هذه الحالة لإدارة السمعة التاريخية وإعادة بناء الصورة الذهنية للشعوب والبلدان والقبائل والأسر والشخصيات والأحداث…، أو جمع المعلومات عن الشعوب والمجتمعات التي لها تأثير أو تأثر بسياسات الدولة العليا، وبناء السياسات على ضوء فهم شعوبها، وهذه السمة من مهام مراكز الفكر، وتتحقق نتائجها على المدى الطويل وبشكل غير مباشر.
وهذا النوع يحتاج إلى تدريب رفيع المستوى، وليس تدريسا أكاديميا، إذ قد يمتلك الإنسان شهادات عليا في التاريخ تتيح له فرصة التدريس أو العمل كباحث موظف، إلا أن مهارة الكتابة التاريخية والمنجزات البحثية المتميزة المبنية على أسس استثمارية، هي التي تحدد من هو المؤرخ، وليست الشهادة فحسب.
يعد العالم اليوم معملًا ضخماً لإعادة إنتاج التاريخ، حيث أكدت بعض التجارب على قدرة المجتمعات ذات الإرث الحضاري الخالد أن تمنح الشعوب تماسكاً يساعدها في تجاوز أزماتها وحروبها، وأقد أكد عالم المستقبليات المغربي المهدي المنجرة في كتاب “الحرب الحضارية الأولى” أن قيم التاريخ والحضارة لا يمكن إسقاطهما من هوية المجتمع. وفي المقابل يوجد دول لديها رأس مال تاريخي ضخم ولكنها لم تستفد منه في صياغة هويتها وبناء صورة ذهنية جديدة لها، ودول اهتمت بتاريخها وتسعى لدمجه في روح المجتمع، مما يؤكد على أهمية مراجعة مفهوم التاريخ وفق ما يعزز الهوية ويحقق مكاسب رمزية ويمنح الثقة الشعبية لتواريخها وتقدير منجزات اسلافها.
وقد تنامى الاهتمام العالمي بالتاريخ المحلي بوصفه أحد بوابات الهوية الاجتماعية، وتؤكد مدرسة كوبنهاجن لدراسات الأمن والسلام أن الدين واللغة والعادات والتقاليد الاجتماعية والموروث الشعبي والفلكلور لها أهمية قصوى في التماسك الاجتماعي، وينبغي المحافظة عليها بوصفها هوية المجتمع التي تتعرض للمهددات المستمرة، ومن ثم فهي تصنيف ضمن الأمن الاجتماعي. وإذا كان تاريخ المجتمع يمتلك هذا العمق وهذه الأهمية من مستويات الهوية والأمن الاجتماعي، فإن التقليل من قيمة التاريخ يكبد المجتمع خسائر رمزية في المكانة والهوية والانتماء وفي الضبط الاجتماعي المستمد من الهوية والانتماء.

Exit mobile version