دفاعا عن مريم بوزيد
مبروك بوطقوقة
يرتبط تاريخ الجزائر بالكثير من النّسوة اللّاتي أصبحن مضرباً للأمثال في الشجاعة والبطولة ابتداﺀ من “الكاهنة”، مرورا بـ “للا نسومر”، وصولا إلى جميلة بوحيرد وحسيبة بن بوعلي
وغيرهن.. هؤلاء النسوة أصبحن أيقونة ومصدرا للإلهام لكل الأحرار في العالم.
إلى جانب هؤلاء النسوة تنتشر آلاف البطلات المنسيات، تمتلئ بهن أرض الجزائر، نساء يواجهن الحياة يوميا بشجاعة وقوة، من أجل إثبات وجودهن وتأكيد ذواتهن في مجتمع بطريركي لا تمثل الأنثى عنده إلا متاعا ولا تشكل المرأة فيه إلا تابعا.
من هؤلاء النسوة امرأة من طراز خاص، أفنت شبابها في خدمة البحث العلمي، فقوبلت بالنكران. تعرضت للتشويه والاتهامات وللضغوط لكنها أبت أن تتراجع عن قناعتها. أثبتت الأيام أنها من طينة للا نسومر وبوحيرد. هي مريم بوزيد سبابو التي تشتغل كباحثة في”المركز الوطني للبحوث”، مختصة بعصور ما قبل التّاريخ وعلم الإنسان، بالجزائر العاصمة.
تمتلئ ذاكرتها بعشرات الحكايات الممتعة والمتعبة في آن واحد. في الجامعة كانت طالبة طموحة وملتزمة بقضايا الأمة العربية، تقول: “كنت متحمسة للقضية الفلسطينية وأشارك في مختلف التظاهرات، وكنت أخرج في التظاهرات مثل يوم الأرض للتعبير عن التضامن المطلق مع القضية وضد المحتل الاسرائيلي”. درست علم الاجتماع الثقافي في جامعة الجزائر واكتشفت الأنثروبولوجيا وتعلمت مبادئها على يد أساتذة كبار. تقول: “كنت أطالع دائما عن ذلك العلم الشيّق”. وجدت في الكتب وسيلة تروي شغفها المجنون بهذا العلم المجهول. ونتيجة لتميزها، تم توظيفها مباشرة بعد تخرّجها باحثة بالمركز الذي تعمل به إلى اليوم، وكان ذلك منذ أكثر من عشرين سنة.
عشق الرجل الأزرق
في مرحلة الماجستير، قرأت عن شعب الطوارق الذين يستوطنون الصحراء الكبرى، واسترعى انتباهها مكانة النساء الطارقيات وأشكال السلطات في تلك المجتمعات. وفي الحين نشأ لديها حب عميق واحترام كبير لمجتمع الطوارق وكل ما يتعلق به. ومثل كل الأنثروبولوجيات اللواتي حلمن بالجزر الغريبة النائية والشعوب البعيدة الساحرة، حلمت بالرحلة إلى الصحراء والتقاء الرجال الزرق وأتيحت لها الفرصة أثناء عقد “العشرية السوداء” (التسعينيات في الجزائر التي غرقت في الدماء) حين قام المركز الذي تعمل فيه بتحويل ميادين البحث لمناطق جديدة بعدما جعلت الظروف الأمنية من الشمال مكانا غير آمن للبحاثة. وهكذا تحقق حلمها وسنحت لها فرصة الانتقال إلى الصحراء سنة 1995.
وإلى اليوم تتذكر بحنين كبير تلك الأيام الخوالي فتقول: “كنت باحثة شابة متحمسة لا تخشى أيّ شيء، كنت سريعة التّفاعل مع مجتمع النساء الذي استقبلني بسهولة بينما كان الرجال يناورون مع الأنثى لا مع الباحثة، ماذا تفعل هذه المرأة وحيدة هنا؟ لم يفهموا دواعي وجودي ولم أكن وقتها مرغمة لشرح ذلك لكلّ من هبّ ودبّ.. نعتوني بكل الصفات، في أحاديثهم الحميمة، وكان الأمر لا يعنيني، لأنّ كلّ المجتمعات كانت تستقبل الباحثات بتحفظ وانتهاك في الوقت نفسه.. وكان الجميع يحرص على مقابلتي عند مكان إقامتي عند الأسرة التي كنت أسكن عندها، قبل أن أعرف زوجي.. تواصلت مع أشخاص في قمة الهرم كما مع البقية دون استثناء…”.
ورغم الصعوبات والعراقيل العديدة، صمدت مريم بعيدا عن أهلها وعن مدينتها، في ظروف صعبة ومناخ قاس. ويشاء القدر أن يتضاعف حبها للطوارق بحب آخر، شخصي، لـ “رجل أزرق” تعرفت عليه حينما كانت تعمل بحثياً على احتفالات عاشوراء سبيبه سنة 1997، ليتم الزواج عام 1999. وهكذا تحولت مريم بحكم الارتباط ذاك إلى طارقية، إلى جزء من ذلك المجتمع الذي أحبته وأمضت أكثر من عشرين سنة في الاشتغال الأنثروبولوجي على ثقافته، قدمت خلالها رسالة دكتوراه حول دور الغناء والموسيقى والشعر في تشكيل عناصر الهويّة لدى سكان الآزجر. وتوجت مسيرتها بصدور ثلاث دراسات هامة كان آخرها في العام 2013 بكتاب “نّن كيل سبّيبه” أو ما يقوله ناس سبّيبه.. معنى شعيرة سبّيبه في واحة جانت، وهو الكتاب الذي يتعرض لظاهرة شعيرة سبّيبه، أو احتفالات عاشوراء التي تميز المنطقة، والتي صُنّفت أخيرا (مع نهاية تشرين الثاني/نوفمبر 2014) تراثا عالميا من طرف اليونسكو.
معاناة أنثروبولوجية
في الصيف الماضي رفعت مجموعة من الأشخاص تطلق على نفسها “أعيان وشباب حي الميهان”، بمدينة جانت بولاية ايليزي، رسالة إلى رئيس الوزراء الجزائري، وأخرى رفعها “المجتمع المدني” من مختلف الفئات للسلطات العليا للبلاد في صورة لائحة تنديد واستنكار، ضد الباحثة مريم بو زيد مطالبين فيه بوقف الكتاب من التداول وسحبه من المكتبات وفتح تحقيق ضد مؤلفته بحجة احتوائه على إساءة متعمدة لأهل مدينة جانت عامة، وعرش “تغورفيت” بصفة خاصة، بتعمد الطعن والقذف في الأصول، والمس بشرف الأجداد والأمهات بصورة مباشرة، بذريعة البحث العلمي. وعلى الفور اتخذت وزارة الثقافة قرارا بمصادرة الكتاب وسحبه من المكتبات، فيما طالبت إدارة المركز الباحثة بحذف المقاطع غير المرغوب فيها من الكتاب، وتوجيه رسالة اعتذار للأعيان المحتجّين.
يتعلق الأمر بما ورد في الصفحة 67 من الكتاب وهو “أنّ الظروف الاستعمارية دفعت نساء من جانت إلى الزواج من فرنسيين طلبا للمأكل والملبس، وأدّى ببعضهن إلى ممارسة الدعارة”. وكذلك بما ورد في الصفحة 137 حول أسطورة تفسير ظاهرة القناع التارڤي التي استقتها الباحثة من فرضيات أصل اللثام، والتي فحواها “أنّه في زمن النبي موسى، حبلت أختان بتدخّل من الشياطين، وكلّ واحدة منهما وضعت طفلا، أحدهما كان جدّ البربر والآخر جدّ التوارڤ”. وطبعا تم اقتطاع هذه العبارات من سياقها العام في الكتاب وتحويرها عن المعنى الحقيقي لها، لأن الهدف من الرواية الأولى هو كشف المعاناة التي تسبب فيها المستعمر للأهالي، والظواهر السلبية التي كان سببا في ظهورها، أما الأسطورة فهي حسب الدراسات الأنثروبولوجيّة أسطورة تفسيرية خيالية تضعها المجتمعات في مراحلها البدائية الأولى بهدف شرح ظاهرة ما، لذلك لا يمكن اعتبارها تاريخا. وقد نبع سوء الفهم لما كتبته الباحثة انطلاقا من الحساسية المفرطة لشعوبنا تجاه ماضيها، والتي تصل إلى درجة التقديس، وهو ما جعل منه مجموعة من التابوهات المتراكمة تحت مسميات عديدة، لأنها مجتمعات تدخل حاضرها انطلاقا من ماضيها بدل أن تنظر لماضيها انطلاقا من حاضرها، وتجعل من تاريخها ملاذا آمنا وتعويضا عادلا لحاضرها المؤلم ومستقبلها الغامض.
تتأسف الباحثة بمرارة: “لا احترام لامرأة باحثة ولا ينظر لها ندا لند.. إن جهدي صودر من جهات رسمية في وزارة الثقافة.. في الواقع تمت محاكمة الكتاب محاكمةً همجية، وخارج أطر البحث العلمي. لماذا أثيرت الضجة على الكتاب في تشرين الثاني/ نوفمبر 2014 حين صنفت اليونسكو هذه الشعيرة في التراث العالمي، علما أنه صدر ووزع في معرضين دوليين للكتاب منذ 2013؟”.
كيف لوزارة الثقافة التي يفترض بها أن تسهر على حرية التعبير أن تصادر كتابا وافق على نشره المجلس العلمي للمركز المشكل من أساتذة في التخصص؟ ألم يكن من الأجدر مناقشة الأمر مع الاختصاصيين؟ هل أصبحت حرية البحث وجديته مرهونة بضغط الجماعات أيا كان نوعها أو شكلها؟ وكيف يمكن للباحث أن يتناول قضايا مجتمعه وتاريخه ومشاكله تناولا علميا بعيدا عن الوصايات والتدخلات، وبغض النظر عن كل الاعتبارات والحساسيات؟ وهل يستقيم العمل الجامعي من دون طرح كل التساؤلات ومناقشة كل الفرضيات واستكشاف كل الإجابات دون مغالطات ولا محاباة؟ هذه الحرية هي السبيل لتعرية ذواتنا البائسة وإعادة اكتشاف هوياتنا الغائبة، بدل التقوقع خلف خطابات تتمركز حولها وتضخمها وتمجدها استجابة لتوجهات إيديولوجية ومصالح سياسية.
تؤكد مريم بوزيد: “لن أعتذر، لأنّ الأمر لم يعد يخصني وحدي بعد التضامن القوي والكتابات الكثيرة التي أرغمت الوزارة على تعديل موقفها، ولو أن هذا جاء متأخرا وملتويا”.